- المحامي علي ابوحبله
بعد أعمال عنفٍ رهيبة حطّمت حيات الآلاف، ولم تترك أحداً تقريباً من دون قصّة مأساوية يحكيها، استقرّ العراق في حالة تطبيع جديدة، لكن من دون أن يكون على بيِّنة من الوجهة التي يأخذها، ومن دون مساعدة العراقيين على استقراء المستقبل. هكذا يتساءل أحد الروائيين، وهو بالتحديد يحاول فهم الأمور: "كيف يمكن رواية السنوات الاثنى عشر الأخيرة؟ ليست المشكلة في نقطة الانطلاق، بل في نقطة الوصول. فمن أجل كتابة تاريخ حرب الجزائر، تطلّب الانتظار حتّى انتهائها. أمّا هنا، فنحن ما زلنا في سلسلة متلاحقة من الأحداث، لم يلُحْ بعدُ شيء من نهاياتها". وحتى بنية الرواية التي يعمل عليها، والتي يروي كلّ فصلٍ من فصولها حكاية بالنسبة إلى أحداث سنةٍ محدّدة، تجعله مرتهناً لنظامٍ سياسيّ ما يزال يطالعنا بالمفاجآت المشوّقة
بعد مضيّ 12 سنه على الاجتياح والاحتلال الأميركي للعراق الذي أنهى حكم الشهيد صدام حسين، ما يزال العراق رهن أزمته. لكن للاطلاع على ذلك، تعتبر بغداد المكان الأخير الذي تجب زيارته. فالاعتداءات الدموية التي من دونها لا يكاد يُذكَر هذا البلد في وسائل الإعلام، أصبحت نادرة نسبة إلى السنوات القليلة السابقة، عندما كانت مقاومة الاحتلال والميليشيات الطائفية تعتمد السيارات المفخّخة والانتحاريين والقنابل الأخرى من مختلف الأنواع
عندما تصنع الولايات المتحدة من نظام العراق محاكاة ساخرة عنه ، وبالعكس، ليست المواجهة مستحيلة نظراً إلى حجم الإحباط في الوسط السنيّ، وحالة الاستقطاب المذهبيّة التي نتجت عن ذلك، والقصور الماديّ والمعنويّ لجهازٍ أمني غير مؤهّل لمواجهة التمرّد ويفتقد للشرعية الوطنية. إذ ليس من المستبعد إذاً أن يأتي سيناريو معيّن تتولّد فيه حالة فراغ سياسيّ تتعطّل فيه الحركة السياسية التي تؤدي للفراغ السياسي ، بحيث يبقى صعبا تحديد طبيعة النظام.
هذا الوضع هو واحد من بعدين حدّدتهما بشكلٍ فائق التركة الأميركية في العراق, فما بين اجتياحٍ اعتُبِر "عمليّة جراحية" من دون تحمّل تبعاتها، وانسحابٍ متسرِّع برغبة من الرئيس باراك أوباما (كان الهدف منه التبرؤ بأسرع ما يمكن من التعهّدات غير المناسبة التي أطلقها سلفه جورج والكر بوش)، شهد الوضع سنوات من التفنّن السياسي الذي يستحقّ، في أفضل الأحوال، تسمية الارتجال. ولننتقل إلى الخطايا الأصليّة، مثل تجريم بُنى النظام السابق وتفكيكها كلّياً، والنظرة المذهبيّة إلى النظام السياسي، والترويج حصراً لسياسيين منفيين منقطعين عن المجتمع، والتفاوض في الكواليس على دستورٍ يعكس اتفاقاً بين الشيعة والأكراد على حساب السنة، والإكثار من الانتخابات التي تكرّس تهميش هؤلاء السنة
كان بالإمكان إصلاح كل هذه الأغلاط بتأنٍّ؛ إلاّ أنّ الولايات المتحدة أخطات بنوعٍ خاص في إهمالها لذلك. فقد جاء انسحابها، على عكس الأهداف التي حدّدتها هي لنفسها، من دون أيّ اتفاقٍ على مجمل المشاكل التي ستبقى قائمة في العراق لوقتٍ طويل، ومنها إعادة النظر في الدستور، وتحديد سيادة الأراضي المتنازَع عليها، وتوزيع الثروات والعلاقات بين السلطة المركزية والمقاطعات وصلاحيات رئيس الوزراء ومأسسة السلطات المعارضة وعمل البرلمان داخليّاً وبنية الجهاز القمعيّ، إلخ. ظلّ كل شيء بحاجة إلى تفاوض وإعادة تفاوض، من أزمةٍ سياسية إلى أزمة سياسية. بحيث يبقى عدم الحسم هذا مستبطناً كلّياً لدى الأشخاص المعنيين.
ما بعد الاستقالة «الصدرية»: شبح الصدام يغطّي العراق
على رغم وضوح الأطر القانونية للتعامل مع حالات الاستقالة من مجلس النواب، والمتمثّلة في تعويض المستقيلين بأوّل الخاسرين من الطوائف والمناطق نفسها، إلّا أن القوى السياسية العراقية لم تستوعب بعد الصدمة التي أحدثتها استقالة نواب «التيار الصدري» الـ74، وبالتالي فهي لم تحدّد خياراتها بعد، في ظلّ مخاوف من خطوات «صدرية» لاحقة قد تسهّل انزلاق العراق إلى أَتون فوضى
فقد اعتصمت القوى السياسية العراقية بالصمت إزاء استقالة نواب الكتلة «الصدرية» من مجلس النواب، مُفضّلة التريّث في إطلاق مواقف من الحدث، أقلّه بشكل رسمي، نظراً لما سيكون له من تأثير كبير على مسار العملية السياسية في البلد، وتداخلاتها الإقليمية والدولية، خاصة وأن الدول المعنيّة بالمسألة العراقية تمهّلت هي الأخرى في تحديد مواقفها ممّا جرى (عادت وصدرت مساء أمس مواقف متحفّظة، أعرب بعضها عن القلق من الفوضى، فيما طالب بعضها الآخر باستمرار الحوار من أجل تشكيل حكومة شراكة موسّعة). ويوحي كلّ ذلك بأن البلد يقف على عتبة تحوّل كبير يتّسق مع ما هو حاصل في المنطقة من اصطفافات على خلفيّة تعثّر المفاوضات النووية مع إيران، والاختراقات الإسرائيلية في الخليج. على أيّ حال، الاستقالة قُبلت وصارت نافذة، والخطوة التالية الطبيعية، بحسب رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، هي أن يَخلف كلَّ نائب مستقيل مَن حلّ بَعْده بعدد الأصوات، علماً أن لا حاجة إلى تصويت برلماني على الاستقالة، بالنظر إلى أن هكذا إجراء مخصَّص لثلاث حالات فقط، الأولى هي الطعن في صحّة العضوية، والثانية هي الإخلال الجسيم بقواعد السلوك الانتخابي، والثالثة هي تجاوز النائب حدّ الغيابات المسموح به. أمّا حلّ البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، فيتطلّب استقالة نصف أعضاء البرلمان البالغ عددهم 329 نائباً زائداً واحد.
وبدا الحلبوسي مستعجلاً طيّ صفحة الاستقالة، والمُضيَّ في العملية السياسية المسدودة منذ الانتخابات قبل ثمانية أشهر، بسبب إصرار زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، على تشكيل حكومة غالبية تستبعد الفريق «الشيعي» المعارض له، معلناً أن «الخطوات القادمة قد تمضي سريعاً. ونسعى إلى تشكيل حكومة تتحمّل القوى السياسية مسؤولية مخرجاتها وإدارتها وسيبقى التقييم أمام الشعب». ولم يكن شريكا الصدر في «تحالف إنقاذ وطن»، أو ما عُرف بـ«التحالف الثلاثي»، معه دائماً في الإصرار على تشكيل حكومة من هذا النوع، لا سيما بعدما اتّضح أن السبل الدستورية مسدودة أمام التحالف للمضيّ في هكذا خيار، نتيجة عدم امتلاكه غالبية الثلثين التي تُمكّنه من توفير نصاب برلماني لانتخاب رئيس للجمهورية، لكي يصار بعد ذلك إلى اختيار رئيس للحكومة من الكتلة البرلمانية الأكبر.
ما يبدو واضحاً، إلى الآن، هو أن القوى السياسية العراقية تتهيّب الآتي؛ فقادتها يعرفون الصدر جيداً، ويعلمون أنه لم يستقِلْ ليتنحّى عن السياسة، وأنه سيلجأ حتماً إلى تحريك الشارع لكي يحاول أن يفرض من خلال قوّته على الأرض، ما لم يستطع فرضه بالقانون. لكن المخيف في الأمر هو أن القوى المعارضة له في الصفّ «الشيعي»، والمنضوية ضمن «الإطار التنسيقي»، تُوازيه من حيث القوّة الشعبية، وهو ما يولّد خشية لدى كثيرين في العراق من أن يؤدّي ذلك إلى صدامات في الشارع بين الطرفَين.
ويعتمد اختيار رئيس الحكومة على لعبة التحالفات بين الأطراف الأكبر حجماً في البرلمان، وقدرتها على الضغط. وتطلّب اختيار رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، بعد استقالة سلفه عادل عبد المهدي على وقع الضغط الشعبي، خمسة أشهر. ورغم أن مقتدى الصدر كرّر مراراً رغبته في تعيين رئيس وزراء من تياره، لكن لا تعتقد هيغل أنه سيفعل ذلك في نهاية المطاف.
وترى أنه "لا بد أن يكون مرشح توافق".وفي هذا الإطار، "لا يزال مصطفى الكاظمي يملك حظوظاً قوية للبقاء في المنصب"، ولا يملك الكاظمي حزباً، وهو ليس نائباً منتخباً. وترى بعض القوى الفاعله أن هذه صفات "ملائمة"، لأن ذلك لا يضع الأحزاب في الواجهة مباشرةً. ، و"ربما قد يقع الاختيار على شخص معروف في الوسط السياسي العراقي لكن لا يملك انتماء سياسياً واضحاً".
حالة من الغموض وغياب الرؤية تعيشها العملية السياسية في العراق، بعد استقالة نواب التيار الصدري من البرلمان، في قرار مفاجئ، اتخذه الصدر، في وقت بدأ "الإطار التنسيقي" إجراء مباحثات داخلية لمتابعة تداعيات تلك الخطوة.
ووجّه الصدر، الأحد، بتقديم استقالات أعضاء الكتلة الصدرية إلى رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، بعد فشل تشكيل "حكومة أغلبية" رغم مرور 8 أشهر من الانتخابات النيابية، معتبرًا أنها "تضحية من أجل الوطن".
وقال الصدر، في بيان كتب بخط اليد، إن "على رئيس الكتلة الصدرية، حسن العذاري، أن يقدم استقالات الأخوات والإخوة في الكتلة الصدرية إلى رئيس مجلس النواب"، مقدمًا الشكر "لما قدموه في هذه الفترة القصيرة"، كما قدم الشكر "لحلفائنا في تحالف إنقاذ الوطن لما أبدوه من وطنية وثبات، وهم الآن في حل مني".
وتعني تلك الاستقالة، انتهاء تحالف "إنقاذ الوطن" الذي تشكل بتحالف الصدر مع رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني.
معارضة شعبية
تباينت آراء المحللين العراقيين إزاء تلك الخطوة وتداعياتها على العملية السياسية، وفيما إذا كانت ستصب في صالح استقرار الوضع السياسي أم إنها ستعمّق الأزمات التي يعيشها العراق، خاصة أن قرارات الصدر غير ثابتة، وهو ما يضفي مزيدًا من القلق الشعبي والسياسي.
وخلال الأشهر الماضية، سعت قوى "الإطار التنسيقي" إلى تشكيل حكومة توافقية، بمشاركة الصدر، حيث تخشى تلك القوى من سيناريو ذهاب الصدر، نحو المعارضة السياسية، لما يعنيه ذلك من خطر على الحكومة المقبلة وإمكانية إسقاطها في فترة وجيزة.
لكن الصدر ذهب إلى خيار أبعد من المعارضة السياسية، وهو "المعارضة الشعبية"، إذ سيلجأ إلى الشارع لتحقيق مراده، وهو ما سيشكّل على الدوام قلقًا لدى القوى السياسية التي ستشكل الحكومة المقبلة، في ظل تجربة عام 2016، عندما اقتحم أنصار الصدر المنطقة الخضراء ومبنى مجلس النواب، قبل أن يطلب منهم الصدر الانسحاب سريعًا.
بدوره، يرى المحلل السياسي، عماد محمد، أن "خطوة التيار بالتحول إلى معسكر المعارضة الشعبية، وبرصيد جماهيري هائل، ستؤخذ بنظر الاعتبار من قبل تحالف الإطار الذي لن يمضي بتشكيل الحكومة مطلقًا، تحسبًا لردة فعل الشارع العنيفة، وتحسبًا للموقف الدولي وطبيعة تعامله مع الحكومة التي تخلى عنها أكبر الفائزين".
تحليلات تتحدث أن "الصدر في الشارع أقوى من البرلمان والحكومة، وهذه المرة ستكون أحزاب تشرين معهم، لكن ذلك قد يفجر احتجاجات واسعة، وستكون أعنف وأوسع، وربما ستُنهي فوضى العملية السياسية، أملًا في صناعة عملية سياسية عراقية دون إملاءات خارجية".
ورفعت تلك الاستقالة، رصيد الكتل السياسية الأخرى، من النواب، بسبب قانون الانتخابات الذي ينص على أن المرشح الأعلى أصواتًا سيكون محل النائب المستقيل في نفس الدائرة، وهو ما سيرفع نواب عدة تحالفات إلى أرقام أعلى، مثل ائتلاف دولة القانون، بزعامة نوري المالكي، الذي سيحصل على نحو 10 مقاعد، بينما سيحصل تحالف الفتح بزعامة هادي العامري على نحو 15 مقعدًا، إضافة إلى النواب المستقلين، وهو ما سيغير توازن القوى بشكل تام.
اتجاه نحو حل البرلمان
وتعتقد أوساط عراقية بأن الحكومة المقبلة إن تشكلت دون التيار الصدري، فإنها ستكون بالغة الهشاشة، تتهددها قدرة الصدريين على تحريك الجماهير وذخيرتهم من الخبرة الاحتجاجية المتراكمة.
من جهته، يرى الخبير في الشأن العراقي الدبلوماسي السابق، غازي فيصل، أن "خطوة الصدر جاءت لوضع تنظيمات الإطار التنسيقي أمام مواجهة الحقيقة، والمسؤوليات الكبرى، أمام الشعب العراقي، بعد ممارسة إفشال الآليات الديمقراطية، وتعليق الدستور، عبر المقاطعة وعبر ما أطلق عليه (الثلث المعطل)، وهو ما وضع العملية السياسية ومجلس النواب والدستور أمام تحديات كبرى، وتعطيل كامل، لجميع قدراته وقدرات الحكومة، ولثمانية أشهر".
و"السؤال الكبير اليوم، هو هل أن نواب الحزب الديمقراطي الكردستاني سيستقيلون أيضًا؟ وكذلك نواب تحالف السيادة، وبالتالي عبر تلك الاستقالات سيتم الإعلان عن حل مجلس النواب، أو هل سيذهب السيادة والديمقراطي، بتقديم مشروع قرار بحل البرلمان، والذهاب نحو انتخابات مبكرة أخرى"، مشيرًا إلى أن "هناك العديد من الأسئلة مطروحة دون أجوبة، بانتظار ما ستتمخض عنه قرارات وسياسات الأطراف الأخرى في مجلس النواب".
وينص الدستور العراقي على آلية حل البرلمان، وهي أن المجلس يُحل بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه بخيارين؛ الأول بناء على طلب ثلث أعضائه، والآخر طلب من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية. ووفق ذلك فان العراق يعيش ازمه حقيقيه بفعل القوانين التي سنها الاحتلال الامريكي والتي اسست لنظام فيدرالي يقوم على المذهبيه والطائفيه وقد ادت بوحدة العراق والعراقيين وهذه نتائجها وتداعياتها وبنتيجتها تدخل العراق في متاهة المجهول
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت