- جهاد حرب
التهديد الذي تعرضت له مؤسسة عبد المحسن القطان لمنع إقامة حفلة غنائية داخل المؤسسة وقبلها الاعتداء على مسيرة مسرح عشتار في رام الله التحتا وبينهما الاعتداء على الدكتور ناصر الدين الشاعر وعائلة محمود حجاب في نابلس، يعبر عن انهيار قيمي وانفلات اجتماعي وفوضى يخل في بنية العقد الاجتماعي القائم على التعددية والشراكة والمواطنة، ويظهر مدى ضعف المؤسسة الرسمية في مواجهة الإرهاب الفكري والاجتماعي التي تمارسه جماعات وأفراد لصياغة المجتمع الفلسطيني وثقافته، وفقا لأهوائهم وطبيعة ميولهم، وبفرض توجهاتهم بالقوة والعنف والإرهاب والتحريض وبخطاب مليء بالكراهية.
في ظني أنَّ هذه الأفعال تأتي في سياق تراجع القيم الاجتماعية لدى المجتمع الفلسطيني القائمة على الشراكة والتضامن المنبثقة من قيم الدولة؛ أي العقد الاجتماعي المُوثق في وثيقة اعلان الاستقلال والداعي إلى مشاركة المواطنين جميعاً بغض النظر عن لونهم أو جنسهم أو ميولهم أو اتجاهاتهم السياسية أو العقائدية للمساهمة في بناء الهوية الوطنية والثقافية لدولة فلسطين، فهذه الدولة والأرض والبناء الثقافي ملكٌ للفلسطينيين كافة، وليست حكراً على تنظيم سياسي أو توجه فكري أو عقائدي أو فئة اجتماعية، يتفاعلون فيما بينهم للوصول إلى هوية جامعة تقبل بالاختلاف والتعدد والتنوع وفقاً لقواعد الأساس الحاكمة في وثيقة اعلان الاستقلال والناظمة لطبيعة العلاقة ما بين المجتمع والأفراد وما بين الدولة التي تحتكر العنف المشروع لاحترام سلامة التعاقد القائم بين أفراد المجتمع؛ أيْ أنَّ الدولة هي المفوضة بضمان احترام هذه العلاقات وفقا للعقد الاجتماعي ويمكنها لذلك استخدام القوة المشروعة.
وفي هذا السياق فإن حراس المجتمع هم مؤسسات الدولة التي تقع على عاتقها مسؤولية متابعة احترام قواعد القانون العام الناظم للحياة العامة وهم لذلك يحتكون حق استخدام القوة المشروعة المحكومة بالأساس بالقانون الناظم لعملها ملتزمون بقواعد الأساس لوثيقة إعلان الاستقلال وأحكام القانون الأساسي الفلسطيني. أما حراس الفكر؛ أولئك الأشخاص الذين ينشرون أو يدافعون عن آرائهم ومعتقداتهم وفكرهم أو أحزابهم وجماعاتهم للتأثير على الآخرين، فلديهم الحق باستخدام الوسائل المشروعة التي يسمح بها القانون، دون استخدام وسائل عنفٍ أو التهديد به أو خطاب التحريض والحقد والكراهية، وبما ينسجم مع محاولات تطوير البنى الثقافية المشتركة لضمان العيش المشترك لجميع الفلسطينيين.
إنَّ امعان مؤسسات الدولة والشخصيات السياسية النافذة فيها باستخدام أدوات اجتماعية تتناقض مع قيم الدولة المدنية، وتخليها عن ضمان الحق بالتعبير وحماية ممارسته من قبل الأفراد، وعدم محاسبة المعتدين؛ أتاح الفرصة لظهور الانفلات والفوضى في المجتمع وتراجع قيم العيش المشترك القائمة على احترام الآخرين وانسانيتهم، ولإفلات المجرمين من العقاب. الأمر الذي تكون نتيجته فرض محاكم تفتيش من قبل مجموعات عصبوية أو مسلحة لا تؤمن بالتنوع، وتأخذ على عاتقها تلوين المجتمع بلونها الظلامي، وتخرق القانون غير آبه بمؤسسات الدولة بل تجعل من نفسها بديلاً عن مؤسسات إنفاذ القانون ذاتها.
في الجانب الآخر، لم يعد مقبولاً سكوت منظمات المجتمع المدني على هذه الأفعال، والاكتفاء بالشجب والإدانة والتنديد بالاعتداءات على المؤسسات الثقافية والعاملين فيها. الأمر الذي يتطلب وحدة حالة تجمع بينها، واستخدام وسائل أكثر تأثيراً على مؤسسات الدولة للقيام بواجبها لحماية هذه المؤسسات وضمان الإبداع الثقافي، واستثمار قدراتها على النفاذ إلى المجتمع عبر أدواتها المختلفة والمتعددة برسالة واضحة ومحددة قادرة على إحداث التغيير الاجتماعي لبناء المجتمع التقدمي الضامن لحماية التنوع والتعدد والاختلاف بما ينسجم مع قواعد الأساس في وثيقة إعلان الاستقلال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت