"فتح" والمُفتَرق الأصعب

بقلم: ميساء أبو زيدان

ميساء أبو زيدان.jpg
  • بقلم: ميساء أبو زيدان.

القلق هو الحال الذي تمَلّك كل مَنْ انتمى لحركة "فتح" وانخرط في صفوفها، بل وكل فلسطيني أدرك الدور الذي أدّته لأجل الهوية والقضية الوطنية، والصخب باتَ ميزة الأحاديث في الجلسات والحوارات التي تضج بأروقتها وأطرها وحتى محيطها القريب والبعيد. المؤتمر العام "الثامن" هو الحدث المُرتقب الذي يطغى على المشهد الفتحوي سيما وأنه بمثابة الفرصة الوحيدة للأجيال المتزاحمة داخل الحركة، بظل مفترق وعر بين مرحلتين رئيسيّتين مرّت بهما، حيث الفعل الكفاحي ما قبل العودة واتفاق أوسلو، والنضال بمساري التحرر والبناء ما بعد العودة للوطن الفلسطيني.

وما بين جلد الذات الشديد، والاعتقاد بأحقية الدور للتغيير، يغدو منطلق الحديث الدائر داخل الحركة، بالتوازي مع تسلل اليأس شاخصاً، بفعل التحديات المهولة المحيقة بالوطنية الفلسطينية ومقوماتها. وبين تصادم النماذج النضالية التي ازدانت بها "فتح"، والظواهر التي تكرّست سلوكاً متصلاً بالسلطة مناخاً، زاغ البصر عن  طبيعة الدور وحقيقة المكانة التي تشكلها الحركة الوطنية (الأوحد) في المنطقة المشتعلة وسط العالم المتغير وبتسارع. ليصبح الحديث عن "المؤتمر" وعقده المناسبة التي تدفع بالتحديات والمراجعات والتوجهات والتناقضات داخل الحركة لتبلغ ذروتها، طافيةً بأحيانٍ كثيرة على سطح الفعل والموقف وأحياناً القرار.

لكأن الحركة ضمّت جموعاً من الخارقين الجهابذة، أو قادة منفردين حددوا قوام الجسد الممتد حيثما حلّ الفلسطيني فور حقبة النكبة! وكأنها امتلكت منظومةً تتناسب (مُتَصدية) والمنظومةً الاستعمارية العالمية المدى والتمكين! متناسين أنها جاءت بفعل إرادةٍ استُمِدّت من الحق والقهر معاً، ما أدى بالشعب الفلسطيني لإعلان ثورته في وجه التنكر والرجعية، وأنها تكونت من شباب لاجئ ولد من رحم المأساة، لشعبٍ تفرّد فيه غلاة الاستعمار وسط مناخٍ من التواطؤ والخذلان، وأنهم مجرد أفرادٍ صاغوا هوية وطنية لشعبٍ عريق. لكأن الآخر بمستوياته (الاحتلال وما خَلْفه) مجرد استعمارٍ تقليدي، وكأن الحاضنة المحيطة قدمت ما يكفل لفلسطين تقرير مصيرها!

ولعل أخطر ما تواجهه "فتح" اليوم بظل المشروع الاستعماري وامتداداته، هو إهمال التاريخ وتفشي الذاكرة القصيرة والتقوقع حول الذات واقتطاع الراهن من سياقه الأساس، إضافةً لفقدان المقدرة على قراءة الآخر وبالتالي التراجع عن مواكبة ما يدور. ولعل أدق ما ينتظر "فتح" في هذا المنعطف هو تلاشي حدود الثغرة التي اعترتْ تتابع الأجيال، والتشبث بنموذج نضالي ولفظ الآخر، وساحةٍ دونَ الأخريات، مقابل حركة صهيونية عالمية تكرّس كل مكون وممكن للتوسع والسيطرة، وتجهد لوأد الرواية الحقيقة لإحلال زيف الروايات. وعليه تصبح الأسئلة الوجودية ضرورةً لا مناص من التوقف لتناولها وبهذه الروحية القلِقة لأعضاء وكوادر الحركة.

لقد آن الأوان لهذه الإرادة الوطنية المنفردة "فتح" أن تقرر وبأية وسيلة ممكنة، المنهج الذي ستتبناه لديمومة مساري الكفاح والنضال بمسعى التحرر والبناء، وأن تحدد مناخ مؤتمراتها، وإن كانت تريد منها أن تجدد الراهن وبالتالي السير باتجاه إبادة الفكرة، أم تحديد  ما يكفل ديمومة المسار النضالي، وبالتالي التوجه نحو ولادةٍ ثانية للفعل المُكافح. كما يتوجب على قادتها؛ خلفاء مَن صاغوا الفكرة التي أوصلتهم لما هم عليه اليوم، أن يقرروا لمواجهة استعار الآخر وتعاظم ما هو مُسخّر لصالح مشاريعه، الكيفية التي ستحدد تمثيل "فتح" ضمن مؤتمراتها وأطرها، بما ينسجم وواقع الصراع، وحال الشعب الفلسطيني بجزئيه (الداخل والخارج).

أخيراً؛ يبدو أن مهمة حفظ التضحيات التي بُذلت لأجل فلسطين وكرامة شعبها عبر ما يُقارب القرن، وحماية ما بُنيّ من مقدرات وطنية، هي برسم مَن قرروا "فتح" خياراً لنضالهم وفعلهم وبكل المستويات. وبات تفادي الانغماس بالتفاصيل المرتبطة بالذات وما يُسمى ب (الاستحقاق) والاستحواذ بِمَن صانت الحق، هو فعلٌ نضاليّ ومهمة متصدري المشهد حرفاً وموقفاً وادّعاءاً. وأصبح توريث الفكرة للأجيال القادمة ديناً في أعناق مَن عاصروا أو كانوا استمراراً وبكافة الميادين، وواجباً على مَن استمدوا فخرهم وجاههم من "فتح" صانعة الهوية والوطنية، كذلك التصدي (بثبات المواقف) لكل المحاولات البرّاقة التي ستذهب بالفلسطيني (بالنتيجة) نحو الضياع والقهر والهوان.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت