- بقلم : تأييد زهير الدبعي
لا تذهبوا.. ابقوا معي.. كونوا أوفياء لكلمتكم ... ألم نعد لومومبا بالبقاء معه حتى النصر والحرية؟! لماذا تتلاشون واحدا تلو الآخر؟! قالت له شعرة بصوت أشبه بصوت محكوم بالإعدام طلب منه كلمة أخيرة قبل أن تفصل المقصلة جسده عن هذه الحياة: نحن أوفياء ولم نترك لومومبا، لكن لومومبا الآن في ذمة الحرية التي طالما حلم وحلمنا معه بها ولأجلها.. ونحن معه إليها لذاهبون. قالت ذلك وهي تنظر للأسيد الذي كان يأكل كل ما في طريقه مثل بركان غاضب.. ظلت السن تنظر إلى جسد لومومبا يتلاشى خلية تلو الأخرى.. وكل واحدة تصرخ وهي تنتظر دورها: نحن معك يا لومومبا! لقد انتصرنا على الجلاد! وها نحن ذاهبون معك إلى الحرية... اتحدت الصرخات كأنها قسم كان لومومبا يردده كل صباح، عله يصبح نشيد الانتصار ذات يوم. صارت السن تصرخ معهم، نحن معك يا لومومبا.. عاشت الكونغو .. يسقط الاستعمار.. وظلت تصرخ وتصرخ حتى خفتت كل الأصوات حولها.. ظنت أنها انتقلت لعالم الحرية حيث لا استعمار ولا تمييز عنصري.. لكن اكتشفت أنها كانت عصية على الأسيد، لقد تلاشى كل شيء إلا هي... يا إلهي لم بقيت وحيدة بين يدي القتلة؟! ها أنا أنظرهم كل يوم، وهم يضحكون معتقدين أنني الجزء الوحيد المتبقي من لومومبا؟ وأنا أضحك عليهم وأقول له في حريته.. سأعود إلى الكونغو ذات يوم.. سأعود يا لومومبا فأنا أناك التي تأبى الاستسلام.. أنا أنت التي قالت سأحارب الاستعمار حتى ما بعد الموت. وهم يعتقدون أنك ميت، وأنا منك أحاربهم.
صرخت اليوم السن الذهبية بأعلى صوتها .. يا لومومبا ... يا أصدقائي خلايا جسد لومومبا يا كل شعرة في جسد لوموبا.. يا جيفارا.. يا عبد القادر الجزائري... يا زويا ... يا عمر المختار... يا جرامشي... يا هو تشي منه...يا فهد عطية ... يا روزا لوكسمبرغ... يا كل مناضلي العالم ... ها أنا اليوم سأعود للكونغو ... ها أنا اليوم سن مناضل بقيت بعد المذبحة تنتصر على الجلاد. وتبقى لتعود لوطن عاش و قُتل من أجله لومومبا. قتله الاستعمار ظانا أن النضال من أجل الحرية سوف يموت.. وهو لا يعرف أن النضال من أجل الحرية والعيش بكرامة لا يموت أبدا...
17في يناير 1961 اغتالت بلجيكا عبر مجموعة من المرتزقة المناضل الكونغولي باتريس لومومبا رميا بالرصاص، والذي كان في حينه رئيسا لوزراء البلاد، بعد أن ألقى خطابا ناريا تحدث فيه عن العبودية التي فرضتها بلجيكا على الشعب الكونغولي وعن خيرات الكونغو التي نُهبت طوال عقود من الاستعمار، وإمعانا في الوحشية، قام القتلة بإذابة جثة لومومبا بالأسيد، واحتفظ أحد القتلة وهو شرطي بلجيكي بسن ذهبية ظلت شاهدة على المذبحة، وبعد 61 سنة ، استعادت الكونغو السن الذهبية لومومبا.... ما أكبر هذه السن وما أعظمها... وما أصغر الاستعمار.
ما أكثر المناضلين الذين قضوا على يد الاستعمار القديم والحديث، الداخلي والخارجي، منهم لم يُعرَف مصيره، ومنهم من حُرق وسُحل وقُطع إربا، ومنهم شهداء فلسطين، الذين حاربوا نسخة أكثر وحشية ودموية من الاستعمار الغربي، وإلى اليوم لا زال الاحتلال يحتجز جثامينهم فيما يسميه مقابر الأرقام. وأستذكر اليوم كلمات للشاعر العراقي عبد السلام البكر الذي قال:
يأبى ولاؤك أن تضمك حفرة فأنت لأولى أن تضم الأنهرا
بغداد قلبك ما تبقت بقعة إلا لثمت ترابها متعفرا
ثم انثنت ذرات جسمك صعدا لتضم أرض الرافدين وأكثرا
تبدو كلمات الشاعر وكأنها رثاء لكل مناضل في العالم، قُتل غيلة وظلما على يد مُحتل أجنبي، أو طاغية، وبعد القتل قتل من نوع آخر، إما احتجاز للجسد، أو حرق أو تشويه أو إذابة.
يعتقد الطغاة والمحتلون أن قتل المناضلين انتصار، وهو بحكم الحقيقة انهزام، لأن المناضل فكرة، والفكرة لا يمكن أن تقتل أو تُحاصر. ولم يخف يوم مناضل حقيقي الموت أو ما سيجري لجسده الفاني بعد الموت، فقد قالتها العظيمة أسماء بنت أبي بكر لابنها عبد الله بن الزبير، عندما بث لأمه خشيته من أن يٌمَثل أتباع اليزيد بن معاوية بجسده بعد قتله :" يا بني ما يضر سلخ الشاة بعد ذبحها؟ فامض على بصيرتك واستعن بالله". ومضى بشجاعة مقبل غير مدبر حتى لاقى مصيره المحتوم مقتولا مصلوبا.
اسمح لي يا عبد السلام البكر أن أتصرف بقصيدتك اليوم، وأقول من وحي قصة نضال لومومبا التي عادت بعد 61 عاما لتؤكد أن النضال باق والاحتلال والظلم إلى زوال.
يأبى ولاؤك أن تضمك حفرة فأنت لأولى أن تضم الأنهرا
كينشاسا قلبك ما تبقت بقعة إلا لثمت ترابها متعفرا
ثم ارتقت ذرات جسمك صُعدا لتضم أرض الكونغو وأكثرا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت