عيسى الذي تجاوز الصليب وكرز بالضوء

بقلم: المتوكل طه

  • المتوكل طه

***

عيسى قراقع ؛

مبدعٌ مناضلٌ يذرع فردوسه السماويّ المنهوب! رأيناه مع الهتاف الساخن المتعالي، بعد أن كان أسيراً مُحرَّراً، وبوصلةً تدلّ على الأحرار في عتمات الباستيلات، لتظلّ قضيّتهم ممرعةً في الحضور.

في صوت عيسى قراقع دمُ الشهداء، ونداءات الأسرى، وبُحّة المُلحفِين على الحياة والكرامة.

وإن سرديّات وقصص وخواطر وقصائد عيسى، بين دفتيْ هذا الكتاب ، تؤهّله لأن يكون كتاب العذاب الذي اصطلينا به، وكتاب الإصرار والأمل الذي نشرّعه رايةً لا تنكسر مهما اشتدت العواصف الهوجاء. وهو مجلّدٌ يصلح لأن يكون ببلوغرافيا منقوعة بالبطولات والمشاهد الخارقة ، بأسلوبٍ يُوَّلِّدُ من عذراء اللغة حيوات طازجة مشرقة ورهيفة مثل حدّ النّصل .

إن مَن يريد أن يقرأ الحياة الفلسطينية، في اشتباكها الصعب والشرس مع الاحتلال، سيجد ضالّته في هذه الصفحات التي تمور بحكايات مستحيلة، تصل في معظمها إلى ذروات اللامعقول، حتى تكاد أن تقول إن الواقع الفلسطيني المغموس بحمأة الصدام، يتجاوز الفنتازيا، وهو أبعد من السوريالية وتجنيح الخيالات، وأشدّ غرابة من غير المُتَوَقّع والمألوف.

ولعل احتفاء الأخ عيسى بأبطال حقيقيين من لحم ودم، على كثرتهم، من شهداء وأسرى وجرحى ومُقاوِمين وقادة وأطفال ونساء وقرى بأكملها وأشجار وغناء، يجعل الشعب الفلسطيني المرابط الصامد، برمّته،  أسطورة ممتدة، في عُرْسٍ استثنائيٍ لا ينتهي، موضحاً القدرة الفذّة، والتضحيات الجسام، والميزات الخاصة، التي، على ما يبدو، لا يتميّز بها غير هذا الشعب الفلسطينيّ البليغ بعطائه غير المحدود، واحتماله للآلام التي تنوء بها الجبال، واجتراحاته للفرح رغم القتامة والسحجات والفجائع.

إن عيسى صاحب الألوان السحرية التي دلحها على صفحات هذا الكتاب.. استطاع أن يُشكّل منها لوحة خرافيّة شاملة جامعة، تصلح لأن تكون صورتنا، دون مبالغات ورطانة وادّعاء وتزوّد.

إن هذا الكتاب هو إنجيل الفلسطينيين، الذي جاءت آياته من البلاد، على لسان رسول أرضيّ، حتى لا يضيع النجيع، الذي لم يتخثّر في شقوق الغياب.. كما أن هذه الآيات الحقيقية المُعجِزة تردّ العدم، وتملأ الذاكرة بكل ما هو جليل ومثاليّ فعليّ.

عيسى، كاهن النبوءة والمطر هو الناطق الرسمي باسم الرابضين بزهو في الأسداف والقيود والراسفين الناظرين إلى نوافذ الفضاء غير المسقوف. وهو الذي يختصر الحالة الفلسطينية، ويؤصّل مسيرة وتاريخ الشهداء فرداً فرداً، وينحاز لأبطال الحرية الذين هم في صراع مع الحرية حتى يشهقون بالحياة.

إن التداعي الذابح في نصوص عيسى تظهر لنا الشهيد الذي يقودنا إلى آخر، وتبرز لنا قصائد تقطر وجعاً وصلابة عقائدية راسخة، وفجائع تفرم القلوب، وتحيي الأساطير من جديد.

هو اسمٌ من أسماء الحرّية، التي كرز بها في الطرقات القريبة والبعيدة، أيام هيئة الأسرى والمحرّرين ونادي الأسير. وما فتئ أيامها يرفَعُ في البريّةِ ومدنها غناءَ ما وراء القضبان، والديارُ تترنّمُ بوعد الخلاص. مثلما أعلى فوق رؤوس الجبال فضّة الشهيد، ليتجدّد في الزيتون، وتظلّ القرى مطهمة بالأناشيد وعطر الرجوع والأعراس، بعد أن رنّق بخطواتهِ الصخورَ والأتربةَ، وحطّ في بيوتات الصاعدين إلى الخلود، لنرفعَ الشواهدَ ونغنّي بحنّائنا الصعبِ، ونرمي غلالاتِ ربيعنا إلى الحدودِ والصغار.. لهذا ربح روحه الوطنية المبدعة.. ففاز بالاحترام وبالرسوخ.

ومبدعنا المناضل عيسى قراقع، الذي وُلِد في مرحلة البحث عن الذات، ومع إرهاصات صعود الثورة مطلع ستينيات القرن الماضي، كان شعبهُ يَهْجِسُ كالعقربِ وَسَطَ النارِ، فانخرط وهو طالبٌ  في نداءات المقاومة، وأخذَ القرارَ المواجِهَ من قبضةِ الهزيمةِ المُغْلَقة، بعد أن تجاوزَ ذاته، ليجدها مُواجهةً، فطلع كالسنبلة الحُرّة، من بلد طاهر مغسول بدمع الثكالى ودماء الطيور البريئة وشرايين الشهداء، وانغمس في حمأة المجابهة مع النقيض، وكان مع أشقائه وراء القضبان، يقدّون زهر عمرهم في العتمة والرطوبة الخانقة، وخرجوا إلى نصف الحياة ليجعلوها كاملةً بحراكهم الأنقى والأوعى والحاسم.

ومن سيل مداده طفحت بلاد الزعتر والميرميّة والفرفحينا، التي جزّوا جدائلها الخضراء بالضوء،  لتكتبَ في تقويمها خطواتِ الرجلِ الراسخِ الذي ضفضفَ بالجُرأة، وشهد في مشهدِ الهضم الاستيطاني وسلام الجنائز والمدن التي قطعوا رؤوسها ، فكان ذا مرافعة لم تحتمل هذه الاستباحة والصفاقة والتزوير والموت المجانيّ والساديّة الاحتلالية غير المسبوقة، وكان أنْ احتشدت رُمّانتُه بغضبٍ وافرٍ وحزنٍ فائرٍ على ظلالِ الأسوار الثقيلةِ ولزوجةِ الدمِ الحرام، وجُلجلةِ المصلوبين على العقربِ المُخاتِلِ في السجون، في أزمان السيدةِ العمياء "العدالة" التي اعتقلوها في أرقامِ مجلس أمنهم مثيلَ غوانتنامو وأبو غريب، وعلى حاملاتِ الطائراتِ وطوطمِ الرعبِ السائد، وكان أبصَر قتل أخوته، واحتمل، كأنه صخرةُ البَدّ التي تعصر ولا تتكسّر، فتعطي الزيتَ لذعةَ الشهد والليمون.

وإذا كانت القوّةُ الباطِشةُ لا تؤدّي إلى الخطأِ أو الصوابِ، فإنها ينبغي أن تَخُلِّق عِلْمَاً يُلْجِمُها أو يتخّطى مِنشَارَها الذي لا يرحم. وإذا كانت كلُّ قبيلةٍ بحاجةٍ إلى أُسطورة، وكلُّ حربٍ إلى بطلٍ فإنّ أسطورتَنا هم شهداؤنا ومعتقلونا وجرحانا،، أما أبطالُنا فأولئك الذين نسجوا داخلَ مجتمعنا كوابحَ عَمِلَت على الحدِّ من الهرولةِ والتنازل، وأدت إلى تمتينِ بقاء الناسِ البُسطاءِ في بلدهم، على الرغم من الدَهَمِ والهدمِ والجوع، وكان الأخ عيسى واحداً من هؤلاء الذين تقدّموا صفوفَ رصد ما يجري بكل تفاصيله اللاهبة، حتى أصبح مُسجّلاً لمقاطع من تاريخنا الرجراج المعيش، بامتياز وانتماء ووعي، وراح يخفقُ في كلِّ اتجاهٍ، وتمضي اجتراحاتُهُ في إقامة كلِّ بناءٍ حتى يرتكس الانحسارُ والتراجعُ الكابي والتعويم، بجسارة ووعي وطهارة.

لقد عَرفنا المناضل الكاتب القائد الأخ أبا خالد وهو في السجنِ أيام تلكَ الانتفاضة العبقريةِ، وكان لسانُ حالهِ يقول لمحتلّيه: أنتم تخشونَ قتلنا أكثر مما نخافُ من الموتِ، وأنتم أيها المحتلون تهشّمونَ عظامَنا وتكسّرون ضلوعنا لكنها ستنجبرُ، أمّا كسركم فلا جبر له لأنه انكسارُ الروحِ وضياعُ ما تبقى في الإنسان للإنسانِ.

وكان يدرك الفرق بين فعل الديمقراطية الحرّة واجبةِ الوجود، وما بين ديمقراطية الفصائل البراغماتية التي تعاني من أزمات بنيوية عميقة، فذهب إلى العمل الملتزم مباشرةً تاركاً خلفهُ غُثاءَ الكلام ورمادَ الألقابِ، وكأنه قال: عندما لا يسمعك الناسُ عليك أن تتبَعهم أو تسير وحدَكَ، فسارَ  مع روح شعبه إلى الحراك الفذّ النظيف، فوجدَ خلفه الناسَ الشرفاءُ يتبعونهُ واثقين مطمئنين. فجاءت خطواته مثل كلماته؛ مجداً منقوشاً على الحجرِ وفي النيران الأبديةِ.

وأبو خالد مثالاً للتطهّريةِ العمليّةِ قولاً وسلوكاً لأنه طيبٌ في خُلُقِهِ وخَلْقِه، وأنموذجاً للالتزام ببطانته الوطنية وبمعناها الأخلاقي والنظري، البعيد عن الغرضِ والظلامية والانغلاق والتزمّت الأعمى، فنال هذا الامتياز. ولعلّنا هنا لنَقْبسَ من وهج هذا النموذج والمثال وَنَشْحذَ الأرواحَ الطالعةَ.

والصديق عيسى المقاتل بكل ما أوتي من إبداع وفعل، هو واحد من أبناء الشمس الذين أنبتوا يراعات النور في الحقول والثوابت وأبقوها نابضةً حيّة، بدءاً من تسجيل كل المعانيات المصوّحة، وحادِياً لكلّ الاستطالات الجامحة، ومثبِّتاً لكل المحطّات التي يجب أن نصبّها في المدارك، ليبقى الوجدان الوطني فيّاضاً بالحقيقة والحقّ.. دون أن يغفل عن الثوابتُ وإعادةُ بعثِ الحياةِ في مؤسساتنا بشفافية وعَدْلٍ وقانون، والتصدّي المُميتُ لعولمةِ الانهيار والعبودية. لهذا أعلن ذاته مع حقوقِنا وثوابتِنا وحقِنا الساطع الذي له مضى شهداؤنا وأسْرانا وجرحانا الأشاوس.. لتظل للشهداء الأحياء الأبرارِ ذِكْرى  مُخضلّةٌ بالخلود، وللبسطاء البقاءُ والوطنُ، وللأسرى نافذة الأمل المُشرعة حتى اكتمال الخلاص.

إن عيسى قراقع نحلة سماوية تمتص نسغ الجروح وبتلات الروح، ثم تقدّمها وردة وحشية من عسل كاوٍ حريف. وإن سردياته التي تتفجّر وجعاً وتفتح شبابيك العزّة والمستقبل، هي ابداعات نبعت من الميدان، غير أنها تتميّز بالنضج والفنّية والعافية الابداعية، كيف لا وهو المنخرط بالواقع ، وصاحب البيرق الذي يلوّح من الكرمل إلى قبة الصخرة، ومن أمّ الرشراش إلى غزة وحيفا. بهدف استعادة البلاد ، على طريق العودة الأكيد، إلى الأرض الأولى.

شكراً جميلاً أخي عيسى على هذا الكلام الذي يعلو على الكلام .

 

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت