- فهد سليمان
- نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
■ مقدمة
1- على مفترق التحولات الكبرى
2- الولايات المتحدة .. تركيم التحالفات
3- محطتان هامتان .. «إعلان القدس» وقمة جدة
4- قمة طهران
5- موقع القضية الفلسطينية من هذه التطورات
مطلع آب (أغسطس) 2022
مقدمة
■ مع نهاية العام 2021، وعوامل إنفجار الأزمة تتجمع في أوكرانيا وحولها، كما وفي ملف علاقات روسيا الإتحادية مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، تكون السياسة الدولية بالعلاقات التي حكمتها والموازين التي إرتكزت إليها، قد إختتمت مرحلة متكاملة في مسارها، إستغرقت 30 عاماً، من نهاية العام 1991 إبتداءً، الذي شهد الإعلان الرسمي عن فرط عقد الإتحاد السوڤييتي، سبقه بوقت قصير الإعلان الرسمي عن إنتهاء الحرب الباردة.
■ إتسمت مرحلة العقود الثلاثة الآنف ذكرها.. 1991-2021 بأربعة أمور رئيسية: 1- هيمنة الولايات المتحدة على شئون العالم، مع إستسهالها اللجوء إلى إستخدام القوة العسكرية برعونة غير مسبوقة؛ 2- الصعود المذهل للصين من بوابة الإقتصاد، ما أشعل نار الحرب التجارية بينها وبين الولايات المتحدة؛ 3- إستعادة روسيا الإتحادية لعافيتها وقوتها وتوازنها بدءاً من العام 2000، بعد أن وضعت خلف الظهر عقد التراجع الذي عَرَّض كيانها الوطني لمخاطر جمّة، وعَرَّض أمنها القومي للإنكشاف؛ 4- سلسلة من الحروب الإقليمية والداخلية والتدخلية التي لم تنطفيء نيرانها يوماً في القارات الثلاث: آسيا، إفريقيا وأوروبا.
■ في نهاية العام 2021، قدَّرت واشنطن أنه سيكون بوسعها أن تحقق هدفها المركزي في إنهاء أي إحتمال لاستعادة روسيا وضعية الدولة التي تطل على أوروبا الطرفية جغرافياً في أوراسيا، من موقع جغرافيتها الأورو- أسيوية الممتدة، ما سوف يترتب عليه خسارة جيو- سياسية فادحة لأميركا، غير قابلة للتعويض عنها.
إن الولايات المتحدة تنطلق من مقولة أن أوروبا هي رأس الجسر الأساس بالنسبة لها على القارة الأوراسية، الذي في حال فقده سوف تخرج من هذه القارة بأسرها، وتالياً من موقع القطبية المرجعية الأولى في العالم، لذلك لا يمكن أن تقبل واشنطن أن تقوم علاقات تعاون بين أوروبا وروسيا موحدة ونِدِّية، كيلا تخرج الأولى من مدارها، كما أنها لا تقبل أن تقوم بينها وبين دول أوروبا علاقات متكافئة، فهي لا تجيز سوى علاقة التابع بالمتبوع.
من هنا، واصلت الولايات المتحدة سياستها في مواجهة روسيا لإضعافها، بتوظيف أوكرانيا
– أيضاً - في هذا الدور، وهي الدولة ذات المساحة الأكبر في أوروبا، الغنية بثرواتها الزراعية وصناعتها وموادها الأولية، وبكثافتها السكانية الوازنة عدداً والمتقدمة تأهيلاً، وبموقعها الاستراتيجي الإستثنائي – وهنا بيت القصيد - الذي يصيب من روسيا مقتلاً.
■ وفي هذا وضعت واشنطن نفسها في مأزق مستحكم، بينما كان من المفترض أن تستفيد من دروس التاريخ – مع كل التحفظات الواجبة لدى القيام بالإستعادات التاريخية – وأن تتعظ من الذي حصل مع نابليون/ فرنسا عندما هاجم – 1812 روسيا القيصرية وهو في أوج قوته؛ كما ومن الذي حصل مع هتلر/ ألمانيا عندما غزا – 1941 روسيا السوڤييتية، وهو في قمة إنتصاراته العسكرية. وها هو الغرب الأطلسي (بالمعنيين الجغرافي والتحالفي العسكري) يرتكب نفس الخطأ بمحاولته النيل من روسيا الإتحادية كيانياً بأدوات الإستنزاف العسكري، ومن بوابة إشعال الحرب في أوكرانيا.
■ فكان أن بادرت روسيا إلى قطع الطريق على هذا المخطط في 24 شباط (فبراير) 2022، بعد أن إقتنعت قيادتها أن لا مجال لأي خيار آخر.
وبعيداً عن الحكم عما أقدمت عليه روسيا بمسطرة الخطأ أو الصواب، سواء فيما خص طبيعة العمل العسكري، أو التوقيت، أو الخ..، فالمؤكد أن ما أقدمت عليه روسيا – بصرف النظر عن مدى ونوعية الإنجاز الميداني الذي سوف تحرزه - يفتتح مرحلة جديدة – بالمعنى التاريخي – في السياسة الدولية، والعلاقات الدولية، والتوازنات الدولية، الخ.. خاصة إذا أخذنا بالإعتبار أن المواجهة الجارية في أوكرانيا – موضوعياً - لها ما يماثلها من مواجهات في الشرق الأوسط الكبير، والمحيطين الهندي والهاديء، وإفريقيا، لا بل القطب الشمالي، .. ما يجعلنا نجزم بأن ما يدور حالياً في أكثر من مكان في العالم، (بأدوات الحرب، أو الإقتصاد، أو الدبلوماسية، أو التحالفات)، إنما يندرج تحت عنوان سعي عديد الدول والشعوب لكسر قطبية المرجعية العليا لأميركا في العالم، لصالح صيغة تعددية أكثر توازناً وإنصافاً وكبحاً لتغول واشنطن على شئون الكون، إن ما نشهده اليوم هو – بكل بساطة – هو عالم التحولات الكبرى، الذي نقف على مفترقه.
■ إن هذه التحولات سوف تقود – في المدى المتوسط - إلى إضعاف سياسة التفرد والهيمنة الأميركية، لصالح صيغة أخرى في العلاقات الدولية، أكثر إلتزاماً بمعايير التقيد بمباديء القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، واحترام شرعة حقوق الإنسان، ومواجهة التغير المناخي، وتأمين متطلبات الحفاظ على البيئة، والتحول إلى التكنولوجيات النظيفة، والقدرة على إحتواء الموجات الوبائية، وإطفاء نيران الحروب الإقليمية، لصالح حق الشعوب في الحرية والسيادة ضمن حدودها وعلى ترابها الوطني، وضمان أمنها القومي، وتوفير التنمية الاقتصادية والمجتمعية، والعدالة الاجتماعية لمواطنيها■
المحرر
(1)
على مفترق التحولات الكبرى
■ ضمن رؤية «إستراتيجية الدفاع الإستباقي» (preemptive)، واستشعاراً لمخاطر التهديد الوشيك، فرضت العمليات العسكرية الروسية نفسها في أوكرانيا، تحقيقاً لهدفين مترابطين؛ من جهة، قطع الطريق أمام التحضيرات العسكرية الجارية على قدم وساق من جانب حكومة كييڤ، وبدعم واسع من واشنطن، لاستعادة سيطرتها على الدونباس (وبالتحديد جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك)، وإحتلال شبه جزيرة القرم؛ ومن جهة أخرى، درء مخاطر وصول حلف الناتو إلى الحدود الروسية – الأوكرانية، ما سوف يشكل إنقلاباً على روسيا في ميزان المواجهة مع الناتو.
■ لقد شكلت هذه العمليات الميدانية بتداعياتها، لحظة إنعطاف تاريخية في العلاقات الدولية، بات العالم فيها يعيش أجواء «الحرب المعممة» (وليس العودة إلى الحرب الباردة كما يُروّج أحياناً)، التي تتجاوز بوقائعها فضلاً عن إحتمالاتها حدود أوكرانيا، إذ رأت واشنطن فيها خطوة تهدد موقع الولايات المتحدة القطبي المرجعي الأول في العالم، لجهة فتح الطريق أمام إرتقاء دول أخرى إلى مستوى القطبية المنافسة، كالصين، وروسيا الاتحادية، والهند، وغيرها؛ الأمر الذي دفع واشنطن إلى تجريد كل أسلحتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية، لإلحاق الهزيمة بالتدخل الروسي الدفاعي الإستباقي، صوناً لمصالحها الإمبريالية في كل مكان؛ فأعلنت حالة التأهب في صفوف الناتو، وقدمت هي وحلفاؤها لأوكرانيا، مساعدات عسكرية واقتصادية ومالية، بمئات المليارات من الدولارات، بهدف إطالة أمد المعركة وتحويلها إلى حرب إستنزاف لروسيا الإتحادية التي شَنَّت عليها أيضاً حرباً إقتصادية، عبر حصارٍ قاسٍ وسلسلة غير مسبوقة من العقوبات، وفرضت على الإعلام الروسي قيوداً حاولت جهدها لأن تكون محكمة، كي يتسنى لواشنطن التفرد بإدارة المعركة، وتحشيد الرأي العام الدولي، بوجهة فرض العزلة على روسيا.
■ وبالمقابل، فقد نجحت موسكو في استيعاب الموجات الأولى لهجمة دول حلف شمال الأطلسي - الناتو، ونجحت في امتصاص تداعياتها، وحافظت على تماسك إقتصادها الداخلي، وإشباع السوق بالمواد الغذائية والاستهلاكية. كما نجحت في الرد على الإجراءات العدوانية الاقتصادية بإجراءات مضادة، أدت إلى هبوط سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الروبل الروسي، مستغلة قدرتها على التحكم بتدفق الطاقة (غازاً ونفطاً) التي تشكل روسيا أحد مصادرها الكبرى، فارتفعت أسعارها، وسرعان ما تبدّت في الأفق مقدمات أزمات إقتصادية في أوروبا بشكل خاص، توازى معها إرتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة، وإرتفاع نسبة الفائدة في البنك الفيدرالي، إنعكس تراجعاً في سحب القروض للمشاريع الصغرى والوسطى. إن كل هذا يُنذر بوضع عدد من دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية على أبواب مرحلة جديدة من الركود الاقتصادي، ستكون لها تداعياتها – على الأرجح – على الاقتصاد الأميركي.
■ على إمتداد الشهور الماضية؛ إنكشفت أوروبا، بشكل متزايد، في وضع التبعية السياسية لواشنطن، تلتحق بها – عملياً بلا نقاش - في تطبيق قراراتها ضد موسكو، متجاوزة بذلك مصالح شعوبها نفسها، فشهدت هبوطاً في سعر اليورو، والأخطر من هذا، إصابة الاقتصاد الأوروبي بالإنكماش، بعد أن قاطعت أهم الدول الأوروبية مصادر الطاقة الروسية (النفط والغاز) قبل توفير البديل. ولعل تصاعد بعض الأصوات الناقدة في عدد من دول أوروبا الغربية، إعترافاً بفشل الإجراءات العقابية في كبح جماح موسكو، ودعوةً للتراجع عنها، إنما يؤشر إلى احتمال إنفكاك الموقف الأوروبي الموحد - في المدى المتوسط - عن الوضع في أوكرانيا، أو حتى إنفراط عقده، بدافع الحرص على المصلحة القومية لكل بلد على حدة.
■ من جهتها، خاضت موسكو معركة الدفاع عن مصالحها السياسية والاقتصادية والإستراتيجية الأمنية في مواجهة الهجمة الغربية تحت راية حلف الأطلسي، واتخذت سلسلة من القرارات، بالتعاون مع عدد من الدول الصديقة كالصين والهند، وإيران، وبيلاروسيا ودول أخرى، بهدف إضعاف الدور المهيمن للدولار الأميركي على الأسواق العالمية، من خلال الدعوة إلى صيغة بديلة في التعامل البيني من شأنها أن تعزز موقع عملات أخرى، في التعاملات التجارية وغيرها عبر العالم، وبما يعزز الاستقلال الاقتصادي لهذه البلدان؛ كما تطرح روسيا الإتحادية، وحلفاؤها من نسق دول البريكس خططاً دولية للحد أكثر فأكثر من النفوذ الأميركي، كاعتماد عملة أخرى إلى جانب الدولار، وتأسيس صندوق آخر للنقد الدولي، ما يساعد الدول النامية على التحرر من هيمنة الغرب الأطلسي عموماً (أي الغرب الأميركي – الأوروبي الذي يجمع المحيط الأطلسي سياسياً، إقتصادياً، عسكرياً...، بينهما)، في دأبه على فرض نفوذه وشروطه على إقتصادات العالم، وبما يخدم مصالحه الإمبريالية على حساب باقي الشعوب.
■ إن النظام الدولي القائم بدأ يهتز لصالح البحث عن صيغة بديلة، كما بدأ النظام الاقتصادي العالمي يشهد تحولات كبرى، ما يفتح الأبواب أمام إحتمالات ستستبين ملامحها أكثر فأكثر، حين تُضطر الولايات المتحدة وأوروبا – طال الزمن أم قَصُر - للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع موسكو، بشأن أوكرانيا والتغيرات الجيوسياسية والجيوإستراتيجية في شرق أوروبا وبحر البلطيق، وحين تلتقي الدول الكبرى للبحث في نظام إقتصادي عالمي أكثر توازناً، يعيد الاستقرار إلى الأسواق الدولية، وينقذ أوروبا والولايات المتحدة – ولو إلى حين - من مخاطر التضخم، والركود، وتراجع معدلات النمو الإقتصادي.
■ وإذا ما أخذنا بالإعتبار، إلى جانب كل هذا، الأوضاع غير المستقرة في آسيا، من منظور العلاقة بين الصين من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، إن بشأن تايوان – وهي المسألة الأكثر حساسية وجوهرية في العلاقات الصينية/الأميركية - ومستقبل وحدتها مع الوطن الأم، أو بشأن تصاعد النفوذ الصيني الاقتصادي (وبالتالي السياسي) في سياق المشروع الصيني الإستراتيجي عابر القارات براً وبحراً، أي مشروع «الطريق والحزام» بمحاوره الجغرافية الممتدة، ما جعل مجموعة السبعة الكبار (G7) في إجتماعها أواخر حزيران (يونيو) 2022، ترصد مبلغ 600 مليار دولار لمجابهته، من خلال إعتماد مشروع إعادة هيكلة سلاسل الإمداد العالمية وخطوط التجارة الدولية بعيداً عن الصين و«مشروعها»؛ إذا ما أخذنا كل هذا بالإعتبار، لأدركنا مدى التحولات التي تنتظر عالمنا، بعد فترة هيمنة غير مسبوقة للولايات المتحدة إجتازت مراحل مختلفة منذ انهيار الإتحاد السوڤييتي - 1991 حتى يومنا.
■ في هذا الإطار نشير إلى التدهور المتسارع الذي تشهده العلاقات الصينية – الأميركية، إثر زيارة بيلوسي – Pelosi، رئيسة مجلس النواب الأميركي - 2/8/2022 – لجزيرة تايوان، التي تعتبر – بحكم الموقع الرسمي الذي تتقلده بيلوسي، وهو الثالث في قمة الهرم السياسي – إنتهاكاً سافراً لما تعهدت به واشنطن رسمياً في بيان إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الصين – 1979، بأن «الولايات المتحدة الأميركية تعترف بأن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة للصين. وفي هذا السياق، سيُبقي الشعب الأميركي على العلاقات الثقافية والتجارية والعلاقات الأخرى غير الرسمية مع أهل تايوان.»
إن مسألة تايوان ستشكل بعد هذه الزيارة نقطة تحول في تفكير بيجنغ حيال هذا الملف، الذي يفاقم طابعه المتفجر سعي واشنطن المحموم للتقدم في مخطط التطويق الاستراتيجي للصين في سياق الصراع المعلن حول أمرين: إلى من تؤول السيطرة على غرب المحيط الهاديء + من يتحكم بالممرات المائية بين المحيطين الهندي والهاديء، الشريان الحيوي دولياً في بنية النقل البحري.
■ إن دفع واشنطن نحو تسعير الصراعات في العالم، بما تستدعيه هذه السياسة من فسخ للشراكات في المجالات الاقتصادية والمالية وفي ميدان الطاقة والتبادل التكنولوجي والثقافي ... بين الغرب ومن يتبعه، وبين روسيا وإيران، وبحدود معينة الصين، وبلدان أخرى على الأرجح، سيقود إلى إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية الدولية والمالية، وإستتباعاً – السياسية على قاعدة الأولويات الإستراتيجية والجيوسياسية، وليس المنافع الاقتصادية التي إنطلقت بقوة في تسعينيات ق 20 عابرة الحدود والحواجز بسيولة متعاظمة، في سياق تمدد العولمة بكل تجلياتها.
■ وبالخلاصة، ليس من قبيل التسرع التوقع بأن الغرب الأطلسي لن يبقى هو محور العالم، هذا ما تنبيء به التحولات الكبرى الجارية بتسارع نسبي؛ وإن الدولار لن يعود هو سيد الأسواق العالمية، بل بات عليه أن يفسح مكاناً لعملات أخرى، تتطلع لأن تحتل مكانها وتوطّد مكانتها على الصعيد العالمي، وأن تعيد الأمور إلى ما قبل إتفاق «بريتون وودز»- 1944، الذي توَّج الدولار مرجعاً معيارياً للعملات الأخرى في العالم الرأسمالي.
كما أن الناتو، رغم كونه الحلف العسكري السياسي الأكبر والأقوى في العالم، لم يعد حلفاً طليق اليدين، في ظل التوازنات الدولية الناشئة، ما يبقيه – لا ريب - طرفاً قوياً ومؤثراً في العلاقات الدولية، إنما ليس الطرف الوحيد، أو حتى ليس الأهم في عدد من الحالات■
(2)
الولايات المتحدة .. تركيم التحالفات
■ تقوم عناصر القوة الأميركية على أعمدة القوة الذاتية الناجمة عن قوة إقتصادها، وتفوقها العلمي والتكنولوجي وفي شتى مجالات القوة الناعمة، إلى جانب قوتها العسكرية التي تجمع ما بين ميزتي إمتلاك أدوات الردع النووي + القدرة المتفوقة على سرعة الإنتشار إستناداً إلى إمتلاكها لحوالي 150 قاعدة عسكرية خارج الولايات المتحدة في أربع جهات الأرض، فضلاً عن أسطول بحري يسيطر على جميع الممرات المائية في العالم، باستثناء القطب الشمالي، حيث التفوق الروسي سيد المكان.
إلى جانب مقومات القوة الذاتية، تملك الولايات المتحدة وسائل السيطرة على أهم تحالف عسكري موجود في العالم (الناتو) + أهم المؤسسات المالية التي تتحكم بإقتصادات العالم (صندوق النقد الدولي + البنك الدولي + ...)، فضلاً عن الصيغ المؤتمرية والمؤسسية التي تتحكم بإدارة إقتصاد العالم (من مجموعة ال ـ7G، إلى منتدى دافوس، الخ ...).
■أمام صعود التحديات الناجمة عن تعاظم قوة ونفوذ ودور روسيا والصين وإيران وغيرها من الدول، وإضافة إلى عناصر القوة التي تملك، شرعت الولايات المتحدة بتحصين مواقعها، وهي تحضر نفسها للمواجهات الشاملة المقبلة عليها لا محالة، من خلال بناء صيغ تحالفية إضافية، تتكيف وطبيعة الشرط الإقليمي السائد، ففي نهاية المطاف ليست أوكرانيا وفي إمتدادها أوروبا الشرقية هي الساحة الوحيدة التي تخوض فيها الولايات المتحدة حربها للحفاظ على مصالحها الإمبريالية وموقعيتها القطبية، بل هنالك مناطق أخرى في العالم (بحر الصين الشرقي والجنوبي، وبينهما تايوان، ...)، تشهد مواجهات مهمة تنطوي على عوامل الإنفجار، وهذا ما نلاحظه بشكل خاص في المحيطين الهندي والهاديء، بما يشمل الدول الكبرى المطلّة عليهما، حيث ترى واشنطن في الصين كقوة صاعدة دولياً منافساً خطيراً.
■في هذا الفضاء الجيوسياسي المتنوع والمتوتر في آن، تعمل الولايات المتحدة على إقامة تحالفات وبناء شراكات ومجالات تعاون إقليمية ودولية، لأغراض إقتصادية، أمنية وعسكرية. إن الفقرة 2 من البيان الختامي لقمة جدة العربية – الأميركية التي سنأتي على ذكرها، تعبر بوضوح عن هذا المنحى في توجهات واشنطن بالنسبة لإقليم الشرق الأوسط على سبيل المثال، بنصها على ترحيب القادة المؤتمرين «بتأكيد الرئيس بايدن على الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لشراكاتها الإستراتيجية الممتدة لعقود في الشرق الأوسط، وإلتزام الولايات المتحدة الدائم بأمن شركاء الولايات المتحدة، والدفاع عن أراضيهم، وإدراكها للدور المركزي للمنطقة في ربط المحيطين الهندي والهاديء بأوروبا وإفريقيا والأميركيتين.»
■ إن أبرز ما حققته واشنطن في هذا المضمار منذ بداية ولاية بايدن – 2021، يتمثل بما يلي:
1- تحالف أوكوس (AUKUS) في المحيط الهاديء بين أوستراليا (A) والمملكة المتحدة (UK) والولايات المتحدة (US).
2- «التحالف الرباعي للحوار الأمني» في إطار الكواد (Quad)، الذي يوازي – بحسب وزير خارجية الصين - حلف الناتو في منطقة المحيطين الهندي والهاديء، والذي يضم الولايات المتحدة + أوستراليا + الهند + اليابان.
3- مجموعة الـ2U + 2I التي تضم الولايات المتحدة (U) والإمارات المتحدة (U)، والهند (I) وإسرائيل (I)، التي تهدف إلى تعميق «التعاون الاقتصادي والسياسي في الشرق الأوسط وآسيا، بما في ذلك التجارة + تغيير المناخ + الطاقة + الأمن البحري»، وبما يوطد الربط الإستراتيجي بين المتوسط والخليج والمحيط الهندي.
4- وأخيراً، لا تفوتنا الإشارة إلى مجموعة الـ G12 التي تضم إلى جانب الـ G7 (الولايات المتحدة + كندا + بريطانيا + ألمانيا + فرنسا + إيطاليا + اليابان)، البلدان التالية: أوستراليا + نيوزيلندا + كوريا الجنوبية + الإتحاد الأوروبي + الناتو (المكوِّن العسكري الرابط بين مختلف البلدان).
■ وإلى دبلوماسية التحالفات، تأتي دبلوماسية الزيارات على مستويات رسمية رفيعة في إدارة بايدن، تستهدف المناطق التي يدور فيها الصراع على أشده مع روسيا والصين وإيران:
• ففي الشرق الأوسط، شهدنا مؤخراً زيارة الرئيس الأميركي إلى فلسطين المحتلة والسعودية (تموز/يوليو 2022).
• وفي آسيا، قامت رئيسة مجلس النواب بجولة شملت تايوان، ماليزيا، كوريا الجنوبية واليابان (آب/ أغسطس 2022). ويجري التحضير لاسضافة قادة دول جزر المحيط الهاديء (عددها 12 دولة – أرخبيل جزر) في البيت الأبيض – (أيلول/سبتمبر 2022).
• وفي إفريقيا، بعد فترة وجيزة من الجولة التي قام بها لاڤروڤ وزير خارجية روسيا في القارة، يقوم وزير الخارجية بلينكن بجولة (آب/أغسطس 2022) تشمل جنوب إفريقيا، والكونغو – برازاڤيل،.. حيث يجري التحضير لقمة إفريقية – أميركية تنعقد في واشنطن (كانون الأول/ ديسمبر 2022). وفي الوقت نفسه كشفت واشنطن النقاب عن وثيقة سياسية تعلن عن إصلاح شامل لسياستها في إفريقيا جنوب الصحراء، في مواجهة الحضور الصيني والروسي.
■ هذه عيّنة معبِّرة عن النشاط الدبلوماسي الأميركي (وليس كل النشاط بطبيعة الحال) الذي يرمي إلى تحشيد القوى، وتجييشها إن أمكن، ضمن دينامية تقاطب حدّي على مستوى كوني تعزز حال «الحرب المعممة» بشتى الأشكال والأساليب، من الإقتصادية والتجارية والتكنولوجية صعوداً، وصولاً إلى إستعادة سيناريوات الحروب بالواسطة (Proxy) التي راجت سوقها في فترة الحرب الباردة، وكما هو الحال الآن في المواجهة الدائرة رحاها في أوكرانيا حيث تخوض روسيا حرباً بالوكالة مع الناتو.
■ وغني عن القول، إن دبلوماسية من هذا القبيل تستعيد أساليب الحرب الباردة، إذ تؤدي إلى إستحثاث التقاطب وتعميمه على القارات، فإنها تستدعي – منطقياً - إجراء تعديلات على مستوى «العقيدة العسكرية» للدول المنخرطة في هذا الصراع، كما حصل في روسيا مؤخراً مع «تعديل العقيدة البحرية إستجابة للتحديات الجديدة والأوضاع الجيوسياسية الراهنة في العالم» التي أقرها بوتين- 31/7/2022، معلناً: «لقد رسمنا علناً حدوداً ومناطق المصالح الوطنية لروسيا»، التي تشمل إلى جانب المياه التي تشاطئها روسيا مباشرة من البحر الأسود إلى البلطيق، والقطب الشمالي، والمياه الممتدة من مضيق بيرنغ الفاصل بين ألاسكا وروسيا، إلى جزر كوريل بجوار اليابان، وصولاً إلى البحر المتوسط، والبحر الأحمر... إن البلدان الرئيسية المعنية بهذا الصراع، سوف تقف عاجلاً أم آجلاً أمام إستحقاق تعديل العقيدة العسكرية التي تسقف إستراتيجيتها، التي ستكون والحال هكذا، إما هجومية، أو دفاعية مبادرة■
(3)
محطتان هامتان: «إعلان القدس» وقمة جدة
[■ الشرق الأوسط الكبير – ومشرقه بالتخصيص – بموقعه الجيو- سياسي/ إقتصادي/ إستراتيجي، يقع في صلب إهتمامات الولايات المتحدة؛ هذا ما تؤكده الوقائع المتواترة، قديمها وحديثها، وبالتالي لن يكون هذا الإقليم بمنأى عن تداعيات «الحرب المعممة» التي تخوضها واشنطن دفاعاً عن مصالحها في مواجهة الدول الصاعدة (الصين بخاصة إلى جانب روسيا وإيران ودول أخرى)، ومن موقع درء أي تحولات تمس الموقع القطبي المرجعي الذي تشغله الولايات المتحدة في المعادلة الدولية.
■ على هذه الخلفية نقرأ المغزى ونفهم الهدف من زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة – من 13 إلى 17/7/2022 - بمحطتيها الأهم: إسرائيل التي صدر عنها «إعلان القدس للشراكة الإستراتيجية المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل» - 14/7/2022، وقمة جدة – 16/7/2022، التي ضمّت الدول الست لمجلس التعاون الخليجي + مصر + الأردن + العراق، وبمشاركة الرئيس الأميركي، ما يمكن إعتباره قمة أميركية – عربية مشرقية بامتياز.
■ أما الرابط ما بين المحطتين، فقد لخصه «إعلان القدس» بالنص على إلتزام الولايات المتحدة «بمواصلة لعب دور فعّال بما في ذلك في سياق زيارة الرئيس المقبلة إلى المملكة العربية السعودية، في بناء هيكل إقليمي قوي؛ لتعميق العلاقات بين إسرائيل وجميع شركائها الإقليميين، لدفع التكامل الإقليمي لإسرائيل مع مرور الوقت وتوسيع دائرة السلام لتشمل المزيد من الدول العربية والإسلامية»:]
1- «إعلان القدس»
■ يتبنى «الإعلان» ما تدعيه إسرائيل لنفسها في الموضوع الفلسطيني، بدءاً من العنوان الذي ينطوي على موقف واشنطن النهائي حيال مصير القدس، التي سبق لإدارة ترامب أن إعترفت بها عاصمة لدولة إسرائيل، مروراً بتأكيد يهودية الدولة، وإنتهاءً بتجاهل القضية الفلسطينية وتهميشها.
كما يتبنى عديد الأمور المهمة التي تصطف فيها واشنطن على نسق تل أبيب: توسيع «إتفاقات أبراهام» وتعزيزها وصولاً إلى دمج إسرائيل في المحيط الإقليمي، محاربة الـ B.D.S.، ومناهضة السامية المدعاة، والإرهاب المزعوم الموجه ضد دولة إسرائيل ...
■ ويبقى المستجد في كل هذا، ومن هنا أهميته، هو إشهار «التعاون في العلوم والتكنولوجيا» على مستوى شاهق وغير مسبوق، وهو التعاون القائم حصراً بين الولايات المتحدة وثلاث دول في العالم: بريطانيا، أوستراليا واليابان؛ ما يؤكد – من هذه الزاوية أيضاً - «إستثنائية العلاقة» بين واشنطن وتل أبيب.
وفي هذا الإطار يشير الإعلان إلى «إطلاق القادة حواراً إستراتيجياً جديداً رفيع المستوى بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول التكنولوجيا لتشكيل شراكة تكنولوجية بين البلدين في التقنيات الحرجة والناشئة، وكذلك في المجالات ذات الاهتمام العالمي: (...). وسيتم تصميم هذه الشراكة التكنولوجية الجديدة لتعزيز النظم الإيكولوجية للإبتكار المتبادل في البلدان والتصدي للتحديات الجيوإستراتيجية.» (التشديد من جانبنا على إمتداد مساحة النص.)
■ على أهمية كل ما سبق، يبقى الجانب الإستراتيجي الأمني هو الجانب الأهم في «إعلان القدس»، فالأمن هو محور الإعلان، وإليه تُنسب الأمور الأخرى، حيث «الإلتزام (الأميركي) الراسخ بأمن إسرائيل، ولا سيما الحفاظ على تفوقها العسكري النوعي»، و«الإلتزام الثابت على قدرة إسرائيل على ردع أعدائها وتعزيز هذه القدرة للدفاع عن نفسها ضد أي تهديد أو مجموعة من التهديدات.»
ويؤكد الإعلان «أن هذه الإلتزامات مقدسة من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري)، وأنها ليست إلتزامات أخلاقية فحسب، بل أيضاً إلتزامات إستراتيجية ذات أهمية حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة وركيزة للأمن الإقليمي.»
وفي هذا الإطار يندرج «الإلتزام الأميركي المطلق بعدم إمتلاك إيران سلاحاً نووياً، حيث تؤكد الولايات المتحدة أن جزءاً لا يتجزأ من هذا التعهد هو الإلتزام بعدم السماح أبداً لإيران بامتلاك سلاح نووي، وأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام جميع عناصر قوتها الوطنية لضمان ذلك.»■
2- قمة جدة
■ تقييم نتائج قمة جدة من زاوية مخرجاتها، لا تنطبق عليها نفس المسطرة التي استخدمناها في الحكم على نتائج المحطة التي سبقتها، حيث لم تتمكن واشنطن من إقناع السعودية والإمارات بزيادة إنتاج النفط لسد عجز الطاقة في أوروبا؛ كما لم تتمكن واشنطن من إقناع المؤتمرين باعتماد هيكل أمني متكامل مع إسرائيل في مواجهة إيران بشكل خاص، على الرغم من طمأنة بايدن القادة العرب بأن الولايات المتحدة باقية في المنطقة، ولن تغادرها، ولن تسمح بنشوء فراغ تشغله روسيا والصين أو إيران، وستظل شريكاً أمنياً ملتزماً وحليفاً إستراتيجياً على أكثر من صعيد ...
■ ومع ذلك، فقد حققت قمة جدة مجموعة من الإنجازات لواشنطن، من حيث تكريس مكانتها في الإقليم من خلال تعميق أشكال التعاون العسكري والأمني والإستخباري، وضمان حرية وأمن ممرات الملاحة البحرية (باب المندب، مضيق هرمز)، واستعداد واشنطن للعمل الجماعي مع دول مجلس التعاون الخليجي في مواجهة التهديدات الخارجية لأمنهم، وهو ما يضمن موقعاً تنافسياً جيداً في الملفات الكبرى المطروحة (الطاقة، الأمن، التجارة، التكنولوجيا، ...)، خاصة إذا أخذنا بالإعتبار أن الصين باتت الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون منذ عام 2019، بعد أن أزاحت الإتحاد الأوروبي عن هذا الموقع.
■ قمة «جدة للأمن والتنمية» بحسب مُسمّاها، كانت أيضاً مناسبة لوضع الولايات المتحدة والسعودية اللمسات الأخيرة على 13 إتفاقاً وبروتوكولاً ثنائياً ودولياً خلال إجتماع عمل عقده بايدن مع ولي العهد، منها 4 إتفاقات تطاول الجانب الأمني: التعاون في مجال الأمن السيبراني + تعزيز التعاون الأمني البحري + التعاون الدفاعي الجوي المتكامل + إزالة جنود حفظ السلام من جزيرة تيران، بعد أن وافقت السعودية على الحفاظ على كافة الإلتزامات القائمة في المنطقة المتأتية من معاهدة السلام المصرية/ الإسرائيلية – 1979، والإستمرار في تطبيقها.
ولا تفوتنا في هذا الإطار الإشارة إلى الإنجاز التطبيعي المتمم في سياق إستعادة السعودية جزيرتي صنافير وتيران، المتمثل بموافقة السعودية على فتح مجالها الجوي أمام الطائرات المدنية المتوجهة إلى إسرائيل والقادمة منها، بدعوى الإسهام بتوفير شروط تسمح للسعودية – كما ورد في تصريحات الرياض – أن تكون مركزاً عالمياً لشتى الفعاليات (!)■
(4)
قمة طهران
■ بعد أيام من قمة جدة، وفي 19/7 بالتحديد، إنعقدت قمة طهران الثلاثية – روسيا + إيران + تركيا، هي السابعة في مسار أستانة المعني بالملف السوري. ومن الواضح أن موسكو وطهران أرادتا من خلال هذه القمة النيل من أهمية جولة بايدن في المنطقة وتبهيت نتائجها.
لم تنجح قمة طهران في إحراز توافق في موضوع إختصاصها، إذ تمسك كل طرف من الأطراف الثلاثة بمواقفه المعروفة من الأوضاع في سوريا، لكن القمة – بالمقابل – حققت نتائج مهمة في اللقاءات الثنائية التي جرت على هامشها، نخص منها بالذكر اللقاء بين روسيا وإيران، اللذين – من موقع إشهار الولايات المتحدة العداء السافر لهما – يتعرضان معاً إلى حصار وعقوبات قاسية من جانب الغرب الأطلسي.
■ في هذا الإطار، حققت موسكو وطهران شراكات في مجالات شديدة الأهمية والحساسية في آن: زيادة التبادل التجاري بينهما بنسبة 40% مع إحلال العملات الوطنية – الروبل والتومان، مكان الدولار في علاقاتهما التجارية + إستثمار شركة غاز بروم الروسية بما قيمته 140 مليار$ في حقول النفط الإيرانية + تعاون في مجالات النقل والترانزيت والربط الإقليمي، بما يشمل أيضاً خطوط الطاقة + تعاون في تكنولوجيا الفضاء + تصدير المسيّرات الإيرانية إلى روسيا.
■ إن سعي واشنطن الإستقواء بعلاقاتها وتحالفاتها في الإقليم لمواجهة – إيران + روسيا + الصين، إذ يترتب عليه إقحام المنطقة بأسرها في الصراعات الدولية من بابها الأوسع، إنما يفتح – في الوقت عينه – الأفق لتطورات لاحقة، متسارعة الإيقاع، ستكون لها تداعياتها المؤكدة، لا سيما أن القطبين الروسي والإيراني قد أطلقا صافرة الإنطلاق لبناء إصطفافات مقابلة ذات بعد دولي وإقليمي في آن، بمواجهة السياسة الأميركية الساعية بدأب لبناء إصطفافات وتشكيل تحالفات وتأسيس شراكات بما تطوله أيمانها■
(5)
موقع القضية الفلسطينية
من هذه التطورات
■ إحدى تفريعات زيارة بايدن لأراضي الـ48، تمثلت بإطلالة خاطفة على الضفة الغربية من بوابتي القدس الشرقية وبيت لحم، وفي الحالتين لم تتجاوز تصريحات بايدن حدود التأكيد المبدئي على «إيمانه» بما يُسمى «حل الدولتين»، الذي لا تتوفر شروط العمل نحوه، ما يعني تأجيله إلى أجل غير مسمى، أي التسليم عملياً أنه لا يوجد حل للقضية الفلسطينية؛ وعليه إقتصرت تصريحاته على «الجوانب الإنسانية» التي تندرج في إطار «السلام الاقتصادي»، الذي يلتقي تماماً مع توجهات الحكومة الإسرائيلية.
■أما في قمة جدة، فقد وردت القضية الفلسطينية وضرورة حلها في كلمة كل من الرئيس المصري، وولي العهد السعودي، والعاهل الأردني، إلا أن هذه القضية لم تطرح إلى طاولة مؤتمر جدة، ولم تكن موضوعاً من المواضيع المثارة وذات الاهتمام، حيث إقتصر البيان الختامي (الفقرة 4) على ذكر «حل الدولتين» بمعزل عن أي عملية سياسية ذات مغزى + التأكيد على «أهمية دعم الاقتصاد الفلسطيني ووكالة الغوث» + النص المعوّم على ضرورة «وقف كل الإجراءات الأحادية التي تقوض حل الدولتين»، تهرباً من النص الصريح على موضوع الإستيطان، لعدم إحراج الجانب الأميركي، الذي دعا بصلافة قل مثيلها، إلى فصل مساعي التطبيع العربي مع إسرائيل عن القضية الفلسطينية.
■ ما سبق أمر له دلالاته، أهمها أن الولايات المتحدة لا تدرج القضية الفلسطينية على جدول أعمالها؛ وبالمقابل، فإن الحالة العربية التي إلتقت في جدة، لا تملك القدرة على تجاوز السقف الأميركي المرسوم لقضيتنا الوطنية؛ وحتى عندما أشار ولي العهد السعودي إلى مبادرة السلام العربية – 2002، فإنه قد أكد على مبادرة فقدت مضمونها، وفرضت إسرائيل إعادة صياغتها بتقديم يائها (التطبيع) على ألفها (الانسحاب، الخ ...)، وبالتالي باتت المبادرة العربية – وخاصة بعد «إتفاقات أبراهام» - ورقة بلا جدوى، خرجت من مسرح الأحداث، وصارت جزءاً من زمن ضائع راهنت فيه القيادة السياسية الفلسطينية الرسمية على حلول، إعتقدت أنه بقدر ما يتم الإصرار على المطالبة اللفظية بها، بقدر ما تنفتح أمامها الأبواب، دون أي إعتبار لموازين القوى التي ما زالت مختلّة لغير صالح الجانب الفلسطيني.
■ إن إنهماك الولايات المتحدة في حروبها الكونية ضد موسكو وبكين وطهران، ودفاعها عن موقفها وموقعها في كل مكان، لا تجد نفسها ملزمة بالإنغماس في البحث عن حل للقضية الفلسطينية، وهي تعتمد بدلاً من ذلك سياسات تقوم على التعامل التكتيكي مع الأحداث، تهدف إلى فرض حالة من الاستقرار في الإقليم، وخاصة على الجبهة الفلسطينية، بما في ذلك الحؤول دون الإنجرار إلى إنفجار آخر كـ«معركة القدس» – شهري 4 و5/2021، (التي إفتتحتها مواجهات «باب العامود» في القدس، وشكل «سيف القدس» فصل ختامها الحاسم)، وتطور الأوضاع في الضفة الغربية إلى إنفجار شامل، دون أن نتجاهل عوامل الإنفجار الكامنة في مسألة ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، وما يترتب عليها من تعقيدات ناجمة عن مسألة حقوق إستثمار حقول الغاز، وسيادة لبنان على أراضيه ومياهه.
■ غير أن هذا لا يعني أن نفوذ الولايات المتحدة في التأثير على الملف الفلسطيني قد تراجع، بل وعلى العكس من ذلك، فإن واشنطن ما زالت – منفردة – تمثل المرجعية الأهم فيما يتصل بالتعاطي الدولي والإقليمي مع القضية الفلسطينية، ما يُعزى إلى تضافر عوامل عدة، أهمها: تراجع دور دول أوروبا إلى حدود التلاشي + ثقل دور الدول المطبعة قبل «إتفاقيات أبراهام» وبعدها، وحدود قدرتها على إنتهاج سياسة فعلية ومجدية في معارضة نهج واشنطن + طبيعة القيادة الرسمية للنظام السياسي الفلسطيني وخيارات القوى الاجتماعية المؤثرة على قرارات هذه القيادة.
■ وبالمقابل، فإن الخيار الوطني الذي يفتح الطريق على أفق إنجاز الحقوق الوطنية، فكما كان، سيبقى هو طريق الإنتفاضة والمقاومة والوحدة الداخلية وتعبئة كامل طاقات الشعب الفلسطيني، فضلاً عن البناء المؤسسي الذي يعكس ديمقراطياً التعددية الفلسطينية بغناها على مستوياته القيادية. وكل هذا في إطار سياسة خارجية منفتحة على العالم بقواه المؤيدة لحقوق شعبنا، وسياسة تحالفية في المحيط العربي والإقليمي والدولي، مع تلك القوى والدول التي تقف بثبات سياسياً وعملياً، إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله العادل.
■ وإذا كانت هذه الأمور مطروحة دائماً على جدول أعمال الحركة الفلسطينية، فأنها باتت مطروحة الآن بقوة وبإلحاح أكثر، بعد أن إنتقل العالم، منذ مطلع العام 2022، إلى مرحلة جديدة، هي مرحلة «الحرب المعممة» بمختلف أشكالها وأساليبها، مرحلة التقاطبات الحادة، وإنزياح مركز ثقل علاقات القوى شرقاً، ما يفرض على جميع الأطراف ذات الصلة، أكانت دولاً، أم حركات سياسية، أو إجتماعية، أن تتحسس أوضاعها وتدقق بتحالفاتها، وأن تعيّن بدقة ورصانة موقعها على الجهة الصاعدة في التاريخ، الذي لن يكون إلا وفياً ومستجيباً لمصالح الشعوب المقهورة، التواقة لمعانقة شمس الحرية■
مطلع آب (أغسطس) 2022
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت