- بقلم : ميساء أبو زيدان.
انتهت الجولة بنتيجة (46 شهيد: تحرير أسيرين) حسبما أفادت المصادر، والتي يبدو أنها جاءت لصالح كلّ الأطراف باستثناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لِنصطدم كما سالف الجولات بجملة مفردات لطالما تجرعناها إيماناً كالـ(الوطنية)، ومفردات وصفت علاقتنا مع هذه الفلسطين الوطن كـ(الانتماء). يعترضنا خلال ذلك كله شعور التقزز بِفِعل كلماتٍ صمّاء حولت العديد منا لمراجلٍ تغلي عجزاً، كونها خرجت هذه المرة من أفواهٍ فلسطينية، كنا قد استنكرناها (الكلمات) سابقاً على غير الفلسطيني، كـ(نُدين) و(نَستنكر) و(نُحذر) و(نَتوعد)، وغيرها الكثير الذي يرافق كل جولة (مذبحة) عسكرية تُرتَكب بحق القطاع المعزول عن نطاق الحياة.
بالأمس طُويت صفحة من صفحات جزع وآلام شعبنا الرهين والمُحاصر في محافظاتنا الجنوبية، لكنّ مجلد القهر والهوان ما زال مشرّعاً فيها وعلى مصراعيه، كما صفحة الجرائم المُرتَكبة يومياً في القدس والمحافظات الشمالية، حيث الاجتياحات والاغتيالات والاعتقالات، وهدم المنازل، وسلب الأراضي، وجملة السياسيات الإسرائيلية المُستَهدِفة لصمود ووجود الفلسطيني على أرضه، لنستحضر فورها واقع المشروع الوطني الذي قادته منظمة التحرير الفلسطينية، بظل المتغيرات التي تحيطه ومجمل التحديات الجدّية التي تبرز بكلّ مسار. لكن صفحة العامل الذاتي والسلوك بمختلف مدارات فلك المشروع الوطني لن تُطوَ.
مؤشراتٌ عديدة لاحت منذ نهاية الأسبوع الماضي أبرزت جملة من المسائل والقضايا؛ منها كيف انكبّ السواد الأعظم (النخب تحديداً) لتفسير دوافع التوجه والسلوك الإسرائيلي لا الفعل الفلسطيني بمنطلقاته وانعكاساته، في تسليمٍ لعلاقة الفاعل بالمفعولِ به وحسب الميدان! كذلك عدم الالتفات لمنهج الآخر في إدارة الموقف ومقاربته بكيف أدرنا (منقسمين) ردة الفعل، ومنها أيضاً كيف انغمس العديد من الحركة الوطنية في أتون الجولة بعيداً عن مركزية وحقيقة المعركة، استدراكاً منهم وعلى ما يبدو الخوض في طبيعة بعض المكونات بالمشهد الفلسطيني، أو استعراض تدخلات أطرافٍ في الإقليم، الأشد إيلاماً هو سيطرة مختلف الماكينات الإعلامية على حساب الخطاب والإعلام الفلسطيني الوطنيّ الصبغة والمُبتغى!
منذ أن انسحب الإسرائيليون من غزة عام 2005 تجلّت العقبة الرئيسية أمام المشروع الوطني الذي قادته م.ت.ف، سيّما وأنّ قادة الكيان الصهيوني أدركوا مقومات الفعل النضالي، فانتهجوا السياسيات التي استهدفت شكل علاقة الفلسطيني بوطنه، وسلبت ثقته بحتمية انتصار قضيته العادلة، فقدمتْ مكونات على حساب الدور الأساس للمظلة الوطنية الجامعة، ومُكِّنَتْ أمراً واقعاً على حساب لَبِناتْ المشروع (المقدرات) التي جاءت بالغالي من التضحيات، في تكريسٍ لمعتزلات جغرافية ستُعمق دقّ المسمار في نعش الكيانية الوطنية.
بات الفعل الوطني اليوم رهن (الولاء)، فالشخص والعائلة والعشيرة والفصيل والدين والجغرافيا تقدموا في الوعي الجمعي على مكانة الأرض والتاريخ والهوية والوطن ليتقهقر (الانتماء)، كان للسلوك الدور الرئيس بذلك، تحديداً سلوك البعض مِمَنْ تبوؤا الوطنية خياراً. بِخضم هذا كله أصبح اعتياد مشاهد القهر والفزع والحرمان وظلم الإنسان في قطاع غزة أمراً مُتَقبّلاً، واغتيال واعتقال الفلسطيني في شوارع المدن والقرى والمخيمات بالضفة الغربية خبراً عابراً، وانتشار البؤر الاستعمارية (الاستيطانية) وعربدة العابرون عن هذه الأرض من عنصريّين متطرفين واقعاً مسلماً به، واستلاب أعمار فلذّات كبد الوطن بحدود جدران الباستيلات وصقيعها قدراً لا جدوى من مجابهته بما امتلكنا من مُقَدّر حقوقي، والتصدي الجماهيري لتهويد مدينة القدس العربية فعلاً طارئاً. مقابل هذا كله أمست الجهوية والزعامة والقبلية والحزبية خطوطاً مقدسة تتقدم تضحيات الشعب ونضالاته. لهذا ستُمسي صورة أشلاء أطفالنا موسمية التعاطف والاهتمام، ستتلاشى كذلك صرخات نسائنا ولن تخرق آذان الرجال!
مهما كانت دوافع الاحتلال لارتكاب جرائمه انتخابية أم أمنية أم سياسية، وكيفما تدخلت أطراف في المنطقة والإقليم في جرائم ذبحنا والرقص على دمائنا، وحيثما كانت مرجعيات قرار البعض من بنيّ جلدتنا، لن يُجدِّ إدراكها وتفسيرها ما لم تعيد الحركة الوطنية (بظل المناخات المحيطة والمتغيرات الدولية) الاعتبار لدورها النضالي الرئيس، ولفعلها وعناوينها، وبما يستند للإرادة الشعبية الواعية التي ورغم ما يحيق بها من كوابح ومخططات ستنفجر يوماً في وجه مَنْ خانوا الأمانة ونقضوا عهد الشهداء، فإما الاستمرار بتجسيد الوطنية مُنطلقاً وسلوكاً وفعلاً ومشروعاً أو العودة لنقطة نكون حينها قد هدرنا ما قدمه الشعب الفلسطيني على مذبح الكرامة والحرية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت