- فهد سليمان
- نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
■ مقدمة
1- السياسة الخارجية الأميركية،
بين الإنعزال والتدخل ... 1783-1947
2- الحرب الباردة ... 1947-1991
حزيران (يونيو) 2022
مقدمة
■ القرن العشرون (ق20) هو قرن الحروب بلا منازع، لا تضاهيه بهذه الصفة أيٍ من المراحل التي إجتازها الإجتماع البشري منذ بداية التاريخ الحديث قبل 500 عام.
شهد ق 20 ثلاث حروب كونية: الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، الحرب العالمية الثانية (1939-1945) والحرب الباردة (1947-1991)، سبقها وتبعها عشرات الحروب المحلية والإقليمية، التي لم ينقطع سيلها قط.
■ كانت الحروب الكونية تُختتم بمقولة «الحرب التي تنهي كل الحروب»، وبادعاء أنها «ستقيم سلاماً مستداماً، ما بعده حرب». غير أنه سرعان ما كان يتبيَّن أن هذه التوقعات المتفائلة لم تكن في مكانها، فحقائق الحياة أثبتت أن «ق 20 هو قرن الحروب المتواصلة، التي ما بعدها سلام».
هذا ما أكدته نتائج الحروب الكونية الثلاث، بما فيه «الحرب الباردة»، التي ما أن إنتهت، حتى إفتتح الطرف المنتصر فيها، أي الولايات المتحدة، سلسلة من الحروب، مازالت مشتعلة حتى الربع الأول من ق 21، وهي تعد بالمزيد.
■ عنوان هذا الكراس: «حرب المئة عام، 1947- ...»، الذي يلحظ تاريخ بداية هذه الحرب مع بداية الحرب الباردة، يؤشر إلى أن الأخيرة لم تكن سوى الفصل الأول من حرب مفتوحة على الزمن، تتحمل مسؤولية إطلاقها، وتوفير شروط إدامتها - بشكل رئيسي - الولايات المتحدة، ما جعلنا نعتمد مدخلاً لمجمل البحث، المادة بعنوان: «السياسة الخارجية الأميركية، بين الإنعزال والتدخل... من الإستقلال وحتى بداية الحرب الباردة» لغرض التعرف على المحطات التي كان لا بد لواشنطن أن تجتازها، قبل أن ترسو على وجهة السياسة التدخلية، أي الإمبريالية، باعتبارها سمة ملازمة للسياسة الخارجية الأميركية.
... ويبقى تحت الإعداد، فصل أو أكثر يتناول حروب ما بعد إنتهاء الحرب الباردة■
المحرر
مدخل
السياسة الخارجية الأميركية.. بين الإنعزال والتدخل
من الإستقلال وحتى بداية الحرب الباردة
1783-1947
1- في أصول نزعة/ سياسة الإنعزال ... 1783-1829
2- من الإنعزال إلى التدخل ... 1897-1921
3- الإنكفاء النسبي ... 1921-1933
4- الخروج النهائي من الإنعزال ... 1933-1945
حزيران (يونيو) 2020
)1)
في أصول نزعة/ سياسة الإنعزال
1783-1829([1])
1-■ منذ أن نالت إستقلالها عام 1783 وحتى نهاية القرن التاسع عشر(ق 19)، أي على امتداد ما يتجاوز المئة عام بقليل، إعتمدت الولايات المتحدة سياسة خارجية تقوم على عدم التدخل في شئون العالم (خارج الأميركيتين)، وهو ما سمي بسياسة الإنعزال- Isolationisme، تمييزاً لها عن سياسة التدخل، أو السياسة التدخلية- Interventionisme.
■ أصل نزعة الإنعزال هذه، نجدها موثقة في «رسالة الوداع» التي وجهها أول رئيس أميركي، جورج واشنطن(1789-1797)– George Washington إلى الشعب الأميركي، قبل إنتهاء ولايته بشهور(19/9/1796)، أوصى فيها باعتماد سياسة خارجية تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأوروبا، وسياساتها عموماً، وأكد على عدم الإنخراط في تحالفات إلا عند الضرورة القصوى، وتكون معلقة – في الوقت نفسه – على نية مغادرتها بعد إنقضاء الظرف الذي أملاها. وقد عنى هذا، بحكم الموقع الذي كانت تحتله أوروبا (ومن ضمنها روسيا) في قيادة العالم بلا مُنازع، وما انفكت تُرسخه حتى نهاية القرن التاسع عشر، أن المُخاطب من خلال أوروبا والمقصود بهذا الموقف هو العالم القديم، أي العالم الفاعل في الإقتصاد، والأمن، والعلوم، والتكنولوجيا، والسياسة الدولية عموماً.
■ من جهته، أكد توماس جيفرسون (1801-1809)– Thomas Jefferson، الرئيس الثالث، هذا المنحى في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الخطاب الإفتتاحي لولايته الأولى (4/3/1801)، عندما شكر الأقدار التي شاءت أن تحمي أميركا، بـ «جدار» المحيط الأطلسي، من فوضى أوروبا واضطراباتها، مشيراً إلى أن هدف سياسته هو إحقاق السلام وازدهار التجارة وتوطيد الصداقة مع جميع الأمم، دون الدخول بتعقيدات التحالفات مع القوى الأوروبية وصراعاتها- entangling alliances.
■ الرئيس الخامس، جيمس مونرو(1817-1825)- James Monroe، هو أول من عمم عقيدة إنعزال الولايات المتحدة عن أوروبا، على أميركا اللاتينية بأسرها، لقطع الطريق على مساعي إسبانيا بدعم من دول «التحالف المقدس» (روسيا، النمسا، بروسيا) وفرنسا لاستعادة سيطرتها الإستعمارية على الدول التي إنعتقت منها (الأرجنتين، تشيلي، كولومبيا، المكسيك)، فاعترف بها دولاً مستقلة، وألحق إعترافه في 2/12/1823 بإعلان «عقيدة مونرو» تحت شعار «أميركا للأميركيين»، تضمنت توجيه إنذار إلى القوى الأوروبية (بما فيه روسيا) مفاده إعتبار الولايات المتحدة أي عمل يرمي إلى إعادة السيطرة الإستعمارية على دول أنجزت إستقلالها في أميركا اللاتينية، أو الإستيلاء على مستعمرات جديدة فيها، تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة، التي– بالمقابل- لن تتدخل في الشؤون الأوروبية، بما فيه مستعمراتها القائمة في الكاريبي وجنوب أميركا.
■ إذن، تبلورت عقيدة إنعزال أميركا عن العالم القديم، على يد ثلاثة رؤساء من نسق «الآباء المؤسسين» (الستة)، في سياقات مفصلية: واشنطن-1796؛ جيفرسون-1801؛ مونرو-1823؛ وانتقلت هذه العقيدة السياسية من التخصيص (الولايات المتحدة) إلى التعميم (القارة اللاتينية)، واضعة نصب الأعين حماية إستقلال الدول الناشئة في اللاتينية من عودة الإستعمار القديم إليها، كما وحمايتها من غواية إقحام نفسها في صراعات أوروبا الداخلية، وتناقضاتها.
2-■ عقيدة إنعزال العالم الجديد عن العالم القديم باتجاهيها: لا تدخل من العالم في شؤون القارة، ولا تدخل من القارة في شؤون العالم، إنطلقت أيضاً من أولوية بناء الذات في قارة بكر ذات كثافة سكانية ضعيفة، وبمساحات شاسعة غير مسكونة أصلاً، قارة تختزن من الخيرات ما يفيض بأضعاف مضاعفة عن إحتياجات سكانها، و«زاخرة بالمناطق الخصبة الصالحة لاستيعاب الآلاف من الأجيال القادمة» (جيفرسون في الخطاب الإفتتاحي لولايته الأولى)؛ وأخيراً، قارة تقترب مساحتها (42,8 مليون كم2 تساوي 31% من مساحة اليابسة في العالم) من مساحة آسيا – القارة الأم (44,4 مليون كم2 تساوي 32,6% من مساحة اليابسة في العالم).
■ إذا كان ما تقدم يندرج في إطار أولوية عملية «بناء الأمم» بمنأى عن التدخلات الخارجية، فهو ينطبق بشكل خاص على الولايات المتحدة التي تشكلت، بداية، من 13 مستعمرة تحوَّلت فيما بعد إلى 16 ولاية من أصل 50 ولاية رست عليها بنية الولايات المتحدة حالياً في سياق عملية تركيم تاريخية، لا نستطيع الجزم بأن فصولها قد إستكملت بعد.
في القرن التاسع عشر واصلت الولايات المتحدة توسعها بوتيرة مذهلة، بطرق ووسائل شتّى، جمعت ما بين شراء مناطق شاسعة من دول عظمى (لويزيانا عام 1803 من فرنسا، ما أدى إلى مضاعفة مساحة الولايات المتحدة في حينها؛ ألاسكا عام 1867 من روسيا، بمساحة 1,7 مليون كم2 تساوي 17% من المساحة الحالية للولايات المتحدة)؛ وانتزاع مناطق بالحرب (من المكسيك بين 1846-1848، ومن إسبانيا– 1898)؛ وتنازل دول بعينها (بريطانيا، إسبانيا، المكسيك) بطرق متعددة عن مناطق؛ هذا دون أن ننسى إستيطان وضم أراضي شاسعة تعود إلى السكان الأصليين، ما أدى إلى طردهم، والتنكيل بهم، وحصرهم بالنتيجة في معازل...
وبفعل كل هذا، إستمرت الولايات المتحدة بالتمدد طيلة ق 19، وآخر ما ضمته إليها كانت جزر هاواي في العام 1898 (التي تحوَّلت، ومعها ألاسكا عام 1959، إلى الولايتين الرقم 49 و50 من الإتحاد).
■ بناء الولايات المتحدة كدولة وأمة إستدعى إجتراح منظومة فكرية، قيمية، أيديولوجية، بمرجعية دينية طهرانية متزمتة، تضطلع بتسويغ مشروع توسعي إستيطاني بأبواب مُشرَّعة على كل الإتجاهات، مستوعبة كل الجرائم التي كان يرتكبها. من هنا، نشأ قاموس مصطلحي خاص بالحالة الأميركية، إستخدم صيغ على غرار: «الإستثنائية الأميركية»- Exceptionalisme التي تعني إحتلال الولايات المتحدة مكانة خاصة ومتميّزة بين سائر الأمم؛ «الأمة التي لا يمكن الإستغناء عنها»- Indispensable Nation؛ أي باختصار: الأمة التي تحمل للعالم رسالة القيم الإنسانية الراسخة التي تنطبق على جميع المجتمعات: الحرية، الديمقراطية، وحقوق الإنسان...؛ ومن هنا الإستعارة الرائجة، إستعارة «المدينة (المضيئة) على جبل»، الخ..
ولعل «عقيدة التكليف من القدر»، أو «عقيدة المصير البيِّن»- Manifest Destiny، تختزل معظم هذه المفاهيم والمصطلحات، وتُجملها بصيغة التكليف الرباني للولايات المتحدة بالتوسع على كامل مساحة أميركا الشمالية، وهي العقيدة التي احتلت مكان الصدارة في التعبئة الأيديولوجية على إمتداد ق 19، بوظيفة حفز التوسع غرباً نحو المحيط الهاديء. الأمر الذي حصل.
■ توازى الانعزال كعقيدة سياسية مع أيديولوجيا رسولية مسيانية، تُسَوِّغ إستخدام العنف، وتبرر منطق القوة وتسنده بمنطق الحق الآتي من علٍ. لذا، ومع تنامي قوة الولايات المتحدة، لم تكن سوى مسألة وقت، حتى تنتقل سياسة العنف بمنطق القوة، من دائرة الولايات المتحدة في سياق مشروع بناء الأمة والدولة، إلى دائرة الجوار القريب، ما أضفى على مقولة «أميركا للأميركيين»، التي عَنَت بداية، حماية دول القارة اللاتينية من الاستعمار القديم، أضفى عليها تدريجياً معنى «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة. وهذا ما وقع، عندما بدأت السياسة الخارجية الأميركية في نهاية ق 19، تنتقل من الإنعزال إلى التدخل، فاكتست السمة التي آلت إليها أوضاعها موضوعياً، أي السمة الإمبريالية■
(2)
من الإنعزال إلى التدخل
1897-1921
1-■ مع رئاسة وليم ماكنلي (1897-1901)- William Mckinley، وبالتوازي مع تعاظم قوتها الإقتصادية، وبناء أسطول حربي كبير لحماية الأمن القومي للبلاد والتجارة الخارجية، تحوَّلت الولايات المتحدة إلى قوة إمبريالية منافسة لنظيراتها الأخرى في العالم، قوة باحثة عن أسواق جديدة لتصريف فوائضها الزراعية والصناعية. وفي هذا الإطار، تمخضت الحرب الأميركية – الإسبانية (1898) عن هزيمة الأخيرة، ما نجم عنه إستيلاء الولايات المتحدة على جزر هاواي + جزيرة غوام + الفيليبين (منصة الإنطلاق نحو السوق الصينية العملاقة) في الميحط الهاديء؛ إلى جانب بورتوريكو في البحر الكاريبي، ذات الموقع الإستراتيجي المثالي لحماية مشروع قناة بنما قيد التحضير.
■ بحربها ضد إسبانيا، إفتتحت الولايات المتحدة مرحلة دخولها القوي إلى حلبة السياسة الدولية، على قدم المساواة مع القوى العظمى في ذلك الحين، وتحوَّلت البحرية الأميركية (الأسطول الحربي) إلى واسطة قوة وسيطرة من الطراز الأول، فبات مركز القرار السياسي في واشنطن يجمع، بين يديه، مقومات القوة ووسائطها في آن، لتنفيذ سياسة إمبريالية تدخلية فاعلة، أي: مقومات القوة التي تشمل الإقتصاد، والكتلة السكانية الوازنة، والمساحة الممتدة، والموقع الجيوستراتيجي المتميّز، المطل على المحيطين؛ كما ووسائل القوة القائمة على ميزة القدرة على الإنتشار العسكري السريع بواسطة البحرية، على قوس واسع في أرجاء العالم.
2-■ إستمرت هذه السياسة بدينامية أعلى مع رئاسة تيودور روزڤلت (1901-1909)- Theodore Roosvelt صاحب «عقيدة العصا الغليظة»، التي لخصها كما يلي: «تكلم بنعومة، واحمل عصا غليظة، وستصل بعيداً في مسعاك»، حيث العصا الغليظة تعني البحرية، التي اعتبر روزڤلت مواصلة بنائها وتقويتها إحدى ركيزتي السياسة الخارجية لبلاده (إلى جانب «عقيدة مونرو»)، كما ورد في خطابه أمام الكونغرس في بداية ولايته (12/1901)، ما جعل الولايات المتحدة في نهاية عهده (1909) تحتل موقع القوة البحرية الثانية في العالم (بعد بريطانيا العظمى)، كما جعلها تصعد إلى مصاف القوة العالمية.
■ «إمبريالية» روزڤلت قامت على ضمان التفوق العسكري الأميركي في حوض الكاريبي، ما استوجب إضافة ملحق - Corollary إلى «عقيدة مونرو»، في كانون الأول(ديسمبر) 1904، نص على تولي واشنطن وظائف أمنية (شُرَطية) في الفضاء الكاريبي، تتضمن المراقبة على سلوك الممسكين بالسلطة في دوله؛ ما ترتب عليه – بالنتيجة – إعتماد سياسة تدخلية منفلتة من عقالها، نذكر من ترجماتها: إنشاء قاعدة غوانتنامو البحرية في كوبا (1903)؛ أعقبه بعد سنوات الإنزال البحري على شواطئها (1906)؛ فرض الرقابة الجمركية على جمهورية الدومينيكان (1905)...؛ دون أن ننسى ما اقتضاه شق مشروع قناة بنما (1904-1914) من دعم لحركة إنفصالية تم استحضارها على عجل، إنشقت بالحرب عن كولومبيا (1903)، وأسست دولة جديدة (بنما) في أميركا الوسطى.
■ كان روزڤلت ينطلق من أن الإلتزام بتطبيق «عقيدة مونرو»، يمر عبر توفير القوة اللازمة لذلك، أي على ميزان القوى الذي يخدمها. من هنا، موقعية البحرية في سياسته كواسطة ردع للنزوع الأوروبي التدخلي في شئون القارة، الذي تعزز في أواخر ق 19 بانضمام ألمانيا القيصرية إليه، ألمانيا الباحثة لنفسها عن «مكان تحت الشمس» (أي عن مستعمرات في آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية).
وعلى هذه الخلفية، إشتق روزڤلت من عقيدة حماية دول القارة من مطامع أوروبا، التبرير لسياسته التدخلية، ما عنى أن «عقيدة مونرو» ينبغي – في المقام الأول – أن تخدم مصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة، قافزاً عن واقع، ومتجاهلاً حقيقة، أن السيطرة الأميركية على دول أميركا الوسطى والكاريبي، كانت مكروهة ومرفوضة من مواطنيها، بقدر ما كانت مكروهة ومرفوضة السيطرة الأوروبية.
3-■ إثر وصوله إلى البيت الأبيض بعد انقضاء ولاية روزڤلت، إعتمد وليم تافت (1909-1913)- William Taft سياسة شعارها «دبلوماسية الدولار» القائمة على توظيف الرأسمال الأميركي في التنمية الإقتصادية، في خدمة مصالح الولايات المتحدة في العالم. غير أن هذه السياسة – بمضمون إمبريالية الدولار– لم تنجح في الصين، حيث اصطدمت بمصالح الدول الإستعمارية الأخرى، وأتت الثورة الصينية (1911) فيما بعد، لكي تنهي المشاريع الإقتصادية والإستثمارية الأميركية.
■ أما في أميركا الوسطى، حيث تحول هذا المسعى إلى شعار «الدولار بدلاً من المدفع» (الترجمة الحرفية للشعار، هي: «الإستعاضة بالدولارات عن قذائف المدافع»)، فقد قادت التطورات في نيكاراغوا، في نهاية المطاف، إلى الزج بقوات المارينز (1912)؛ وكذا الأمر في هوندوراس، وفي جمهورية الدومينيكان؛ لا بل – أكثر من ذلك – فقد ساهمت هذه السياسة – إلى جانب عوامل أخرى - بتفجير ثورة إجتماعية في المكسيك (1910). وبالمحصلة، وإن عززت هذه السياسة سيطرة الولايات المتحدة، وأكدت نفوذها في أميركا الوسطى، فإنها – بالمقابل – ألحقت خسائر فادحة بهيبتها، وأدت إلى إهتزاز الثقة فيها.
4-■ إبتعد وودرو ويلسون (1913-1921)- Woodrow Wilson عن سياسة سلفه تافت، ومحورها الإمبريالية بواسطة دبلوماسية الدولار، لصالح سياسة أخرى مستوحاة من مباديء الديمقراطية، وطبقها بالفعل عندما رفض الإعتراف بحكومة الإنقلاب العسكري في المكسيك، وساند بالسلاح المعارضة الإصلاحية، ليجد نفسه متورطاً في حرب أهلية إستغرقت أكثر من سنتين ونصف السنة (4/1914-12/1916)، قبل أن يتمكن من سحب قواته والخروج منها(!).
■ ويبقى الحدث الأهم، هو مشاركة الولايات المتحدة، بدءاً من 6/4/1917، في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي شكلت أوروبا مسرح عملياتها الأهم، أي بعد أكثر من سنتين ونصف السنة على إندلاعها. أما السبب المباشر (من بين أسباب أخرى، يضيق المجال عن ذكرها) للدخول الأميركي في الحرب، التي جعلت واشنطن تغادر «حيادها» المعلن، فهو مواصلة ألمانيا إغراق السفن المدنية المتوجهة إلى بريطانيا، ما ألحق خسائر فادحة بالمدنيين، ومن ضمنهم ذوو التابعية الأميركية، الأمر الذي تسبب بتوليد رأي عام معادٍ لألمانيا، حيَّد، أو إحتوى – بأقله - المزاج العام المعارض للمشاركة في الحرب الدائرة رحاها في أوروبا على خلفية النأي بالنفس عن الصراعات الأوروبية المتأصلة عميقاً في الوعي الأميركي، لا بل في العقيدة السياسية الحاكمة، التي تعود بجذورها إلى «وصايا» الآباء المؤسسين (واشنطن، جيفرسون، مونرو،..)، كما سبقت الإشارة.
■ بعد أن إعتمد ويلسون شعار «السلام بدون نصر» مع إندلاع الحرب، في إشارة إلى تجنب جني المكاسب الإمبريالية الإقليمية، التي يؤسس فيها النصر العسكري المحقق لحرب لاحقة (كما أسست حرب 1870 بين فرنسا وألمانيا لحرب 1914-1918)؛ وبعد أن طالب الإكتفاء بايصال
ألمانيا إلى منعرج إلتماس وقف إطلاق النار (Armistice)، أي ما قبل حد الإستسلام (Capitulation)؛ إعتبر ويلسون أن الولايات المتحدة تدخل الحرب من موقع الشريك لدول «التوافق» (Entente)، وليس من موقع الحليف، لمعرفته بالأهداف التوسعية الإمبريالية التي يسعون إليها.
■ في 8/1/1918، أعلن ويلسون النقاط الـ 14 الشهيرة، المسماة أيضاً «عقيدة ويلسون»، ومن بين أهم نقاطها الحد من الأسلحة، ونبذ الدبلوماسية السرية، وحق تقرير المصير للشعوب، وإقامة «عصبة الأمم» لتجنب الحروب اللاحقة، وضمان السلام العالمي.
في 3/10/1918 طلبت ألمانيا وقف إطلاق النار والسلام على قاعدة النقاط الـ 14، فبلغ ويلسون ذروة نفوذه (السياسي المعنوي) عالمياً. وفي 11/11/1918 تم التوقيع على وقف إطلاق النار، وبين كانون الثاني(يناير) وأيار(مايو) 1919 تم عقد مؤتمر السلام في باريس، الذي تُوج بمعاهدة ڤرساي- Versailles، التي نص أحد بنودها على إنشاء «عصبة الأمم». غير أن مجلس الشيوخ الأميركي رفض هذه المعاهدة (في 19/11/1919 و19/3/1920)، بما فيه المشاركة في عصبة الأمم، على خلفية التحسب لاحتمال التورط في نزاعات عسكرية قد تترتب على عضوية العصبة.
■ وبهذا، تكون الولايات المتحدة قد إنسحبت سياسياً من أوروبا، بعد أن ساهمت بحسم حربها عسكرياً، مسجلة إنكفاءً أعادها إلى تقاليد الإنعزال في السياسة الخارجية. لكن الولايات المتحدة، الدولة الرأسمالية المتعاظمة قوة، والإمبريالية موضوعياً، لم يعد بإمكانها العدول عن نهج الإنفتاح من بوابة الحرب العالمية الثانية، على العالم بسياسة تدخلية فاقت بأشواط كل ما سبقها، إنما بعد عقدين من الزمن■
(3)
الإنكفاء النسبي
1921-1933
1-■ الرؤساء الثلاثة «الجمهوريون» (1921-1933) الذين دخلوا البيت الأبيض بعد ويلسون «الديمقراطي»، مثلوا الاتجاه القومي المحافظ في السياسة الخارجية الأميركية- «أميركا أولاً»، ما عنى: التركيز على التوسع الإقتصادي في العالم، وما يساعد على استمراره. ومن هنا، الإهتمام بمباحثات الحد من التسلح في البحار، ونبذ الحرب؛ وبالمقابل، الإستمرار في تجنب التدخل في السياسة الدولية، بما فيه الإبتعاد عن عصبة الأمم، وحتى عن محكمة العدل الدولية، أي باختصار: الانفتاح الإقتصادي على العالم، مع أقل قدر من التدخل السياسي في شئونه، وعدم التورط في صراعاته.
■ غير أن القوة المتعاظمة للولايات المتحدة، معطوفة على صلة الإقتصادي – موضوعياً – بالسياسي؛ والصراعات السياسية الكبرى الدائرة رحاها في العالم، من أوروبا إلى الشرق الأقصى، (خاصة بعد صعود الإمبريالية اليابانية)، التي دخلت على خطها الأزمة الإقتصادية – المالية الكبرى (1929-1933) من وول ستريت إبتداء، وصولاً إلى كل زوايا العالم الرأسمالي...
■ هذه التطورات وغيرها، كانت تدفع باتجاه مغادرة الولايات المتحدة لسياسة النأي بالنفس عن الساحة الدولية، أو – الأدق – كانت تدفع نحو المزيد من الإنخراط فيها، لأن الوضع الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى، والمكانة التي باتت تحتلها الولايات المتحدة في المعادلات الدولية، لم يعد يسمح لها – ولم يكن من مصلحتها أصلاً – أن تنعزل عن مجرياتها، كما كان الحال حتى عشية الإنعطافة النوعية التي طرأت على السياسة الخارجية إبّان رئاسة ماكينلي.
الظرف الموضوعي، إذن، كان يستدعي الخروج من حالة الإنكفاء النسبي، لا بل الإرادوي، عن التعاطي الأوسع مع الشأن الدولي، وبالتالي تجنب الأسلوب الإنتقائي في التعامل مع مندرجاته، بالتركيز على قضايا محددة، وإهمال أخرى.
2-■ جمعت السياسة الخارجية للرئيس وارين هاردينغ (1921-1923)- Warren Harding ما بين البراغماتية، وبين النزعة المحافظة في السياسة الدولية، فمزجت ما بين تطوير العلاقات الإقتصادية الخارجية، والإبتعاد عن عصبة الأمم، وبين المحادثات مع القوى العظمى، أو مع الدول المؤثرة، بغرض إستقرار الحالة الدولية. وفي هذا الإطار، تم إيلاء إهتمام خاص لاتفاقيات السلام بين أعداء الأمس، والوضع الاقتصادي في الشرق الأقصى، بما فيه العلاقة المعقدة مع اليابان.
■ تمثل أهم حدث في السياسة الخارجية في تلك الفترة، بافتتاح «مؤتمر القوى التسع» بواشنطن (12/1921) بمشاركة: الولايات المتحدة + بلجيكا + المملكة المتحدة (بريطانيا) + الصين + فرنسا + إيطاليا + هولندا + البرتغال + اليابان. وقد بحث المؤتمر بالسبل الآيلة إلى تهدئة الأوضاع في الشرق الأقصى، في الصين ومحيطها بالتحديد، والحد من سباق التسلح في البحار، وتوصل المؤتمر في العام 1922 إلى قرار يؤكد على سيادة الصين على كامل أراضيها، وعدم جواز إنتهاك حدودها.
وعلى هامش أعمال هذا المؤتمر إنعقد مؤتمران: 1- «مؤتمر القوى الأربع» (الولايات المتحدة + بريطانيا + فرنسا + اليابان)، الذي خرج بضمانات متبادلة بين هذه الدول، بعدم جواز وقوع إنتهاكات فيما بينها في نطاق المحيط الهاديء؛ 2- «مؤتمر القوى الخمس» (الـ 4 أعلاه + إيطاليا) في شباط (فبراير) 1922، حيث تم الإتفاق على الحد من التسلح في البحار.
3-■ تزامنت رئاسة كالڤين كولريدج (1923-1929)– Calvin Coolridge مع بلوغ تطور الإقتصاد الأميركي ذروته في عشرينيات ق 20، فكان بإمكان السياسة الخارجية أن تستند إلى المكانة الصناعية والمالية المتقدمة عالمياً لبلادها، حيث بلغت الإستثمارات الأميركية في الخارج (ومركز ثقلها في أوروبا، كندا، واللاتينية)، رقماً قياسياً، كاد أن يساوي إستثمارات بريطانيا التي تحتل الموقع الأول في هذا المضمار.
وعليه، تابع كولريدج السياسة الدولية المحافظة لسلفه، فتوصل بين عامي 1923 و1926 إلى إتفاق لتسوية ديون الحرب العالمية الأولى (التعويضات)، وبمساهمة بنوك أميركية، بين مختلف المعنيين (بريطانيا، فرنسا + 11 دولة أخرى). ولعل الإنجاز الأهم للسياسة الخارجية لإدارة كولريدج، تمثل في «معاهدة نبذ الحرب» (1928) الأميركية – الفرنسية التي إنضم إليها 60 بلداً، تعهدوا التخلي عن الحرب كأداة في سياسة دولهم، ما أسهم – لفترة مؤقتة – في تهدئة الوضع الدولي.
■ في اللاتينية، واصل كولريدج تقليد السياسة التدخلية في أميركا الوسطى والبحر الكاريبي، حيث تم إنزال قوات المارينز في نيكاراغوا (1926)، علماً أنه كان قد أنهى السيطرة العسكرية في جمهورية الدومينيكان قبل سنتين (1924). وفي 1926 مارست الخارجية الأميركية ضغطاً كثيفاً على المكسيك، من أجل تغيير قوانين تملك الأراضي واستثمار النفط، التي اعتبرتها بولشڤية(!)، لكنها تمكنت – بالنتيجة – من تحقيق تسوية مع الحكومة المكسيكية - 1928.
4-■ تأثرت السياسة الخارجية لإدارة هيربرت هوڤر (1929-1933)– Herbert Hoover بالأزمة الإقتصادية الكبرى التي انطلقت من وول ستريت في تشرين الأول (أكتوبر) 1929، وبتراجع وضع الولايات المتحدة دولياً؛ لكنه – بالأساس – تابع سياسة سلفيه، فحافظ على موقف عدم المشاركة في عصبة الأمم، وعدم الإعتراف بالإتحاد السوڤييتي، وكان يؤمن بالتعاون الدولي، وبتضافر الجهود من أجل السلم العالمي.
في موضوع نزع السلاح، حقق هوڤر في «مؤتمر الأسطول» بلندن (1930) تسوية، قضت بتقليص حمولة السفن الحربية، لكن هذه التسوية لم تدم طويلاً. وفي «مؤتمر نزع السلاح» بجنيڤ (1932)، سعى لمنع إمتلاك الجيوش أسلحة هجومية، وتقليص ملاكها إلى ثلث عديدها، دون نتيجة تذكر.
■ سعى هوڤر لتحسين العلاقة مع اللاتينية، وإزالة الإرتياب بنوايا الولايات المتحدة، وعدم الثقة بسياستها، وتفعيل العمل المشترك في القضايا الثقافية، ووقف سياسة التدخل العسكري. وفي هذا الإطار سحب المارينز قبل نهاية ولايته من نيكاراغوا، إلى جانب التحضير لخطوة مماثلة في هايتي.
■ في الشرق الأقصى، وبناء على انتهاك اليابان للإتفاقيات الموقعة بعدم المساس بسيادة الصين وسلامة أراضيها، إبّان أزمة مندشوريا (1931-1932)، طبقت الإدارة الأميركية في 7/1/1932 «عقيدة هوڤر - ستيمسون» القاضية بعدم الإعتراف بأي توسع إقليمي تجربة اليابان بالطرق العسكرية. وبالنتيجة، بقيت الأهداف التي حددها هوڤر في سنوات الأزمة بمعظمها بلا تأثير، وفشلت في منع تراجع وضع الولايات المتحدة عالمياً■
(4)
الخروج النهائي من الانعزال
1933-1945
1-■ في فترة رئاسة فرنكلين روزڤلت (1933-1945)- (FDR) Franklin Roosvelt، إنتقل مفهوم التدخلية إلى حقل السياسة الداخلية، بعد أن كان استخدامه يقتصر على حقل السياسة الخارجية. وعليه، إكتسى مفهوم التدخلية بعداً جديداً تمثل بتوسيع دور الحكومة، كما لم يكن في أي وقت مضى، في القضايا الإقتصادية والإجتماعية، وما يحيط بهما. هذا ما عكسه برنامج روزڤلت: «العقد الجديد»- The New Deal، بمضمون العقد الإجتماعي بين الدولة ورأس المال والمجتمع، الذي يوسع دور الدولة في إدارة الشأن العام، أي «دولة أكثر» بحسب المصطلح الشائع، ما أدى إلى تعاظم دور المستوى التنفيذي، وبخاصة مؤسسة الرئاسة في حكم البلاد.
■ هذا الدور إستدعته أزمة الرأسمالية الكبرى في مرحلتها الإحتكارية التي إنفجرت عام 1929 في الولايات المتحدة، وانداحت بتداعياتها على العالم الغربي بأسره، ما جعل الدوائر المعنية، ومراكز القرار، تدرك الحاجة الموضوعية إلى دور جديد، تدخلي، تلعبه الدولة في معالجة الخلل المتأصل في بنية النظام الرأسمالي الذي يهدد بتدميره، وفي استعادة التوازن الإقتصادي للنظام الرأسمالي، وتأمين إستمراره.
■ آلية المنافسة بين الإحتكارات بمستوى الحِدَّة الذي بلغته، باتت تتطلب وجود جهة تنظم هذه المنافسة، تشكل حَكَماً بين أقطابها ومختلف إحتكاراتها، دون أن تعبِّر عن مصلحة إحتكار بعينه، بل هي ترعى المصلحة العليا لرأس المال، وتعمل ضابطاً مخوَّلاً ينظم العلاقة بين مختلف الأطراف، هذه الجهة هي الدولة المتسيِّدة فوق تناقضات مختلف المجاميع، والمتسلحة – موضوعياً – بالرؤية الأبعد، الرؤية الضامنة للمصلحة النهائية للرأسمالية الإحتكارية.
2-■ في السياسة الخارجية، أدرك روزڤلت، في وقت مبكر، مخاطر صعود النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، والعسكريتاريا التوسعية في اليابان؛ وكان يرى، وهو يراقب نُذُر الحرب وهي تتجمع في أوروبا والشرق الأقصى، أن الموقع الطبيعي للولايات المتحدة هو في صف الدول المناوئة لدول المحور (ألمانيا + إيطاليا + اليابان..)؛ لكنه كان يدرك مدى تجذر المزاج الإنعزالي في بلاده، ذلك المزاج الدافع - تحت كل الظروف – للبقاء بعيداً عن الحرب المقبلة، وفي موقع آمن خلف حدود المحيطين. وقد عكس الكونغرس بدقة هذا المزاج بإصدار ما سمي بـ«قوانين الحياد» بين عامي 1935 و1937.
■ خاض روزڤلت معركة سياسية متعددة الأوجه لإقناع مواطنيه بخطورة الإنعزال عن العالم، لأن أمن ورفاه البلاد يرتبطان بأمن أوروبا وآسيا، والإخلال بميزان القوى في أوروبا، ناهيك عن إنتصار دول المحور، ستترتب عليه نتائج وخيمة على الولايات المتحدة في عالم واحد مترابط الحلقات، تحكمه قاعدة التأثر والتأثير المتبادل بين مختلف مكوناته. وعليه، لا تصان المصلحة الوطنية إلا من خلال الحفاظ على السلام العالمي، وتوفير شروط إستمرار الإقتصاد الحر، وضمان حق تقرير المصير للشعوب، واحترام مباديء الأمن الجماعي، الخ..
■ بنتيجة هذه الجهود التي إستهدفت وعي المواطنين، إستطاع روزڤلت بعد اندلاع الحرب- 1939، وبشكل رئيسي، بفعل الصدمة الذي أحدثها إعتداء اليابان على القاعدة البحرية في بيرل هاربر- 1941، أن يتجاوز تأثير تيار الإنعزال، وانتقل بالمزاج العام إلى حالة تدخلية هجومية، إرتقت بالولايات المتحدة - بعد تحقيق الإنتصار- إلى مصاف الدول العظمى.
■ بعد الحرب العالمية الثانية، كانت قوة الولايات المتحدة، عسكرياً، إقتصادياً، مالياً، علمياً، وثقافياً، قد بلغت درجة، جعلت من المستحيل على أي دينامية إنكفائية أن تعيدها إلى حدودها وراء المحيطين . لقد باتت الولايات المتحدة زعيمة «العالم الحر» بلا منازع، والقطب الآخر المواجه للإتحاد السوڤييتي، ما جعل التدخلية سمة ثابتة، متأصلة، وملازمة لسياستها الخارجية طيلة فترة «الحرب الباردة»، وكذلك في الفترة التي أعقبتها، أي فترة هيمنة القطب الواحد.
قد تكتسي هذه السياسة التدخلية أكثر من شكل، وتتبع أكثر من أسلوب، تبعاً لأولويات سياسة الإدارة المقيمة في البيت الأبيض وتقديراتها، لكنها لا تغير شيئاً من طبيعتها، ولا من جوهرها القائم على التدخلية الملازمة عضوياً للعولمة■
حزيران (يونيو) 2020
الحرب الباردة ... 1947–1991
الفصل الأول من حرب المئة عام
■ في الحرب الباردة.. 6 موضوعات
1- ما بين حربين ... 1945-1947
2- إصطفافات القوى في عالم «القطبية الثنائية»
3- الحرب الباردة ... بين التصعيد والإنفراج
4- فترة الحرب الباردة لم تكن باردة، بل ساخنة في واقع الحال
5- التدخلية العسكرية في العلاقات الدولية ... نموذج الإتحاد السوڤييتي
6- التدخلية العسكرية في العلاقات الدولية ... نموذج الولايات المتحدة
7- الحرب الباردة ... فصل الختام
8- الحرب الباردة تُختتم بحرب
حزيران (يونيو) 2022
في الحرب الباردة..
6 موضوعات
[■ تستعرض هذه الدراسة أبرز المحطات التي إجتازتها «الحرب الباردة» (1947-1991)، وتحلل أهم وقائعها لتصل إلى عدد من الإستخلاصات، نوردها فيما يلي كموضوعات:]
1– كانت «الحرب الباردة» ساخنة بكل المقاييس، وفي جميع محطاتها، لكنها لم تتجاوز الخط الأحمر المتمثل بتجنب الحرب الوجاهية بين الجبارين: الولايات المتحدة والإتحاد السوڤييتي، ومن هنا لجوئهما لإدارة حروبهما بـ «الوكالة» (proxy)، ما يعني أن واشنطن أو موسكو، أو من كان يقوم مقامهما، كان يتدخل بأدوات العمل العسكري/ الأمني في إطار سياسي محدد، ضد طرف ثالث محسوب على أحدهما، لتتحوصل مُخرجات هذا التدخل في رصيد أحد الجبارين زيادة، أو نقصاناً.
من هنا، تسمية «الحروب التدخلية» في توصيف هذه الحروب، و«السياسة التدخلية» التي تسقفها، آخذين بالإعتبار أن الحصة الأوفر في حروب وسياسات التدخل هذه، تعود إلى واشنطن، تعبيراً عن نزوع توسعي – عدواني جامح، ملازم بثبات للسياسة الأميركية الإمبريالية في تلك الفترة.
2- لا تنتسب جميع الحروب في «فترة» الحرب الباردة إلى هذه الحرب بدلالة المصطلح، أي بما هي مواجهة بأشكال متعددة بين القوتين الأعظم، فالعديد منها كان من طبيعة حروب حركات التحرر الوطني، أو حروب أهلية، أو حروب بين دول مستقلة لاعتبارات ومصالح خاصة بها، الخ.. غير أن هيمنة معادلات «التقاطب الثنائي» على مسارات الصراع في العالم، تركت بصماتها بقوة على جميع هذه الحروب، ما جعلها قابلة للتجيير – بهذا القدر أو ذاك – لصالح الحرب الباردة بشكل عام، ولحساب أحد الجبارين بالتحديد، مع إحتفاظ هذه الحروب بمسافة عنهما.
3- دارت الحرب الباردة بين معسكرين: الغربي/الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة من جهة، والمعسكر الشرقي/ الإشتراكي بزعامة الإتحاد السوڤييتي، من جهة أخرى. غير أن التفوق البيِّن لكل من الجبارين على سائر مكوِّنات معسكره، جعلهما يختزلانه باسمهما، بحيث باتت الولايات المتحدة بامتداداتها العسكرية (الناتو، السنتو)، وأدواتها المالية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي)، وروافعها الإقتصادية (مشروع مارشال)، ومرجعية الدولار (بحسب إتفاق بريتون وودز)، ووكالة أبحاثها الفضائية (النازا)،... تحل مكان المعسكر الغربي عملياً، كما وفي اللغة المتداولة؛ وكذا الأمر بالنسبة لعلاقة الإتحاد السوڤييتي بدول المنظومة الإشتراكية، المعتمدة أيضاً على أدوات مناظرة لأدوات المعسكر الغربي، كانت تضاهيها في الجوانب العسكرية والإستراتيجية، فضلاً عن حقول العلوم وتكنولوجيا الفضاء.. إنما كانت أقل جدوى في قضايا الإقتصاد، وأشح مردوداً في شئون المال.
4- الولايات المتحدة والإتحاد السوڤييتي لم يكونا اللاعبين الوحيدين الكبار في الساحة الدولية، لكنهما كانا – وبمسافة – نقطة الإرتكاز الأهم فيها، قياساً بالمنظمات الدولية والمؤسسات الإقليمية القائمة،... بدءاً بالأمم المتحدة، وكتلة دول عدم الإنحياز، أو السوق الأوروبية المشتركة، أو منظمة الوحدة الإفريقية، أو منظمة التعاون الإسلامي،.. أو حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتطورة... وبالمقابل، فقد برزت حركات التحرر الوطني، وهي تخوض معركة الإستقلال الناجز لشعوبها، كلاعب فاعل ومؤثر في الساحة الدولية، يتمتع بدرجة ملموسة من الإستقلالية تجاه القوتين الأعظم.
5- إنتهت الحرب الباردة بانتصار الولايات المتحدة ومعسكرها، لكنها لم تنتهِ سلماً، حيث سعت الولايات المتحدة لأن يتلازم تفكك الإتحاد السوڤييتي مع حرب دفعت نحوها، عندما سنحت فرصتها في الخليج، بذريعة تحرير الكويت من الإحتلال العسكري لنظام الحكم في بغداد، قبل إستنفاذ الفرص المتاحة لتحقيق نفس الهدف من خلال المزاوجة بين الدبلوماسية والضغط متعدد الأوجه.
لقد أرادت الولايات المتحدة من خلال خوضها حرب الخليج الثانية (1990-1991) أن تقضي على دولة مستقلة وسيِّدة، تملك كل عناصر بناء القوة الذاتية، وتجهز نفسها للإضطلاع بدور إقليمي فعّال وصاعد، فضلاً عن كونها حليفة للإتحاد السوڤييتي. وهذا بالضبط ما حصل تمهيداً للإعلان عن قيام «نظام عالمي جديد» بقيادة واشنطن، بديلاً للنظام العالمي الآفل بمرجعية «القطبية الثنائية».
6- إختتام الحرب الباردة، بحرب، إفتتح مرحلة جديدة في ملف العلاقات الدولية، أهم ما تتسم به إنتشار الحروب وإحتدام النزاعات بين الدول على أوسع نطاق في العالم بأسره، ما أطلق ديناميات جديدة في صياغة العلاقات الدولية، لم تعد تسلم – بعد زوال القطبية الثنائية - بهيمنة القطب الواحد على مقدرات العالم، من خلال الولايات المتحدة. هذا ما تؤكده تجربة العقدين اللذين أعقبا الحرب الباردة، التي باتت تظهر أمامنا كفصل أول من مواجهات عسكرية وعنفية مستدامة، سوف تستغرق عقوداً من التاريخ البشري، وليس من باب التشاؤم بشيء، أن نطلق عليها تسمية «حرب المئة عام»■
المحرر
(1)
ما بين حربين ... 1945–1947
■ لانفرادهما بامتلاك عناصر القوة غير المسبوقة، وصولاً إلى التفوق البيّن في معظم المجالات التي تجعل من الدول الكبرى، دولاً عظمى؛ وكنتيجة منطقية ومتوقعة لدورهما الكلي، الذي لولاه لما لحقت الهزيمة الماحقة بدول المحور (ألمانيا، إيطاليا واليابان)، أسفرت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) عن بروز جبارين في الساحة الدولية: الولايات المتحدة الأميركية، والإتحاد السوڤييتي، نشأت بينهما، وحولهما كمحورين جاذبين، منظومة جديدة من العلاقات الدولية هيمنت على العالم بمقدراته، وتحكمت بمصائره، على نحو لم يشهده العالم من قبل، بأقله منذ إنبلاج فجر التاريخ الحديث مع نهايات القرن الخامس عشر.
■ أثناء الحرب العالمية الثانية، أملت متطلبات التحالف وضروراته بمواجهة معسكر الأعداء، وحدة الصف وتكامل المواقف بين واشنطن وموسكو (ومعهما سائر الحلفاء: بريطانيا، فرنسا، الصين، ...)، لكن ما أن وضعت الحرب أوزراها، حتى أطلّت على منصة العلاقات الدولية، مظاهر الخلاف والصراع بأشكاله، تعبيراً عن التناقض التناحري بين الجبارين، اللذين سرعان ما تشكلا في معسكرين متواجهين، تنحكم العلاقة بينهما – غالباً – إلى قواعد المعادلة الصفرية، حيث يشكل أي مكسب لجانب، خسارة تساويها للجانب الآخر.
■ هذا ما تبدّى جلياً في السنتين اللتين أعقبتا نهاية الحرب العالمية (1945-1947)، إنتقل فيها «الغرب» (ليس بالمدلول الجغرافي فحسب، إنما بكل ما يؤشر إلى الإصطفاف السياسي، الإقتصادي، الإستراتيجي، لدول وقوى سياسية وإجتماعية، وتحالفات على نسق «الغرب») إلى حالة جديدة، أضحى فيها إحتواء ما سمي بـ«المد الشيوعي» أولوية قصوى لهذا الغرب، وبات فيها الإتحاد السوڤييتي – بالمقابل – يعلن جهاراً، كما على لسان ستالين – مثلاً - بمناسبة عيد العمال (1/5/1946)، عن إنفضاض التحالف ضد النازية، وأن عهد الشيوعية قد آن، وأنها ستدمر الرأسمالية المسؤولة عن مآسي البشرية.
■ في هذا السياق، أتت مجموعة من التطورات لكي تعمق هذا المنحى، ومن بين تلك التي ترتبت عليها تداعيات مؤثرة في المجرى اللاحق للأحداث، تُحتسب محاولة موسكو (1945–1946) إقامة نظام موالٍ لها في طهران من مدخل فصل المناطق الأذرية والكردية عن إيران – نظام الشاهنشاه: ففي 12/12/1945 أُعلنت جمهورية أذربيجان للحكم الذاتي، وفي 22/1/1946 تم تأسيس جمهورية مهاباد. هذه التطورات الخطيرة إستدعت تدخل الولايات المتحدة، الذي هدّد رئيسها – ترومان، باستخدام السلاح النووي (التي كانت واشنطن في حينها تحتكر إمتلاكه) ما لم تسحب موسكو قواتها من شمال إيران. الأمر الذي تحقق.
■ وفي بلدان أوروبا الشرقية والوسطى (بولندا، تشيكوسلوڤاكيا، هنغاريا، رومانيا، بلغاريا وألمانيا الشرقية) التي حررها الجيش الأحمر من ربقة الاحتلال الألماني، نشير – في السياق ذاته – إلى بداية التحضير لانتقال الأنظمة السياسية ذات المنحى الليبرالي أو اليميني المحافظ في هذه البلدان إلى «أنظمة الديمقراطية الشعبية»، لعبت فيها تحالفات قوى اليسار بالدور القيادي للأحزاب الشيوعية المحلية دوراً حاسماً، أدى إلى توليها مقاليد السلطة السياسية بالإنتخابات أحياناً، وبمساعدة موسكو في كل الأحيان.
■ في هذه البيئة السياسية وما تخللها من وقائع الميدان، وضِع في التداول مصطلح «الحرب الباردة»، الذي سرعان ما إكتسى مضمون الصراع بين الغرب/ الرأسمالي بزعامة واشنطن، وبين الشرق/ الإشتراكي بزعامة موسكو بمسمى «المعسكر الإشتراكي»، الذي ضم دول أوروبا الشرقية والوسطى آنفة الذكر، وبمشاركة الصين الشعبية؛ وبمسمى «المنظومة الاشتراكية» فيما بعد، بعد فترة من خروج الصين من المعسكر الإشتراكي (مع بقائها إشتراكية النظام السياسي)، إثر الخلاف الصيني- السوڤييتي في نهاية خمسينيات، مطلع ستينيات ق 20.
■ تلتقي أوساط من المتابعين وأصحاب الإختصاص على إعتبار 13/3/1947، هو البداية «الرسمية» للحرب الباردة، ففي هذا التاريخ، تم إعلان «عقيدة ترومان» في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي هاري ترومان (1945-1953)– Harry Truman أمام مجلسي الكونغرنس (الشيوخ والنواب)، ودعا فيه إلى تقديم المساعدة الاقتصادية والعسكرية لكل من اليونان وتركيا لـ«حمايتهما» (!) من إحتمال السيطرة الشيوعية على السلطة في هذين البلدين، وأيضاً على خلفية أن بريطانيا لم يعد بإمكانها أن تشكل الثقل المقابل للاتحاد السوڤييتي شرق البحر المتوسط، ما جعل واشنطن القوة المهيمنة في هذا القاطع من حوض المتوسط.
■ بدءاً من هذه اللحظة، بدأ التقاطب الثنائي بين المعسكرين يترسّم، لا بل يتمأسس من خلال مجموعة من الإتفاقيات والمعاهدات شملت مختلف المجالات السياسية والعسكرية والإقتصادية وحتى العلمية والتكنولوجية، ... نذكر من بين أهمها في المجالين العسكري والإقتصادي والسياسي، الأطر التالية:
• في المعسكر الغربي: حلف الأطلسي – Nato (1949 وحتى يومنا) + الحلف المركزي – Cento (1954-1972) + خطة مارشال لـ «إعادة البناء والنهوض الاقتصادي في أوروبا الغربية» (1948-1952) + إتحاد الفحم والفولاذ - CECA (1951)، الذي تطوّر لاحقاً إلى السوق الأوروبية المشتركة على يد إتفاقيات روما (1957)، فإلى الإتحاد الأوروبي من خلال إتفاقيات ماستريتش – Maastricht (1992).
• في المعسكر الشرقي: حلف وارصو (1955-1991) الذي تشكل رداً على إتفاقيات باريس (1954) التي أنهت المركز القانوني لألمانيا الغربية كدولة محتَلَة، تمهيداً لانضمامها إلى الحلف الأطلسي – الناتو + الكوميكون- Comecon (1949-1991)، الإطار الناظم للتعاون الاقتصادي بين دول المعسكر الإشتراكي (في أوروبا الشرقية والوسطى بالتحديد)■
(2)
إصطفافات القوى
في عالم «القطبية الثنائية»
[■ في فترة الحرب الباردة، بالتجاذبات التي تخللتها، برز على سطح السياسة والعلاقات الدولية مصطلحا «حركة عدم الإنحياز» و«قوى الثورة العالمية»، فما هو موقعهما، وتأثيرهما الحقيقي في دينامية الصراع بين الولايات المتحدة والإتحاد السوڤييتي على امتداد 44 سنة إستغرقتها الحرب الباردة ما بين بدايتها الرسمية (12/3/1947)، ونهايتها السياسية والرمزية (25/12/1991) المتوافقة مع تفكك الإتحاد السوڤييتي. إن كل هذا يطرح أيضاً على بساط البحث موضوع دور الصين الشعبية في هذه التجاذبات، وإنعكاسها على علاقات القوى، الأمر الذي سيتم التطرق إليه بشكل مختصر في القسم الأخير من هذا المقطع:]
أولاً- «حركة عدم الإنحياز»
■ إمتداداً لتقليد عدم الإنحياز، الذي تبلور لاحقاً كعقيدة سياسية أرساها المؤتمر الأسيوي – الإفريقي الأول الذي إنعقد في مدينة باندونغ الأندونيسية - Bandung (1955)، ومع نهايات الثلث الأول من فترة الحرب الباردة والمواجهة الحدّية بين المعسكرين الشرقي والغربي، نشأت «حركة عدم الإنحياز» - Non- Aligned Movement، بلورت نفسها في إطار منظمة حملت نفس الاسم، عقدت مؤتمرها الأول (1961) في العاصمة اليوغسلاڤية – بلغراد، بمبادرة من أربعة رؤساء، كانوا يشكلون في ذلك الوقت، أقطاب متنفذة في السياسة الدولية: تيتو (يوغسلاڤيا)؛ عبد الناصر (مصر)؛ نهرو (الهند)؛ وسوكارنو (أندونيسيا)، وانضم إلى هذه المنظمة عدد وافر من الدول الإفريقية والآسيوية، في معظمها كانت قد إنعتقت للتو من نير الاستعمار. وفي هذا الإطار نشير إلى ما يلي:
1- إنتظام حركة عدم الإنحياز على نسق الإبتعاد عن الإنخراط في أي من الكتلتين، بهدف المساهمة المجدية في قطع الطريق على إحتمال إندلاع حرب عالمية ثالثة بمخاطرها العظمى التي تتهدد البشرية جمعاء. ومن هذا المنطلق أتت الدعوة إلى «التعايش السلمي» بين مختلف الأنظمة السياسية على تمايز (لا بل بسبب تضاد) أيديولوجياتها، وتباين/ إختلاف مضامين أنظمتها الاجتماعية؛ وإلى نزع السلاح النووي والإستراتيجي، أو ضبطه بالحد الأدنى، وإخلاء مناطق بعينها منه؛ وإلى تعزيز الإستقلال الوطني بالتنمية المستدامة؛ وإلى مناهضة التمييز العنصري والدعوة إلى المساواة بين جميع بني البشر؛ إلخ ...
2- ما زالت المنظمة التي تؤطر حركة عدم الإنحياز على مستوى الدول قائمة بمؤشر إنتظام إنعقاد مؤتمراتها حتى يومنا، فضلاً عن إتساع عضويتها التي تشمل ما يوازي ثلثي قوام الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن هذه المنظمة فقدت تأثيرها على نحو ملحوظ بعد سنوات قليلة من تأسيسها مع إنطفاء نجم القادة الكاريزميين الذين أطلقوها، والتغييرات التي طرأت على طبيعة إنحيازات الأنظمة السياسية التي كانوا يقفون على رأسها لجهة الإنتقال، ومن ثم التموضع في معسكر الغرب، بدءاً من أندونيسيا (إنقلاب 1965)، ومن ثم مصر (إنقلاب 1971)، إلخ ... وفي كل الأحوال، فقد فقدت هذه المنظمة تأثيرها في السياسة الدولية بعد أن آلت أوضاع حلف وارصو إلى الإندثار.
3- إن مقاربة دور «حركة عدم الإنحياز» من زاوية النفوذ والتأثير السياسي على التوازنات في العلاقات الدولية، لا يمكن أن يُقارن بكل تأكيد بما كان للمعسكرين الشرقي والغربي من نفوذ، فإطار الدول المشاركة في الحركة كان أوسع من أن يُضبط على وجهة سياسية مشتركة، خاصة بعد غياب الأقطاب السياسية المقررة.
4- إلى جانب ما ذكر؛ نضيف أنه كان من الصعب تصنيف سياسة العديد من مكونات «حركة عدم الإنحياز» في خانة الحياد بين المعسكرين. ولعل الأقرب إلى ما كان يحصل في واقع السياسة الممارسة، أنها كانت – بحسب القضايا المطروحة – تتوزع إقتراباً من سياسة أحد المعسكرين، أو إبتعاداً عنها، آخذين بالإعتبار أن الكتلة الأهم عددياً في تكوين الحركة أتت من العالم الثالث، ولكن أقلها كان من ضمن الدول التي تنتمي إلى «تيار العالمثالثية»، بالمعنى السياسي العملي، قاصدين بذلك الإتجاهات السياسية الفاعلة (قومية، يسارية، شيوعية..) في العالم الثالث، المناهضة للإمبريالية والإستعمار الحديث بكل أشكاله، والمناضلة في سبيل الحرية والإستقلال الناجز للشعوب المستعمرة والمحتلة أراضيها، ومن أجل حقها في تقرير مصيرها بحرية.
ثانياً- «القوى الثورية العالمية»
1- في مرحلة الحرب الباردة، وإستناداً إلى أدبيات الحزب الشيوعي السوڤييتي وحلفائه، كانت عديد القوى اليسارية في العالم تتبنى مقولة تشكل قوى الثورة العالمية التي تقف بمواجهة المعسكر الرأسمالي/ الإمبريالي من ثلاثة مكونات: 1- المعسكر الإشتراكي (أو البلدان الإشتراكية لمن كان يؤثر الحياد، أو تجنب الإنحياز تماماً إلى الإتحاد السوڤييتي ومن معه في مواجهة الصين الشعبية)؛ 2- حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتطورة؛ 3- حركات التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث.
2- من هنا نجد أن توصيف المشهد الدولي من زاوية دينامية الصراع والمواجهة بين معسكرين: معسكر قوى الثورة العالمية بمكوناته الثلاثة المذكورة من جهة، والرأسمالي/ الإمبريالي من جهة أخرى، وإن بدا منطقياً من الناحية النظرية، فإنه لا يعكس الواقع كما هو، من الناحية العملية، فميزان القوى – في نهاية المطاف - كان نتاج لعلاقات القوى بين الجبارين أولاً وبالأساس، وليس بين معسكريهما، شرط أن نأخذ بالإعتبار أهمية الدور الذي اضطلعت به حركات التحرر الوطني كظاهرة كفاحية مناهضة للإمبريالية بتوجهاتها الرئيسية، تسعى لانتزاع الإستقلال الوطني الناجز لشعوبها، ما جعل مُخرجاتها تصب في نفس الوجهة التي تعمل من أجل تحقيق أهدافها قوى المعسكر الإشتراكي، ودون أن يترتب على ذلك فقدان مكونات حركة التحرر الوطني لاستقلالها، بصرف النظر عن تحالفاتها، والمساعدات التي كانت تتلقاها، والتي كان مصدرها بشكل رئيسي يأتي من الدول الإشتراكية.
3- أما فيما يخص حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية، فقد إنحصر دورها بشكل رئيسي في النضال داخل مجتمعاتها، دفاعاً عن حقوق العمال والفئات الشعبية والوسطى، ومن أجل صمود الديمقراطية أمام محاولات النيل منها من جانب الإتجاهات اليمينية على مختلف مشاربها: محافظة، قومية ذات نزعة فاشية، الخ.. وبهذا المعنى لم تكن لهذه القوى دور متواصل في المواجهة المباشرة بين موسكو وواشنطن، باستثناء الدور فائق الأهمية الذي إضطلعت به في إطار حركة السلام، ونزع السلاح النووي، وتجريد مناطق بعينها منه، الخ.. إلى جانب التضامن مع حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، الخ..
ثالثاً- الصين الشعبية
1- في فترة الحرب الباردة تمتعت الصين الشعبية بمكانة متميِّزة، كإحدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، تملك حق الڤيتو، فضلاً عن وضعها كدولة نووية. غير أن الصين – بالإتجاه العام – لم تكن ذات حضور مؤثر في السياسة الدولية بالمستوى الذي يفترضه موقعها بين الخمسة الكبار، لانصرافها إلى شئونها الداخلية بما إنطوت عليه من صراعات، إلى جانب أنها – بالعمق التاريخي – ليست دولة نازعة للتوسعية بالمعنى الإمبريالي، كما هو حال دول أخرى.
2- وفي البحث عن دور للصين في السياسة الدولية، فإننا نراه في سياق محطتين: الأولى، من خلال دورها المؤثر في معادلة الصراع بين المعسكرين، تعزيزاً للجانب الإشتراكي عندما كانت جزءاً من عقده، وإضعافاً له بعد أن غادرته، لا بل ناصبته العداء، إثر خلافها العقائدي مع موسكو؛ أما االمحطة الثانية، فكانت بعد إنفتاحها على واشنطن (1972) بمواجهة الإتحاد السوڤييتي، وكجزء ناشط في علاقات مثلث التجاذب بين واشنطن – موسكو - بيجنغ■
■■■
■ إن الحلقة المركزية في المواجهة بين المعسكرين، وأساسها يكمن في الصراع بين القطبين، وما سيؤول إليه بعد حين، تجعلنا فيما يلي من عرض وتحليل، نركز على المواجهة في فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوڤييتي بأدوات «الحروب التدخلية» التي لم يدخر أي من الطرفين جهداً في اللجوء إليها، كلما إقتضت الحاجة ذلك، إنما بدوافع وخلفيات متباينة، لن نكون بوارد التوسع فيها في هذا البحث، حيث سنكتفي بالإشارة إلى أنه كان لواشنطن- وبمسافة - الباع الأطول في الحروب التدخلية التي خيضت في أربع جهات الأرض، ما يسلط الضوء على دوافع عدوانية، جذرها يعود إلى الطبيعة الإمبريالية المتأصلة في عمق النظام السياسي الأميركي■
(3)
الحرب الباردة ... بين التصعيد والإنفراج
■ حالة التوتر التي شهدها العالم في فترة الحرب الباردة (1947–1991) لم تتحرك دائماً على نفس السوية، فقد تخللها – بالحد الأدنى– ثلاث محطات تصعيدية، كان للتوتر فيها شأواً عالياً: 1- حصار برلين (1948-1949)؛ 2- أزمة الصواريخ السوڤييتية في كوبا (1962)؛ 3- الخلاف على تموضع الصواريخ السوڤييتية متوسطة المدى (20-SS) في أوروبا (1979–83/1982)، والرد الذي إستدرجته تلويحاً بإقامة منظومة صواريخ مقابلة (Pershing).
■ من بين هذه المحطات/ الأزمات الثلاث، ثمة إجماع بين أهل السياسة والإختصاص، أن أزمة الصواريخ في كوبا، قد دفعت العالم بشكل فعلي إلى عتبة الحرب المباشرة بين الجبارين، مع إحتمال أن يتخللها إستخدام السلاح النووي. وضمن هذا التقييم الذي يسلط الضوء – في الوقت ذاته – على الجانب الآخر الذي قادت إليه هذه الأزمة، بالإمكان أن نسجل أنها مثًّلت نقطة إنعطاف في مسار المواجهة بين المعسكرين، لجهة الإنفتاح على بداية مرحلة إنفراج في العلاقات الدولية إثر التوصل إلى تسوية تم بموجبها سحب الصواريخ السوڤييتية من كوبا، مقابل سحب الصواريخ الأميركية من تركيا.
■ بعد عقد من أزمة الصواريخ (1962)، ودائماً ضمن فترة الحرب الباردة، إجتاز المسار الإنفراجي بين موسكو وواشنطن محطتين بنجاح:
1- تأسست المحطة الأولى بزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1969-1974)– Richard Nixon في أوج إحتدام المعارك في ڤيتنام – إلى موسكو في أيار (مايو) 1972، التي فتحت الطريق أمام التوصل إلى إتفاق الحدّ من الأسلحة الإستراتيجية، إلى جانب قضايا أخرى.
علماً أنه لم يكن بالإمكان حصول هذه الزيارة بالنتائج الإيجابية التي قادت إليها، بفعل الليونة المستجدة التي أبدتها موسكو في التعاطي مع الملفات المطروحة، لو لم تسبقها قبل شهور قليلة، أي في شباط (فبراير) من نفس العام زيارة نيكسون إلى الصين.
لقد أتت هذه الزيارة في سياق سياسة الإنفتاح على بيجنغ للضغط على موسكو، التي عبَّرت عن إستراتيجية المناورة الكبرى على مثلث علاقات القوى (غير متساوي الأضلاع) ذات التأثير الكبير في السياسة والعلاقات الدولية، حيث أبقت هذه المناورة الضلع الأكبر من المثلث بيد واشنطن، التي نجحت في توثيق علاقتها مع بيجنغ وموسكو معاً (أي مع البلدين المقيمين على الضلعين الأصغر من المثلث)، مع الإبقاء – في الوقت نفسه - على العاصمتين بعيدتين عن بعضهما البعض.
2- المحطة الثانية في المسار الإنفراجي بين المعسكرين الغربي والشرقي، تمثلت بانعقاد «مؤتمر الأمن والتعاون المشترك في أوروبا» في عاصمة فنلندا، هلسنكي– Helsinki (30/7/1975) بمشاركة 35 دولة، منها 13 دولة محايدة، و7 من حلف وارصو، و15 من الحلف الأطلسي. وتكمن أهمية هذا المؤتمر في ما يلي:
أ) رسّمَ المؤتمر الجغرافيا السياسية التي خلَّفتها الحرب العالمية الثانية، لجهة الإعتراف المتبادل بحدود الدول القائمة على جانبي خط ما كان يُسمّى بـ «الستار الحديدي»، ما عنى الإعتراف بالأمر الواقع القائم – Status Quo، والإمتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم إنتهاك حدود الدول، واعتماد الحلول السلمية لفض الخلافات عند نشوئها ...، واعتُبِرَ – تالياً - مكسباً للاتحاد السوڤييتي وحلفائه، كون التغييرات الحدودية التي أحدثتها الحرب بمساحات الضم الواسعة التي شملتها (لا سيما في أراضي ألمانيا من أصل مساحتها قبل إندلاع الحرب) تصب في مصلحة موسكو وعدد من بلدان أوروبا الوسطى والشرقية (لا سيما بولندا وتشيكولوفاكيا).
ب) إلى ما سبق، نصَّت وثائق هلسنكي على الحفاظ على حقوق الإنسان، واعتماد حق تقرير المصير للشعوب، والدفاع عن الحريات، وصون حرية الضمير...، ما اعتُبِرَ مكسباً للدول الغربية، لما يفتحه من سُبُل لاستنهاض الحركات السياسية وحِراكات الحقوق المدنية (لا سيّما في دول المعسكر الاشتراكي) المناهضة لسياسة الأنظمة السلطوية.
جـ) وأخيراً، أقرت إتفاقات هلسنكي مجموعة من القضايا تمسّ أوجه التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والبيئة، ... ما اعتُبِرَ مكسباً صافياً للجميع.
■ مما لا شك فيه أن أعمال مؤتمر هلسنكي عززت وجهة إنفراج العلاقات بين المعسكرين، لكنها لم تُلغِ، ولم تقلص الجانب الصراعي في هذه العلاقات الذي بقي البعد الأهم في العلاقات بين المنظومتين. وبشيء من التدقيق، من السهل أن نلاحظ أن مفاعيل الإنفراج شملت القارة الأوروبية بالتخصيص، وبالمقابل فقد شهدت مناطق عدة في العالم (جنوب غرب آسيا، الشرق الأوسط، بلدان عدة في إفريقيا، بعض بلدان أميركا اللاتينية) إحتداماً للصراعات السياسية/ الاجتماعية الدائرة فوق أراضيها■
(4)
«فترة» الحرب الباردة لم تكن باردة،
بل ساخنة في واقع الحال
■ من أجل إبراز أفضلية منظومة على أخرى، خيضت الحرب الباردة بجميع الوسائل والأشكال المتاحة، الاقتصادي منها، والسياسي، و الأيديولوجي، والثقافي...، لكنها خيضت بشكل خاص من خلال المواجهات العسكرية دون أن تصل إلى المواجهة العسكرية المباشرة بين الجبارين، تجنباً لمحذور المواجهة بالسلاح النووي، ما أنشأ وكرَّس معادلة «الردع النووي المتبادل» بينهما.
■ لقد كانت «القطبية الثنائية» السائدة في العالم، تضفي على الصراعات السياسية والعسكرية الدائرة رحاها في أكثر من مكان، ومهما كان موضوعها، طابع التمحور النازع إلى التموضع الحدّي، كما وطابع المواجهة بالواسطة (Proxy) بين الإتحاد السوڤييتي والولايات المتحدة، اللذين بدورهما، لم تَغِبْ التدخلية العسكرية عن جدول أعمالهما. وبشيء من التدقيق بالوقائع المتواصلة فصولاً، من السهل أن يتضح أن «فترة» الحرب الباردة، كانت ساخنة، لا بل جداً ساخنة في واقع الحال.
■ هنا، علينا أن نميِّز بين المواجهات التي تنتسب إلى الحرب الباردة، وأخرى، تقع ضمن ذات الفترة الزمنية، لكنها غير ذات صلة بها، وإن تداخلت معها في بعض جوانبها، فالمرحلة التاريخية التي نحن بصددها، بالتقاطب الثنائي التي سادها، كانت تستولد الأحداث، والتأثير والتأثر المتبادل فيما بينها. وعليه، لم تكن قليلة الحروب التي تواقتت مع فترة الحرب الباردة، دون أن تنتسب إلى مساقها، أو تنتسب بشكل مباشر إلى هذا المساق [راجع الملحق 1]، وهي بطبيعتها من 3 أنماط مستقلة عن بعضها البعض، وإن تداخلت فيما بينها في بعض جوانبها، أو تقاطعت مع مساق الحرب الباردة في جوانب أخرى. وفيما يلي نورد هذه الأنماط، معززة بعدد قليل من الأمثلة، نختارها من بين الحروب التي لم يجرِ تناولها في سياقات أخرى من هذا النص:
أ) الحروب بين دول، ومنها: الحرب الحدودية بين الجزائر والمغرب (1963-1964)، حرب «كرة القدم» بين هندوراس والسلڤادور (1969)، حرب أوغادين بين إثيوبيا والصومال (1977-1978)، حرب فوكلاند (جزر المالوين) بين الإرجنتين وبريطانيا (1982)، الحرب بين العراق وإيران (1980-1988)، الخ..
ب) الحروب الأهلية (الداخلية)، ومنها: أهلية اليونان (1946-1948)، أهلية السودان الأولى والثانية (1959-1972) + (1983-2005)، أهلية نيجيريا – بيافرا (1967-1990)، أهلية غواتيمالا (1960-1961)، الخ..
ج) حروب التحرر الوطني، ومنها: الحروب ضد الإستعمار الفرنسي في الهند الصينية (1946-1954)، الجزائر (1954-1962)، الحروب ضد الإستعمار البرتغالي في إفريقيا (موزامبيق، غينيا، أنغولا، في سبعينيات ق 20)، الخ...
■ .. والقائمة تطول، فكثيرة كانت الحروب التي وقعت في «فترة» الحرب الباردة، حيث يُحصي بعض المؤرخين عدد الحروب على أنواعها (تدخلية، بالوكالة، تحرر وطني، داخلية، بين دول، الخ..)، والمواجهات ذات الطابع العسكري و/أو الأمني، وغيرها بـ 150 واقعة(!) تسببت بمقتل 22 مليون إنسان، أي أكثر من الخسائر البشرية التي نجمت عن الحرب العالمية الأولى (17 مليون)، وبما يتجاوز ثلث الحد الأدنى المقدر لضحايا الحرب العالمية الثانية (60 مليون).
■ وفيما يتبع سنركز البحث على الحروب التي كان لكل من الولايات المتحدة والإتحاد السوڤييتي دور مباشر فيها، بأسلوب «التدخلية العسكرية» في العلاقات الدولية في فترة الحرب الباردة■
(5)
التدخلية العسكرية في العلاقات الدولية ...
نموذج الإتحاد السوڤييتي
■ تنطلق السياسة التدخلية بالوسائل العسكرية للإتحاد السوڤييتي من قاعدة صون عضوية المنظومة الإشتراكية (ومعها عضوية حلف وارصو) من أية إختراقات، وبالتالي قطع الطريق أمام أية محاولة للخروج من هذا الإطار، التي تعني الإنتقال إلى المعسكر الآخر، ضمن المعادلة الصفرية السائدة في ذلك الزمن.
إرتقت هذه القاعدة التي طبقت مرتين في خمسينيات ق 20 (في ألمانيا الديمقراطية وهنغاريا) إلى مصاف العقيدة في ستينياته، سُميت بـ«عقيدة بريجنيڤ» (1968)، نسبة إلى الأمين العام للحزب الشيوعي السوڤييتي ليونيد بريجنيڤ (1964-1982)– Leonid Breschnew التي نصّت على مبدأ «السيادة المحدودة (أو المقيّدة) للبلدان الإشتراكية»، ما يعني أن مصالح وسيادة كل دولة إشتراكية على حدة، تقف عند خط عدم المساس بمصالح وأمن دول المنظومة الإشتراكية ككل.
■ وبمراجعة للسياسة السوڤييتية في فترة الحرب الباردة، نجد أن هذه القاعدة/ العقيدة قد سرى مفعولها على 3 من أصل 4 محطات تدخلية عسكرية وقعت خلال الفترة المذكورة:
1- التدخل العسكري في برلين/ ألمانيا الديمقراطية (1953)، قمعاً للإضرابات والمظاهرات المرتبطة بمطالب سياسية وإقتصادية محددة، ضد القرارات المتشددة («الستالينية» بقاموس المعارضة) التي إتخذها مؤتمر الحزب الحاكم قبل أيام من إندلاع هذه الأحداث.
2- التدخل العسكري في بودابست/ هنغاريا (1956) لقطع الطريق أمام الثورة المضادة، التي كانت تُنذر بخروج هنغاريا من المعسكر الإشتراكي، مع إحتمال أن تفتح على تداعيات بنفس الوجهة في بلدان إشتراكية أخرى.
3- التدخل العسكري في براغ/ تشيكوسلوفاكيا (1968) بموجب «عقيدة بريجنيڤ»، التي تبيح هذا التدخل في أيٍ من بلدان حلف وارصو، في حال تعرضها للثورة المضادة.
■ التدخل العسكري الرابع، حرب أفغانستان (1979–1989)، يخرج عن نطاق «عقيدة بريجنيڤ»، ويندرج في سياق سعي موسكو لتعزيز وضعها كقوة عظمى إنطلاقاً من المزايا الجيوسياسية التي تتمتع بها أفغانستان، عمقاً حامياً لجمهوريات آسيا الوسطى السوڤييتية، وتموضعاً إحترازياً شرق إيران بعد إنتصار الثورة الإسلامية (1979)، وتماساً إنذارياً مع باكستان حليفة الصين، وحرماناً لباكستان في الوقت ذاته من عمقها الإستراتيجي الطبيعي، واقتراباً من المياه الدافئة، المطلة على بحر العرب.
لقد تحوَّلت هذه الحملة من تدخل يرمي إلى مساندة النظام التقدمي (الصديق لموسكو) في كابول، إلى حرب ممتدة إستغرقت 10 سنوات، نظيرة للحرب التي خاضتها الولايات المتحدة في ڤيتنام، من حيث الخسائر، وعدد من النتائج السياسية المهمة التي ترتبت عليها، ومن بينها المساهمة في مفاقمة الأزمة الداخلية الحادة المعتملة في قلب النظام السوڤييتي■
(6)
التدخلية العسكرية في العلاقات الدولية...
نموذج الولايات المتحدة
■ تجسَّدت النزعة التدخلية العسكرية للولايات المتحدة في فترة الحرب الباردة – بشكل رئيسي – في 3 محطات فاصلة في كوريا، ڤيتنام والعراق، سنترك تناول الأخيرة إلى فصل لاحق، كونها خاتمة حروب «الحرب الباردة»، ومدخلها – في آن– إلى حروب المرحلة التي تلت :
1- حرب كوريا (1950-1953)، في السنوات الأخيرة لولاية هاري ترومان والشهور الأولى لرئاسة دوايت أيزنهاور Dwight Eisenhower -(1961-1953)؛ الأول، صاحب «عقيدة الإحتواء والدحر»- Endiguement - Containment - Roll back للشيوعية (ممثلة في حينه بالصين والإتحاد السوڤييتي معاً)؛ والثاني، صاحب «عقيدة أحجار الدومينو»، القائمة على التصدي لمخاطر سقوط بلدان بعينها في أحضان الشيوعية، بعدوى من البلدان المحاذية، أي بالتداعي إنطلاقا من بلدان الجوار الشيوعي.
2- حرب ڤيتنام (1963-1973)، التي ابتدأ عامها الأول (1963) في نهاية ولاية جون كينيدي المبتورة (1961-1963)- John Kennedy، واستغرقت كل فترة رئاسة ليندون جونسون (1963-1969)- Lyndon Johnson وصولاً إلى معظم سنوات رئاسة ريتشارد نيكسون (1969-1974)- Richard Nixon، أي حتى التوقيع على إتفاقية باريس للسلام (1973)، علماً أن الأعمال العسكرية لم تتوقف إلا 1975، مع تحرير سايغون عاصمة جنوب ڤيتنام، على يد المقاومة الڤيتنامية وجيشها في شطري البلاد.
■إلى جانب حربي کوريا وڤيتنام (وفي سياق الأخيرة الأعمال الحربية الواسعة التي إمتدت إلى كمبوديا ولاوس)، نشير إلى تدخلات عسكرية وأمنية بأشكال متعددة في عدد من البلدان، لا ينال نطاقها المحدود قياسا بحربي کوريا وڤيتنام، من واقع إندراجها في صلب ممارسات وإستهدافات الحرب الباردة، وكان میدانها في الشرق الأوسط الكبير:
1- إيران (1953)، بعد إقدام رئيس الحكومة محمد مُصَدِّق على تأميم شركة النفط الأنجلو - إيرانية، أطاحت به وبحكومته المخابرات المركزية الأميركية CIA بالتعاون مع المخابرات البريطانية في 19/8/1953- Operation Ajax، وأعادت شاه إيران إلى سدة الحكم.
2- لبنان (1958)، إبّان حربه الأهلية الأولى بعد الاستقلال (1943)، حيث تزامن التدخل العسكري الأميركي في لبنان مع التدخل البريطاني في الكويت، إثر الإطاحة بالحكم الملكي في العراق، البلد العضو في حلف السنتو الذي يشكل إمتداداً جيو-إستراتيجياً لحلف الناتو، ضمن خطة التطويق العسكري للإتحاد السوڤييتي المعتمدة من الغرب في ذلك الحين، لقطع الطريق أمام تداعيات محتملة في بلدان أخرى في الإقليم، تنتقل بها إلى مجموعة الدول الناشطة من حركة عدم الإنحياز: الصين، الهند، أندونيسيا، مصر، غانا + دول أخرى حديثة العهد بالاستقلال، أي تلك الدول التي من موقع قرارها بعدم الإنخراط في أي من المعسكرين بقيادة الجبارين، تلتزم الحياد بينهما، وتنتهج - في الوقت نفسه - سياسة معادية للإمبريالية الغربية، والإستعمار الجديد، والتنمية الداخلية المستقلة، الإقتصادية والسياسية والإجتماعية.
■ كما كان میدانها منطقة أمريكا الوسطى وبحر الكاريبي، والأخير يشكل بجزره، وبالدول المطلة عليه: المكسيك المحسوبة - جغرافياً - على أميركا الشمالية، وعدد من دول أميركا الوسطى والجنوبية، منطقة ذات أهمية إستراتيجية واقتصادية بالغة الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة، حيث شهدت أثناء الحرب الباردة بلدان عديدة في هذه المنطقة تدخلات أميركية عسكرية متواصلة، نذكر منها:
1- التدخل في غواتيمالا (1954): بعد الإصلاحات الإجتماعية التي قام بها رئيس البلاد جاکوبو آربينز- Jacobo Arbenz، وبخاصة بعد شروعه بالإصلاح الزراعي في بلد يملك فيه 2% من كبار الملاك، 70% من الأراضي الصالحة للزراعة، أقدمت الـ سي.آي.أي -CIA أثناء رئاسة دوايت أيزنهاور، بمشاركة عسكريين معارضين، على الإطاحة بآربينز، وأحلت مكانه حكماً دكتاتورياً برئاسة كارلوس كاستيلو أرماس- Carlos Castillo Armas سارع بإلغاء إصلاحات سلفه. والمعروف أن التدخل الأميركي تم بناء على طلب العملاق الإقتصادي، شركة الفاكهة المتحدة- United Fruit Company؛ واندرج في إطار «عقيدة ترومان» لمواجهة تهديد شيوعي مزعوم إنبني على إجراءات الرئيس آربينز الإصلاحية الإجتماعية.
2- ونذكر منها أيضأ، ما تعرضت له كوبا، بعد إنتصار ثورتها (1959)، على يد الولايات المتحدة من حصار وضغوط إقتصادية وتهديدات أمنية، ومنها عدوان «خليج الخنازير» (1961) الفاشل الذي نظمته ال CIA مع فلول المعارضة الكوبية الرجعية؛ والحصار العسكري المطبق على الجزيرة، إباّن «أزمة الصواريخ» (1962)، التي وضعت العالم على حافة الحرب النووية، أثناء رئاسة جون كينيدي.
3- غزو جزيرة غرينادا» Grenada -(1983) بدعوى ضمان أمن المواطنين الأميركان في الجزيرة»، في فترة رئاسة رونالد ريغان، بعد الإنقلاب على رئيس الحكومة التقدمي بيشوب- Bishop، الذي طبق سياسة إصلاحات إجتماعية واسعة داخلية، واعتمد سياسة حياد خارجية، تقوم على علاقات طيبة مع الولايات المتحدة، والإتحاد السوڤييتي، وكوبا.
4- في فترة رئاسة جورج بوش الأب (1989-1993)- George Bushشهدت بنما في كانون الأول (ديسمبر) 1989، آخر تدخل عسكري أقدمت عليه الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية أثناء فترة الحرب الباردة، قاد إلى الإنقلاب على الدكتاتور مانويل نورييغا- . Manuel Noriega
■ في الفترة الممتدة بين الحرب الأميركية – الإسبانية (1898) وحتى نهاية الحرب الباردة (1991)، أي على امتداد ما يقارب قرن من الزمن، تدخلت أميركا عسكرياً وأمنياً (under cover) 50 مرة في أميركا اللاتينية. وفي هذا الإطار نخص بالذكر إنقلاب تشيلي (1973)، الذي سجل لحظة فاصلة في تاريخ تشيلي والحرب الباردة معاً، حيث أطاح الإنقلاب الدموي للجيش بمشاركة الـ CIA، وبالإستناد إلى قوى المعارضة اليمينية في البلاد، بالنظام اليساري لسلڤادور آليندي (1970-1973)- Salvador Allende، فأجهض تجربة «الطريق الديمقراطي» لإقامة الإشتراكية، وقطع الطريق أمام إنتقال «عدوى نموذجها» إلى بلدان الجوار في القارة اللاتينية. وقد حظي هذا الإنقلاب بدعم واسع ومباشر، تخطيطاً وإدارة وتمويلاً، من الإدارة الأميركية (نيكسون + وزير خارجيته هنري كيسنجر– Henry Kissinger) ■
(7)
الحرب الباردة ... فصل الختام
[■ بعد وصوله إلى قمة الهرم السياسي، واستلامه السلطة في الإتحاد السوڤييتي (رئاسة الدولة + الأمانة العامة للحزب) في آذار (مارس) 1985، إفتتح ميخائيل غورباتشوڤ– Michail Gorbatchow ورشة إصلاح واسعة في البلاد، سياسية، إقتصادية، قانونية، ثقافية، الخ...، طاولت مؤسسات الدولة والحزب، ومرافق الاقتصاد والجيش وغيرها...، كما والعلاقات الدستورية بين مكونات الإتحاد، والتوجهات العقيدية الأساس في مجالات الأمن القومي، والسياسة الخارجية، والنظام السياسي العالمي.
■ لم تشق العملية الإصلاحية الشاملة طريقها، وبالنتيجة لم تنجح، بل إنقلبت إلى نقيضها، بفعل شدة الأزمة، وثقل الموروث، وسوء الإدارة ...، فجاءت الرِدَّة، ومعها تفكك الإتحاد السوڤييتي، وانهيار المنظومة الإشتراكية. وكان أن أتى فصل الختام بخروج غورباتشوڤ من المشهد السياسي، فقدم إستقالته من رئاسة الإتحاد السوڤييتي، ما إعتُبِرَ أيضاً بمثابة التاريخ السياسي والرمزي لانتهاء الحرب الباردة بين الجبارين (الولايات المتحدة، والإتحاد السوڤييتي) ومعسكريهما:]
■ من حيث الوقائع التاريخية، هنالك ثلاث محطات، ثمة إجماع على إعتبارها مجتمعة إنتهاءً لمرحلة الحرب الباردة، التي دار ضمن محدداتها الجانب الأهم من الصراعات في العالم، وانحكمت لمفاعيلها العلاقات الدولية طيلة أربعة عقود ونيّف من الزمن. وفيما يلي عرض لهذه المحطات:
1- المحطة الأولى (9/11/1989)، تمثلت بإزالة جدار برلين العازل بين الشطرين الشرقي والغربي للمدينة، ما عنى إزالة للحدود السياسية والعسكرية والإقتصادية الفاصلة بين المعسكرين المتصارعين على المستوى الكوني. ومع الإطاحة بـ«الجدار» فُتح الطريق أمام ضم ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية وتوحيدهما في دولة واحدة، ما عُدَّ تطوراً مفصلياً أشَّرَ إلى إفتتاح مرحلة جديدة من التوازنات وعلاقات القوى بين المعسكرين، ودولهما، كما وفي العلاقات الدولية.
2- المحطة الثانية (3/10/1990) التي تلت، شهدت قيام الوحدة الألمانية وأهميتها تكمن – من زاوية التأريخ لانتهاء الحرب الباردة – في أنها قد تحققت مع بقاء ألمانيا الموحدة عضواً في الحلف الأطلسي – الناتو مع السماح لقوات الحلف بأن تنتشر أيضاً في ألمانيا الشرقية التي كانت – قبل الوحدة – دولة فاعلة في حلف وارصو المناويء للأطلسي. غير أن موافقة الإتحاد السوڤييتي على هذا الترتيب، إرتبطت بموافقة الغرب عدم تمدد الأطلسي شرقاً، أي نحو حدود الإتحاد السوڤييتي، واستتباعاً «روسيا الإتحادية»، الأمر الذي لم يتم الإلتزام به، كما هو معروف.
3- المحطة الثالثة (8/12 – 25/12/1991)، تدرجت بالتسلسل التالي: في 8/12/1991 قررت روسيا + بيلاروسيا + أوكرانيا معاً حل الإتحاد السوڤييتي، وإنهاء وجوده كدولة فيدرالية تضم 15 جمهورية، كما قرّر رؤساء هذه الدول الثلاث إقامة «رابطة الدول المستقلة»، التي إنضمت إليها في 13/12 جمهوريات آسيا الوسطى: كازاخستان + طاجكستان + تركمانستان + أوزبيكستان + قرغيزيا. وفي 21/12 عقد في ألما آتا (عاصمة كازخستان) إجتماع ضم رؤساء 11 جمهورية إتحادية من أصل 15 جمهورية مكونة للإتحاد السوڤييتي، حيث تغيّب عنه جورجيا + جمهوريات البلطيق الثلاث (ليتوانيا + لاتڤيا + أيستونيا)، وأعلن عن إنتهاء الإتحاد السوڤييتي وتأسيس «رابطة الدول المستقلة». وفي 15/12 أعلن غورباتشوف رسمياً إستقالته من رئاسة الإتحاد السوڤييتي.
■ وبهذا تكون قد إنتهت معادلة «القطبية الثنائية» القائمة على توازن كوني بين المعسكرين، لتبدأ مرحلة جديدة تحتل فيها الولايات المتحدة مكانة الدولة العظمى الوحيدة – The Sole Superpower، أو الدولة الفرط عظمى– Hyperpower بحسب تعبير وزير الخارجية الفرنسية الأسبق أوبير ڤيدرين – Hubert Vedrine.
■ هذه الوقائع وما يقع في إمتدادها، تستخدم لإسناد الرأي القائل بأن الحرب الباردة إنتهت بانتصار أحد طرفيها دون نشوب حرب، فالمعسكر الإشتراكي، منظومة ودولاً، إنهار وتفكك بفعل تفاقم تناقضاته، فتقوَّضت مرتكزاته بانفجار جوّاني – Implosion أدى إلى تشظيه دولاً وكيانات.
ومع التسليم بصحة ما ينسب إلى هذا الإنفجار من تداعيات، فإن ثمة حقيقة لا يجب أن تغيب عن البال، وهي أن الإتحاد السوڤييتي مع تلاشيه إختتم الحرب الباردة بحرب، ستمهد لحروب أخرى ما زالت فصولها متوالية حتى يومنا■
(8)
الحرب الباردة تختتم بحرب،
■ بعد أن أيقنت واشنطن أن الحرب الباردة على وشك أن تحسم لصالحها سلماً، أبت إلا أن تختتمها حرباً، بعد أن قدَّم نظام الحكم في بغداد الذريعة والسبب باجتياحه الكويت (2/8/1991)، فاستظلت الولايات المتحدة بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة لبناء أكبر تحالف دولي منذ الحرب العالمية الثانية، وشنَّت حرب تحرير الكويت من 17/1 إلى 2/3/1991، تاريخ قرار مجلس الأمن الرقم 686 بوقف إطلاق النار.
■ وفي نظرة إسترجاعية لهذه الوقائع الآخذة بنواصي بعضها البعض، يتضح أن حملة التحالف الدولي لإخراج الجيش العراقي من الكويت بالحرب، لم تكن هي الخيار الوحيد المتاح لحل الأزمة، لتوفر أكثر من طريقة تفتح على حل خلاف ناجم عن إعتداء دولة على أخرى، لا سيما بالقوة المتفوقة التي تتمتع بها واشنطن ضمن أجواء توازنات دولية مؤاتية.
ما سبق يقود إلى قراءة إصرار واشنطن على خيار الحرب من زاوية سعيها للجمع بين أمرين: أولهما، وهو الهدف، القضاء على عناصر القوة التي يتمتع بها العراق كقوة إقليمية نافذة وصاعدة، وصديقة للإتحاد السوڤييتي في آن؛ وثانيهما، وهو الغاية، من خلال هذه الحرب إعادة صياغة التوازنات الإقليمية والدولية التي سادت فترة الحرب الباردة، بعد إنهيار أحد عامودي الخيمة فيها: الإتحاد السوڤييتي.
■ هذا ما عبَّرت عنه واشنطن بوضوح في فترة ما قبل الشروع بالحرب، ففي 11/9/1990، أي قبل ما يزيد عن أربعة شهور على إندلاع الأعمال الحربية، قام الرئيس بوش الأب بعرض أهدافه أمام الكونغرس بمجلسيه، ومن بين أبرزها «إقامة نظام عالمي جديد» منطلقاً من سيولة الوضع في الإتحاد السوڤييتي وتراجع دوره عالمياً. وهذا ما أعاد التأكيد عليه أمام نفس المحفل (6/3/1991) بعد إنتصاره في الحرب. وبهذا يكون بوش قد إحتفل بإرهاصات إندثار الإتحاد السوڤييتي بالإنتصار العسكري في الخليج.
■ بعد ان رسَّمت تفوقها في معادلة «القطبية الثنائية» في السنوات الأخيرة للحرب الباردة، إنتقلت الولايات المتحدة إلى «القطبية الأحادية» في تزعمها للنظام العالمي الجديد، الذي سرعان ما تبيَّن أنه عالم يمور، بالنزاعات والحروب، بالضبط كما كان عالم الحرب الباردة، إن لم يكن أكثر، عالم تمادت فيه واشنطن بركوب موجة خوض الحروب، مستغلة «فائض القوة» الذي باتت تتمتع به لأغراض أنانية، مصلحية ضيقة، تتسم بدرجة عالية من الفوقية والعدوانية والغطرسة، وإدعاءات التفوق الحضاري...؛ ما يؤكد – من جديد – أن الحرب على أشكالها، لا سيما التدخلية منها، سواء أُديرت بالأسلوب المباشر أو بالواسطة، إنما هي سمة ملازمة لمنظومة سياسية، إقتصادية، إجتماعية، فكرية، ثقافية، تسعى بجشع غير مسبوق إلى مزيد من الإستغلال لما تستبطنه البشرية من طاقات وقدرات، وما تختزنه الطبيعة من موارد وثروات، في مرحلة «العولمة»، بما هي تسمية ملطفة للإمبريالية المتوحشة في أعلى مراحلها■
حزيران (يونيو) 2022
ملحق 1
عن حروب شبه القارة الهندية
والحروب الإسرائيلية - العربية
[■ بما أنه ليس من وظائف هذا البحث تقديم «جردة» بجميع الحروب التي وقعت ضمن الحيِّز الزمني الذي شغلته الحرب الباردة، ولا التوقف أمام كل منها عرضاً وتقييماً، سنكتفي فيما يلي بتناول نموذجين من هذه الحروب: تلك التي دارت في شبه القارة الهندية، والأخرى التي نشبت بين العرب وإسرائيل. هذه الحروب لا تندرج في إطار المواجهة بين القوتين الأعظم، بل تعبر عن مصالح الدول التي خاضتها، وإن تداخلت معها، أو أثَّرت فيها أمور ذات صلة بالحرب الباردة:]
1– حروب شبه القارة الهندية: • جمعت بين طابع الحروب الأهلية، وبين مواصفات الحروب بين الدول. أما نقطة التأسيس التي أطلقت هذه الحروب، فنجدها في قرار بريطانيا (3/6/1947) الإنسحاب من الهند، التي تتحول على قاعدة الإنتماء الديني إلى دولتين مستقلتين كاملتي السيادة: الهند وباكستان، الأمر الذي تحقق بعد أقل من 3 شهور (15/8)، مولداً حمامات دم في مجرى عملية فرز وتقسيم إنحدرت إلى حرب أهلية أودت بحياة مليون من البشر، وتمخضت عن 15 مليون مهاجر فقدوا مواطنهم الأصلية. وبالتوازي مع هذه الأحداث الدموية، وفي سياق النزاع على ولاية كشمير نشبت الحرب الهندية – الباكستانية الأولى (22/10/47-1/1/1949) التي إنتهت بوقف إطلاق النار على جانبي خط رُسم بالأمر الواقع، قسَّم ولاية كشمير بين الهند وباكستان.
• إندلعت الحرب الهندية – الباكستانية الثانية، أو حرب كشمير الثانية، بين شهري 4 و 5/1965، وإنتهت بعودة الأمور إلى وضع ما قبل الحرب (Status Quo Ante Bellum)؛ وتبعتها حرب بنغلادش (25/3-16/2/1971)، أو الحرب الهندية – الباكستانية الثالثة، التي إبتدأت بانتفاضة باكستان الشرقية للإنفصال عن باكستان الغربية، تداخلت معها الأعمال الحربية الهندية المؤازرة، وإنتهت بقيام دولة بنغلادش المستقلة.
• لم تنته الأمور عند هذا الحد، بل تواصلت بأعمال حربية حدودية بين الهند وباكستان (1984، 1985، 1987)، مقدمة للحرب الهندية الباكستانية الرابعة (1999)، حرب كشمير الثالثة، التي تخرج عن الإطار الزمني لهذا البحث.
• حرب الحدود بين الهند والصين (20/10-20/11/1962) التي إنتهت بانتصار الصين، إنما بلا مكاسب ترابية تذكر، تنتمي أيضاً إلى ملف حروب شبه القارة الهندية في فترة الحرب الباردة؛ وكذلك ما بعدها، بدليل تجدد هذا النزاع الحدودي مرة أخرى عام 2020، وإن بنطاق عسكري أضيق.
• أصل الصراع بين الهند وباكستان يعود إلى عدم تقبل الهند لواقع نشوء باكستان كدولة مستقلة، كونها تتحدَّر من صُلبها، وليس من الجائز – من وجهة نظر الهند - أن تنفصل عنها، فأتت مسألة كشمير لتوفر الوقود المستدام لهذا الصراع، الذي إستمر منذ تأسيس الدولة على أشده، وتواصل بعد حرب بنغلادش، التي إنخرطت فيها الهند بقوة بهدف إضعاف باكستان، ومازال مستمراً حتى يومنا.
• غير أن مسألة كشمير تخطت حدود النزاع بين دولتين كبيرتين لتأخذ بعداً دولياً، بعد أن دخل موضوع الخلاف الصيني - السوڤييتي على الخط من بوابة حرب الحدود بين الهند والصين، التي وقف فيها الإتحاد السوڤييتي إلى جانب الهند، ما فتح باب التعاون العسكري بينهما على مصراعيه؛ ووقفت باكستان – بالمقابل - إلى جانب الصين في حرب 1962، لا بل قرأت – بشكل مغلوط - نتائجها من زاوية أنها كشفت ضعف الهند عسكرياً، فبادرت إلى شن حرب عام 1965 الآنف ذكرها.
• وعليه إنتقل الصراع الهندي – الباكستاني إلى ملعب التجاذب بين الهند – الإتحاد السوڤييتي من جهة، وباكستان – الصين من جهة أخرى. غير أن هذا الصراع مربع الأطراف لم يندرج بشكل مباشر في سياق المواجهة بين الجبارين، لأن الصين في فترة الحرب الباردة لم تكن أصلاً جزءاً فاعلاً فيها، باستثناء الدور المتمم – موضوعياً - الذي باشرت الإضطلاع به بعد إنفتاح العلاقات مع الولايات المتحدة – كما جرت الإشارة – الذي إستفادت منه واشنطن في المقام الأول، في صراعها مع موسكو■
2- الحروب العربية – الإسرائيلية، إندرجت في أكثر من سياق – فيما يتعلق باصطفافات الحرب الباردة - تبعاً للحالة الإقليمية السائدة وسياسات موسكو وواشنطن في المنطقة:
• فحرب الـ 48، التي خاضتها الأنظمة العربية التابعة للغرب، تلاقت فيها مواقف واشنطن مع مواقف موسكو في الإعتراف بنتائجها العدوانية المتمثلة بقيام دولة إسرائيل على أنقاض الكيانية الفلسطينية: موسكو من موقع تعاطيها مع الحركة الصهيونية باعتبارها مناوئة للإستعمار البريطاني(!)، وعلى شاكلتها ستكون الدولة؛ وواشنطن من موقع رعايتها للمشروع الصهيوني، بعد أن حَلَّت مكان لندن في مرجعيته منذ العام 1942 (مؤتمر بلتيمور).
• في حرب الـ 56، تلاقت مصالح موسكو وواشنطن في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر الذي جمع بين بريطانيا، فرنسا وإسرائيل، من موقعين متباينين: موسكو من موقع الإنفتاح على مكوِنات العالم الثالث، والصداقة مع بلدانه الساعية إلى التحرر الوطني، والإستقلال الناجز، ورفض الإنخراط في مشاريع إقامة تحالفات عسكرية هادفة إلى تطويق الإتحاد السوڤييتي. وواشنطن بالمقابل، كانت تعمل بدأب من أجل الحلول مكان دول الإستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) في المنطقة، وبرؤية قيام دول مستقلة تستطيع أن تكسبها إلى جانب التحالفات السياسية والعسكرية التي كانت بصدد السعي لإقامتها حول الإتحاد السوڤييتي، وعلى حدوده.
• حرب الـ 67، التي شهدت عدوان إسرائيل على مصر، سوريا والأردن، بالمقابل، تندرج – بجانب مهم منها - في سياق الحرب الباردة، حيث شجعت إدارة جونسون إسرائيل على خوضها للضغط على جمال عبد الناصر من أجل إخراجه من سياسة عدم الإنحياز، والصداقة مع موسكو، ومناصرة حركات التحرر الوطني في العالم العربي وإفريقيا، ومناهضة محور الرجعية العربية (حرب اليمن)، وبناء الجيش الوطني القادر، والإقتصاد الوطني المستقل، الخ.. والأمر نفسه ينطبق على الموقف من النظام السوري بتقاطعاته الواسعة مع سياسة القاهرة.
• وفي سياق مشابه تندرج حرب الـ 73، التي بادرت إلى شنِّها مصر مع سوريا لتحرير الأراضي العربية المحتلة عام 67، فاستغلتها إدارة نيكسون – كيسنجر، بالدعم الواسع الذي قدمته لإسرائيل – عسكرياً وسياسياً – لإعادة التوازن العسكري في الميدان لصالح إسرائيل نسبياً. واستثمرت واشنطن نتائج الحرب لدفع الرئيس المصري أنور السادات لاستكمال خطواته في القطع التام مع موسكو والانتقال الكامل إلى معسكر الغرب، ما إنعكس على وضع الإقليم بأسره، وأدَّى إلى الإخلال بميزان القوى السائد لصالح إسرائيل والولايات المتحدة. وإلى هذا نضيف: لقد إجتازت إسرائيل إختبار حربي الـ 67 والـ 73 بنجاح لجهة تأكيد كفاءتها العسكرية، فوطدت مكانتها كوكيل رئيس معتمد للسياسة الأميركية في الإقليم.
• أما حرب الـ 82، التي تم تنسيقها بين واشنطن وتل أبيب إبّان رئاسة ريغان، فرمت إلى إلحاق الهزيمة بمنظمة التحرير وإخراجها من لبنان، كما وإضعاف دور سوريا، وبالتالي ضرب المواقع المتشددة في الحالة العربية المنتظمة في إطار «جبهة الصمود والتصدي» المتحالفة مع موسكو والمناهضة لسياسة كمب ديڤيد – التي قادت إلى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل (1979)-، وللسياسة الأميركية عموماً في المنطقة■
ملحق 2
بين «نهاية التاريخ»
و«صراع الحضارات»
■ في تحديد السمة الرئيسية للمرحلة الجديدة، تنازع الغرب، إنطلاقاً من الولايات المتحدة بالتحديد، إجتهادان متناقضان:
• الأول، دعا له فرنسيس فوكوياما– Francis Fukuyama، الذي نظّر لـ«نهاية التاريخ»، قاصداً إنتصار الديمقراطية الليبرالية كونياً على الأنظمة الشمولية بمختلف صيغها السياسية وتعبيراتها الأيديولوجية، ما ينهي الصراعات التي شهدها تاريخ البشرية منذ كتابة حروفها الأولى.
• الثاني، دعا له صموئيل هنتنغتون – Samuel Huntington، معتبراً أن إنتهاء الحرب الباردة يؤذن باندلاع «الصراع بين الحضارات»، قاصداً إنتقال الصراع بين الدول أو تحالفات الدول التي تتبنى أيديولوجية بعينها، إلى صراع بين حضارات (يعد 9 منها)، تدور فيما بينها ربطاً بالأديان، لا بل بين مذاهب من ضمنها؛ وفي هذا الإطار يدعو هنتنغتون – فيما يتصل بالولايات المتحدة – إلى العودة لمنظومة القيم الأنجلو – بروتستانتية للمعمرين الأوائل في أميركا■
[1])) الفترة الممتدة من نيل الاستقلال، وحتى انتهاء ولاية جون كوينسي آدامز (1825-1829)– John Quincy Adams، الرئيس السادس، الذي يُعتبر آخر «الآباء المؤسسين» الستة، الذين تعاقبوا على إمتداد 40 سنة (1789-1829) على رئاسة البلاد، وهم: جورج واشنطن، جون آدامز، توماس جيفرسون، جيمس ماديسون، جيمس مونرو، وجون كوينسي آدامز.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت