نحو عالم متعدد الأقطاب وفشل الرهانات الامريكيه والغربية بهزيمة روسيا

بقلم: علي ابوحبله

علي ابوحبله.webp
  • المحامي علي ابوحبله

التحولات والتطورات بفعل تداعيات الحرب الروسية الاوكرانيه  تحدث تغير في بنية النظام الدولي و تنعكس بمرد ودها على النظام الدولي وتنهي التحكم الأحادي القطبي  للولايات المتحدة الامريكيه

تعود أصول القضية الأوكرانية المعاصرة إلى العام 1991 مع تفكُّك الاتحاد السوفيتي، وحصول أوكرانيا على استقلالها في نفس العام. وفي العام 1994، جرى توقيع "مذكرة بودابست" التي تعهَّدت بموجبها روسيا الاتحادية باحترام حدود أوكرانيا في مقابل تخلِّي كييف عن ترسانتها النووية الموروثة عن الاتحاد السوفيتي لصالح روسيا. لكن سرعان ما فرضت الحسابات الجيوبوليتيكية نفسها على شرق أوروبا، مع اتجاه حلف الناتو للتمدد شرقًا. فانضمَّت جمهوريات التشيك والمجر وبولندا للحلف، عام 1999، وبين عامي 2004 و2009، انضمت 9 دول من شرق أوروبا، بعضها من الجمهوريات السوفيتية السابقة (بلغاريا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، ألبانيا، كرواتيا)، ثم لحقت بها بعد ذلك كل من الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية. وأصبح إجمالي عدد الدول التي انضمت للحلف بين 1999 و2020 نحو 14 دولة، تشكِّل نحو نصف الدول الأعضاء في الحلف الذي تأسس عام 1949.

 

ولم يعد متبقيًا من الدول العازلة بين روسيا والناتو سوى بيلاروسيا وأوكرانيا، وترى روسيا أن انضمام هاتين الدولتين إلى الناتو يعني حصارها داخل حدودها، وتصاعدت مخاوفها مع مخرجات قمة الناتو التي عُقدت في العاصمة الرومانية، بوخارست، عام 2008، عندما رحَّب الحلف بتطلع أوكرانيا وجورجيا لنيْل عضويته، وهو ما كان، من وجهة النظر الروسية، بمنزلة إعلان لحرب ممتدة بين روسيا والغرب. فبدأت روسيا سلسلة من المواجهات العسكرية لمنع هاتين الجمهوريتين من الانضمام للحلف، وكانت البداية بالحرب الروسية-الجورجية، عام 2008، وقيام روسيا بضم إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ثم الحرب الروسية-الأوكرانية، عام 2014، ثم قيام روسيا بإعلان ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية.

وردًّا على ضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم، تسارعت معدلات التعاون العسكري والأمني بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، وتُشير بعض التقديرات إلى حصول أوكرانيا خلال الفترة من 2014 إلى 2021 على نحو5.6  مليارات دولار من الولايات المتحدة، تشمل أسلحة ومعدات تدريب للجيش، ودعم مكافحة التهديدات السيبرانية، بالإضافة إلى الدعم الاستخباراتي لمواجهة التهديدات الروسية عبر "مبادرة المساعدة الأمنية الأوكرانية". كما أقرَّ حلف الناتو حزمة من المساعدات الشاملة لتعزيز الاستراتيجية الدفاعية والأمنية في أوكرانيا

وأظهرت استطلاعات الرأي خلال السنوات 2015-2021، التي أجريت داخل أوكرانيا، تنامي الاتجاهات المؤيدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو، حيث كشف استطلاع، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2021، عن تأييد 58% من الأوكرانيين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتأييد 54% الانضمام إلى الناتو، بينما أيَّد 21% فقط الانضمام إلى الاتحاد الجمركي الأوراسي بقيادة روسيا.

وفي العشرين من فبراير/شباط 2022، اعترف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، باستقلال جمهوريتين انفصلتا عن أوكرانيا هما "لوغانسك"، و"دونيتسك". وفي الرابع والعشرين من نفس الشهر، قامت القوات المسلحة الروسية بغزو عسكري شامل للأراضي الأوكرانية بدعوى أن ذلك جاء بناء على دعوة وجهتها هاتان الجمهوريتان الانفصاليتان للنظام الروسي للدفاع عنهما، في مواجهة ما أسماه النظام الروسي: "حرب الإبادة التي يشنُّها النازيون الجدد في أوكرانيا" ضد الأقليات من أصل روسي في الجمهوريتين.

وفي مقابل السياسات الروسية، توالت ردود الأفعال الدولية والإقليمية -سياسية واقتصادية وإعلامية بل وعسكرية- تجاه ما سُمِّي بـ"الغزو الروسي لأوكرانيا"، أو "العدوان الروسي على أوكرانيا"، خاصة مع حجم التدمير الذي شهدته الأراضي الأوكرانية في فترة زمنية وجيزة بعد بدء الحرب مباشرة. ومع تشابك الأطراف وتعقُّد المشهد الدولي أمام التداعيات التي ترتبت على الأزمة يبدو مهمًّا البحث في مدى تأثير الأزمة الأوكرانية، 2022، على بنية النظام الدولي.

فقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن أن الولايات المتحدة باتت غير مستعدة للمخاطرة باندلاع حرب نووية مع روسيا من أجل حماية حلفائها على غرار أوكرانيا، وهو ما تعكسه العديد من المواقف والرسائل لمسئولين  أمريكيين ، والسؤال كييف - يتواصل الصراع على النفوذ في العالم، حيث لا تزال الدول الكبرى تمارس نفوذها في مناطق معينة لخدمة مصالحها، وهو صراع يدخل مرحلة جديدة في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا.

وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أكد في نهاية العام الماضي أن الولايات المتحدة لن تناقش المخاوف الروسية بالنسبة إلى انضمام أوكرانيا لعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) ، مشيرا إلى أنه "ليس من حق دولة واحدة ممارسة مجال نفوذ، وأن تلك الفكرة يجب أن يكون مآلها مزبلة التاريخ".

وفي مؤتمر الأمن بميونخ، قبل أيام فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بادئ الأمر بأنه "عملية عسكرية خاصة"، ردد عدد من صانعي السياسات هذا التأكيد من جانب بلينكن ، بما في ذلك وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، التي قالت إن أوروبا تواجه اختيارا صعبا ".. وهذا يعني أن هذا الاختيار هو بين نظام مسؤولية مشتركة عن الأمن والسلام.. أو نظام تنافس بين القوى ومجالات النفوذ".

وتقول إيما آشفورد، الباحثة الأميركية بمركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن، في تقرير نشرته مجلة ناشيونال أنتريست الأميركية إنه لذلك من السهل معرفة سبب ترحيب الكثيرين بالحرب في أوكرانيا والنجاحات غير المتوقعة للجيش الأوكراني في صد الهجوم الروسي الأولي، في رفض لمجالات النفوذ في الشؤون العالمية، وإعادة تأكيد لفكرة وجود نظام دولي ليبرالي تقوده واشنطن تكون فيه الأعراف والقيم أكثر أهمية من القوة والنفوذ.

وترى آشفورد أن هذا خطأ كبير، فأيّ مجال نفوذ ليس مفهوما معياريا، أو شيئا ما تتنازل عنه دولة لأخرى بدافع المجاملة أو الشفقة. ويرجع الأمر ببساطة إلى وضع تكون فيه دولة عظمى غير مستعدة، أو غير قادرة على توفير الموارد الضرورية اللازمة لإرغام دولة أخرى على الخضوع. وفي هذا الصدد، لا تعتبر أوكرانيا رفضا لفكرة مجالات النفوذ، ولكنها في الحقيقة نموذج واضح لكيفية تحقق ذلك عمليا.

وأوكرانيا مؤشر واضح لحدود مجال النفوذ العالمي للولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب الباردة، ودليل على مدى قدرة روسيا على الدفاع عمّا تعتبره مجالها الإقليمي. ومن ثم، فإن الحرب في أوكرانيا ليست دليلا على استمرار اللحظة أحادية القطبية، ولكنها خط فاصل بين الفترة التي كانت تعتبر فيها واشنطن العالم كله مجال نفوذها، وعالم جديد أكثر تعددا في الأقطاب يُعتبر نفوذ الولايات المتحدة فيه محدودا ومقيدا.

وتؤكد آشفورد أن هذا يعني أن الحرب في أوكرانيا كشفت عن ثلاثة أمور بشأن تحول ميزان القوة العالمي. أولها، أنه بينما ربما لا تزال واشنطن تزعم أنها تتمتع بمجال نفوذ عالمي، فإنها غير مستعدة في الواقع للمخاطرة باندلاع حرب نووية مع روسيا من أجل حماية أوكرانيا. ولا شك أن الأسلحة، والمعلومات الاستخباراتية، والأموال ساعدت في تحول كفة الميزان في الحرب، لكن لن تخوض قوات أميركية الحرب.

والأمر الثاني، هو أنه نادرا ما تكون مجالات النفوذ غير متنازع عليها، ومن ثم فقد أثبتت روسيا أنها غير قادرة على فرض إرادتها على أوكرانيا، حيث فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية الأولية والثانوية في هذه الحرب. وعلى هذا الأساس، ربما تكون حدود أيّ مجال نفوذ روسي محتمل أقل في الواقع مما كان مفترضا قبل الرابع والعشرين من فبراير، تاريخ بدء الحرب على أوكرانيا.

والأمر الثالث، هو أنه رغم أن الكثير من تغطية الحرب في أوكرانيا يتم في نطاق هذا النهج ثنائي القطبية – أي تمثل الحرب على أنها صراع بين روسيا والغرب – لم يكن رد الفعل إزاء الحرب واضحا كثيرا، ففي خارج أوروبا، اتخذت معظم الدول نهجا أكثر تساهلا تجاه الأزمة.

وقد شاركت الدول الأفريقية والآسيوية الفقيرة في تصويت الأمم المتحدة الذي أدان روسيا، لكنها لم تشارك في العقوبات. ورفضت الهند الانحياز إلى أيّ طرف، وهو قرار له علاقة باعتمادها الجزئي على الصادرات العسكرية الروسية، وقد استفادت من الصادرات النفطية الروسية منخفضة التكلفة. ومعظم دول الخليج التزمت بحيادها، ورفضت زيادة إنتاج النفط أو حتى وصف الصراع بأنه حرب. من ناحية أخرى، التزمت بكين بالتأييد الحذر لموسكو، لكنها رفضت أيّ مشاركة سياسة أو اقتصادية أكثر عمقا.

وتقول آشفورد إن أيا من هذه الأمور لا يشير إلى أننا نعود للحظة القطبية الأحادية ما بعد الحرب الباردة، أو أننا نتجه نحو مواجهة جديدة على غرار الحرب الباردة مع روسيا، أو حتى مع روسيا والصين. ولكنها في الحقيقة تشير إلى أن العالم يشهد انقساما بصورة متزايدة إلى وضع أكثر تعقيدا ومتعدد الأقطاب، يمكن أن تؤدي فيه المغامرة والنفاذ المفرط للسياسة الخارجية للولايات المتحدة السائدة منذ وقت طويل إلى ترك الأمر يتفاقم.

وتقول آشفورد إنه رغم كل ما يتردد عن انتصار السياسة الخارجية الأميركية بالنسبة إلى أوكرانيا، سيكون من الحماقة افتراض صناع السياسة الأميركيين أن هذه الحرب تمثل تبريرا للنظام الليبرالي أو رفضا لسياسات القوة ومجالات النفوذ. وبدلا من ذلك، يشير الأمر إلى أنه يتعين عليهم تعلم الإبحار في عالم ليس مقسما إلى أبيض وأسود، ولكن إلى ظلال رمادية كثيرة.

وقد نشرت مجلة "ناشونال إنترست" مقال رأي للمحامي الدولي المتقاعد رامون ماركس، قال فيه إن الولايات المتحدة ستكون الخاسر الاستراتيجي في الحرب الأوكرانية، مهما كانت نتيجتها.

ورأى كاتب المقال أن روسيا ستكون قادرة على إعادة بناء علاقات قريبة مع الصين والدول الأخرى في القارة الأوراسية، بمن فيها الهند وإيران والسعودية ودول الخليج الأخرى، كما أنها ستدير ظهرها وبطريقة لا رجعة عنها للديمقراطيات الأوروبية وواشنطن.

ولفت ماركس إلى أنه مثلما لعب الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر "ورقة الصين" لعزل الاتحاد السوفييتي السابق أثناء الحرب الباردة، فستقوم روسيا فلاديمير بوتين وصين شي جينبنغ بلعب أوراقهما في محاولة لاحتواء القيادة الأمريكية للعالم.

كل المؤشرات تشير وتؤكد أن الحرب الروسية و الأوكرانية تنهي القطب الواحد  وتداعياتها على التحكم القطبي الأحادي للولايات المتحدة الامريكيه  نحو عالم متعدد الأقطاب والاجتياح الروسي لأوكرانيا يفتح العالم أمام صعود قوى دولية جديدة. ومؤشر لحدود مجال النفوذ العالمي لأميركا بعد الحرب الباردة، ودليل على مدى قدرة روسيا على الدفاع عن مجالها

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت