أختفت الأشجار والشجيرات وبتنا بعيداً عن حيفا

بقلم: علي بدوان

ستوديو كاتس.webp
  • بقلم علي بدوان

جائت عائلتنا من ذلك العالم السُرمدي اللامنتهي وقد أعطتنا فلسطين قبل القدوم القسري للجزء الثاني من وطننا السوري جينة من جيناتها. آخذنا منها الهواء والماء والتربة والرائحة الشذيّة, تخالها المُسكُ والعنبر والعقيق. وأعطتنا سر الوجود وإكسير الحياة والبلسم الشافي في مأزقٍ إزدادت عدداً وما نَقُصت عبر مسيرتنا من يوم النكبة والى الآن، وقد توّجت تلك الأزمات والنكبات بمحنة مخيم اليرموك غير المسبوقة في تاريخ الشتات الفلسطيني بعد النكبة.

نحن من عائلة فلسطين، العائلة الكبيرة التي تَجمَع كل أهل فلسطين، عائلة من تلك الشجرة التي أُمرَ الأنبياء بعدم الإقتراب منها, لكن البعض يعمل ومازال من أجل قتلها بالحال، بالجفاف، واليباس، والتنكيل، ومع هذا فما زالت رغم الشتات والهيام في القفار وعلى قوس المعمورة وبحارها المالحة ومحيطاتها الهائجة، ذاتِ أوراقٍ خضراءٍ يانعةٍ.

تَفَتَحَت بواكير الوعي عندي، وعند أجيالنا في مخيم اليرموك على فجيعة، وعلى عشقٍ لايتنهي لوطنٍ في خيالنا السُرمدي أسمه فلسطين. وكَتَبَ القَدَرُ لنا سيرة مُكتظة من التداخلات والتشابكات، جعلت من أسرة والدي، أسرةً واسعة التوزع في أرجاء المعمورة، بعد وقوع النكبة.

في الثاني والعشرين من أبريل/نيسان 1948، سَقَطَت مدينة حيفا بيد مجموعات الهاغاناه والبالماخ بعد العملية العسكرية التي أُطلِقَ عليها مُسمى (المقص) فَتم تهجير مُعظَمِ سُكانها.

خَرَجَ سكان حيفا ومواطنوها، من الميناء على متن القوارب والسفن المُتهالكة الأركان، باتجاه صيدا وصور وبيروت، وخَرَجَ آخرون براً، نحو القدس وطولكرم ونابلس وبعض قرى الضفة الغربية، بينما غادر آخرون نحو سوريا والأردن.

كانت عائلتنا، ووالدي المُشرف في سكة حديد حيفا، وزوجته، وأسرتهما الصغيرة المكوّنة من الأبناء الثلاثة: رحاب، وعبد الرحمن، والرضيع محمد، واحدة من تلك العائلات الفلسطينية التي خَرَجَت براً من حيفا بعد أن غادرت منزلها في شارع الناصرة، وادي الصليب، وعلى مقربة من (وادي النسناس) حيث ما تزال إلى الآن تُقيم أسرة والدتي، بعد لجوءٍ مؤقت إلى لبنان، لكنهم استطاعوا التسلل والعودة إلى حيفا عام 1950 وتثبيت بقائهم بحكم بقاء جدي قاسم ديب عابدي في حيفا التي لم يخرج منها أبداً.

في ذلك اليوم الربيعي 22 أبريل/نيسان 1948، غادرت عائلتنا الصغيرة، تلك العائلة الفلسطينية مدينة حيفا. فاختفت وراءها في مسيرة لجوئها المدينة وأحياء وادي النسناس ووادي الصليب، وشارع الناصرة، وساحة الجرينة، وساحة الخمرة، وجبل الكرمل، والبحر، أختفت الأشجار والشجيرات المُنتشرة عشوائياً في تلك التلال وعلى نهر المُقطّع وصولاً الى قرية (عتيل) قضاء طولكرم حيث عدد من أعمامي وعائلاتهم، وابناء عمومة والدي وعائلاتهم، فاقام والدي في بلدة (عنبتا) المجاورة على أمل العودة لحيفا، وبعدها استطلع امكانية الإقامة في بلدة (عزون) قرب قليلية حيث ابناء أعمامه، لكن شح المياه فيها، وحياته ومعيشته في المدينة، دفعته للقبول بخيارات عمي عبد الكريم وزوجته الدمشقية بالتوجه الى دمشق، ومعهم عمي (أنيس) غير المتزوج في حينها، وعمتي العزباء (فاطمة) والتي تزوجت لاحقاً عام 1956 ابن عمها عبد القادر واقاما في عمان بالأردن، اضافة لخال والدي المرحوم الشيخ عبد الله عبد الرحمن الذي خرج من حيفا وله من العمر نحو الــ 75 عاماً.

وعند الخروج من حيفا، تقول والدتي، إنّهم لم يحملوا شيئًا من متاعهم حين خرجوا من حيفا، وإنّ عمي (عبد الكريم) زجرها حين حاولت أخذ بعض مقتنياتها الثمينة، قائلًا لها: "أسبوع فقط وستعودين إلى دارك".

إذاً، كانت تلك الأسرة تَعتَقِد، وكذا الحال مُعظم اللاجئين الفلسطينيين، بأن رحلة اللجوء القسرية ستدوم لأسابيع قليلة فقط، بعد أن حَطَت الأقدار بتلك العائلة على أرض دمشق في مأوى للاجئين الفلسطينيين في جامع الصابونية القديم والمهجور، في حي الشاغور الدمشقي، ومعها عدة عشرات من عائلات مدينة حيفا، في إقامة امتدت لنحو خمس سنواتٍ.وتم لاحقاً نقل تلك العائلات إلى الأرض التي أمّنتها الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين ووكالة (أونروا)، وباتت تُعرف تلك المنطقة بـمخيم اليرموك، حيث اطلق عليها في البداية مُسمى مخيم الميدان، الى أن زار هذا التجمع مفتي فلسطين المرحوم محمد أمين الحسيني عام 1956 واطلق عليه مُسمى مخيم اليرموك تيمناً بمعركة اليرموك التي قادها الصحابي خالد بن الوليد وانتصر فيها.

"الصورة لبعض اسرتنا واسرة والدتي : جدتي وخالتيي. في لقطة تذكارية في إستديو كاتس الشهير بحيفا"

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت