في الذكرى الحادي عشر من سبتمبر ونهاية أمريكا كقوة أحادية القطبية

بقلم: علي ابوحبله

علي ابوحبله.webp
  • إعداد وتقرير /المحامي علي ابوحبله

تأتى الذكرى  الواحد و العشرون على أحداث الحادي عشر من سبتمبر مختلفة عن ذي قبل، فقد عادت حركة طالبان إلى كابل  لتحكم أفغانستان والعراق يعاني من الانقسام بفعل تداعيات الغزو الأمريكي واحتلال العراق ، وليس اختلاف الذكرى الواحد   العشرين لأحداث سبتمبر هو الأكبر في تاريخ الإرهاب العالمي لهذا السبب وحده، ولكن لملامح ومتغيرات عديدة طرأت على المشهد العالمي؛ منها توقيع الاتفاق الأمريكي – العراقي، في 26 يوليو 2021، بإتمام انسحاب القوات الأمريكية بحلول نهاية هذا العام 30 ديسمبر 2021، واستمرار الأزمات الإقليمية والوطنية والاقتصادية في عدد من المناطق العالم وغيرها؛ ما قد يمثل مزيداً من الفرص لصعود الجماعات الجهادية في العالم.

باستحضار الذكرى الواحد والعشرين لأكبر العمليات الإرهابية في تاريخ الإرهاب العالمي، في الحادي عشر من سبتمبر 2001، لعل من أولى الملاحظات هو غياب تأثير شبكة القاعدة، في مشهد الإرهاب العالمي، بعد أن كانت تنفرد بقيادته وإدارته تماماً عند وقوع هذه الأحداث قبل واحد وعشرين عاماً.

في هذا السياق، تُطرح العديد من الأسئلة المهمة، ونحن نستقبل ذكرى مرور أكثر من عقدين على أحداث الحادي عشر من سبتمبر: فماذا  عن جدوى الحرب على الإرهاب؟ وهل نجحت أم فشلت أم راوحت مكانها بين النجاح والفشل؟ وما تغيرات مشهد الإرهاب الـمُعَولَم وصراع أيديولوجياته وأزمة رموزه وتنظيماته؟ وهل ستكون تجربة طالبان وعودتها ملهمة لغيرها من جماعات التطرف والتطرف العنيف؟ وهل يمكن عودة داعش من جديد كما نجحت في العودة سابقاً حين سقطت دولة العراق الإسلامية وعاصمتها الأنبار عام 2007، ثم عادت ثانية عام 2013 محمولة على سياسات التمييز الطائفي التي انتهجها رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، وعلى التوحش الصاعد في سوريا منذ فبراير 2011؟

تغيرات شهدها العالم أدت إلى انحسار النفوذ الأمريكي بعد الخسائر الجسيمة التي لحقت بها في العراق وأفغانستان وساهمت في تقليص وجودها في الشرق الأوسط لتدخل في صراع أممي على  المصالح والنفوذ مع الصين وروسيا

تمثل الحرب الروسية– الأوكرانية، من وجهة نظر كثيرين، النهاية الحاسمة للحظة أحادية القطب للولايات المتحدة. ويُنظر إلى هذه الحرب بشكل أكثر دقة على أنها النهاية الرسمية لشبه السلام المؤقت الذي أعقب نهاية الحرب الباردة، وتعيد العالم إلى القطبية الثنائية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين أو إلى نظام جديد تلعب فيه واشنطن وبكين دوراً أساسياً، بينما تتمحور الدول الأخرى حولهما أو تتلاعب بهما لتحقيق مصالحها.

ولكن، لماذا لم تتمكن واشنطن من الحفاظ على قيادتها العالم بمفردها لفترات أطول بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واستغلال احداث الحادي عشر من سبتمبر تحت شعار محاربة الإرهاب ، وما الذي عجل بنهاية حقبة القطب الواحد، وهل كان صانعو السياسة في الولايات المتحدة أقل ذكاءً، وأكثر توجهاً نحو الأيديولوجيات أم كانوا أقل واقعية؟

يتفق معظم المراقبين والمحللين السياسيين في واشنطن على أنه مهما كانت نتيجة القتال في أوكرانيا، فسيكون لها تأثير عميق على الحالة الأوسع للسياسة العالمية، وأن الحرب تمثل لحظة فاصلة، ومفترق طرق سيحدد شكل النظام العالمي ومستقبله. فإذا ما خسرت روسيا وانسحبت بشكل كامل (وهو أمر غير مرجح بدرجة كبيرة) سوف يحصل النظام الليبرالي العالمي على فرصة للحياة، فيما تعاني الدول الشمولية من نكسة كبيرة. وإذا ما حققت روسيا نوعاً من الانتصار وفقدت القوات الأوكرانية القدرة على القتال (وهو غير متوقع حتى الآن)، سوف تكون نكسة للنظام الليبرالي، وتتآكل معايير الاستيلاء على الأراضي بالقوة. أما إذا استمرت الحرب لفترة طويلة بشكل غير حاسم حتى تستنفد قوة الطرفين ويقبلا التوصل إلى اتفاقية سلام، سيكون من الصعب التكهن بالشروط النهائية لها، أو ما قد تسفر عنه. لكن، حتى في هذا السيناريو يمكن توقع بعض المكاسب والخسائر المتوازنة التي ستجعل روسيا أضعف على المدى الطويل.

مع ذلك، فقد بدت حرب أوكرانيا، علامة واضحة تشير إلى النهاية الرسمية لعصر الأحادية القطبية، عندما أصبحت الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وحتى السنوات القليلة الماضية، هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، واستمر شبه السلام الذي أعقب نهاية الحرب الباردة، مع قليل من الحروب التي كانت إما حروباً أهلية أو حروباً بين قوى صغيرة، أو صراعات بين قوى كبرى وقوى صغيرة، أو مزيجاً من الثلاثة، لكن الأمر المختلف في الحرب الحالية في أوكرانيا، هو أنه للمرة الأولى منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، تتنافس قوى عظمى على الجانبين المتعارضين في حرب كبرى. ما يمثل عودة إلى الأنماط المألوفة لصراعات القوى العظمى أي الحروب بالوكالة، مثلما كانت عليه الحال خلال سنوات الحرب الباردة.

غير أن البعض يجادل الآن في شأن السبب الذي منع الولايات المتحدة من الحفاظ على القطبية الأحادية لفترات أطول مثلما كان متوقعاً عندما انهارت الشيوعية وانتصرت أميركا في استغلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، فقد كانت المنافسة المباشرة بين القوى العظمى خافتة على مدى نحو ثلاثة عقود، لأن لا روسيا ولا الصين كانتا قويتين بما يكفي لمقاومة الولايات المتحدة علانية. ولهذا، توقع ويليام وولفورث، أستاذ العلوم السياسية في "كلية دارتموث"، أن تستمر القطبية الأحادية لفترة أطول من القطبية الثنائية في الحرب الباردة، بسبب استقرار العالم أحادي القطب الذي لا يرغب فيه سوى القليل من البلدان في مواجهة الولايات المتحدة.

ولم يكن وولفورث الوحيد المتفائل عام 1991،  فقد صك الكاتب تشارلز كراوثامر في مجلة "فورين أفيرز" تعبير "لحظة أحادية القطب" التي تتمتع فيها الولايات المتحدة بكونها القوة العظمى بلا منازع، فيما تصور فرانسيس فوكوياما ما سماه "نهاية التاريخ" إذ تنتهي الشيوعية وتسود الليبرالية والديمقراطية الغربية لتصبح عالمية وتنتهي الحروب. واقترحت إدارة الرئيس جورج بوش الأب في إرشادات التخطيط الدفاعي عام 1992، أن الهدف الأساسي لسياسة الأمن القومي للولايات المتحدة، هو منع عودة ظهور منافس جديد، بمعنى الحيلولة دون نشوء أي قوة معادية تهيمن على منطقة تكون فيها مواردها كافية لتوليد قوة عالمية.

في أجواء الاحتفالات بنهاية الحرب الباردة التي دامت 45 عاماً وانتصار الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وانهيار الإمبراطورية السوفيتية، وبدء تخلي الصين عن الأيديولوجية الشيوعية الصارمة لصالح النمو الاقتصادي الناتج من تخفيف سيطرة الدولة على الاقتصاد، كان هناك نوع من الغطرسة في إعلان نهاية العالم متعدد الأقطاب أو الإشارة إلى أن التاريخ قد انتهى، بحسب فرانسيس سيمبا، أستاذ العلوم السياسية في "جامعة ويلكس" الذي اعتبر أن النصر يولد الغطرسة أحياناً.

ويشير سيمبا إلى أن غطرسة أميركا تجلت بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، تجلت في حربين طويلتين في أفغانستان والعراق، استنزفت ثروات الولايات المتحدة وأراقت دماء الجنود الأميركيين في محاولة فاشلة لتنصيب حكومات ديمقراطية في مناطق كانت فيها تربة غرس الديمقراطية ضعيفة في أحسن الظروف، وغير موجودة في أسوأ الأحوال.

ألهت الحربان الطويلتان انتباه الولايات المتحدة والنخبة السياسية فيها عن صعود الصين، التي كانت تنمو اقتصادياً وعسكرياً، بمساعدة الشركات الأميركية والغربية التي حصدت فوائد اقتصادية من المشاركة مع الحزب الشيوعي الصيني، في الوقت الذي أغلقت فيه الغطرسة عيون واشنطن عن حقيقة أساسية حول سبب الانتصار في الحرب الباردة. وهو استغلال الانقسام بين الاتحاد السوفياتي والصين، مثلما كان سبب الانتصار في الحرب العالمية الثانية هو استغلال الانقسام بين ألمانيا والاتحاد السوفياتي. لذلك، لم تكن الولايات المتحدة تولي أي اهتمام عندما تحول التقارب الصيني- الروسي إلى تحالف استراتيجي بين بكين وموسكو ضد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.

غير أن هذه الغطرسة لم تجعل الجميع في واشنطن يغفلون حينما سقط جدار برلين عام 1990، إذ كتبت جين كيركباتريك سفيرة الرئيس رونالد ريغان في الأمم المتحدة مقالاً في صحيفة "ناشيونال إنترست" تطالب فيه الولايات المتحدة بأن تصبح دولة طبيعية في عالم ما بعد الحرب الباردة. وحذرت صانعي السياسة في واشنطن من السعي وراء مهمة روحية أخلاقية تتجاوز المتطلبات الدستورية لحماية المصالح الحيوية للأمن القومي. وأشارت على إلى أنه ينبغي ألا تكرس الولايات المتحدة نفسها لإرساء الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. وحذرت من أنه ليس من سلطة الولايات المتحدة إضفاء الطابع الديمقراطي على العالم، بل يجب أن تكون دولة طبيعية مستقلة في عالم من الدول المستقلة.

وحتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما اقترح جورج كينان في مقال مشهور حمل عنوان "إكس" في مجلة "فورين أفيرز"، واقترح سياسة الاحتواء للرد على الاتحاد السوفياتي في كل مكان بدلاً من المناطق الحيوية للمصالح الأمنية الأميركية، كتب المؤلف والفيلسوف والتر ليبمان مقالات عدة اعتبر فيها أن الولايات المتحدة بحاجة إلى الحفاظ على التزاماتها الدولية متسقة مع حدود مواردها كي لا تخلق فجوة بين الالتزامات والموارد. وهو ما يعني أن ليبمان فهم حدود القوة الأميركية.

ويرى ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في "جامعة هارفارد"، أنه كان من الممكن أن تستمر أسبقية الولايات المتحدة والاستقرار أحادي القطب لفترة أطول إذا ما كان صانعو السياسة في الولايات المتحدة أكثر ذكاءً وأقل تمسكاً بالأيديولوجيا وأكثر واقعية. ولكن، بدلاً من الحفاظ على قوة الولايات المتحدة وحل النزاعات، حيثما أمكن، والعمل على ضمان عدم ظهور منافس مكافئ، فعل المسئولون الأميركيون العكس تماماً، وارتكبوا أخطاء بالجملة. فقد ساعدوا الصين على النهوض بسرعة أكبر، وبددوا تريليونات الدولارات في الحروب المكلفة والمضللة في الشرق الأوسط الكبير، ووسعوا حلف "الناتو" من دون اهتمام كافٍ بالمخاوف الروسية، وافترضوا أن موسكو لا تستطيع ولن تفعل شيئاً لإيقاف هذا التوسع.

الغطرسة الامريكيه ما زالت ألسمه الأكثر تطرفا ففي ذكرى الحادي عشر من سبتمبر  ، قال الرئيس الأميركي جو بايدن، إن الولايات المتحدة لن تترد في استخدام قوتها العسكرية ضد أي تهديدات إرهابية حتى على الرغم من انتهاء الحرب في أفغانستان، وذلك في تصريحات أدلى بها في مراسم إحياء الذكرى الحادية والعشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.ووفقاً لوكالة بلومبرج للأنباء، قال بايدن اليوم الأحد متحدثاً بوزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون": "سنستمر في مراقبة وإحباط تلك الأنشطة الإرهابية أينما وجدناها، وأينما كانت، ولن نتردد أبدا في اتخاذ ما يلزم للدفاع عن الشعب الأميركي".

وأضاف الرئيس الأميركي: "استغرق الأمر عشر سنوات لرصد أسامة بن لادن وقتله، لكننا تمكنا من ذلك" وأشار أيضاً إلى الضربة الجوية في يوليو، والتي أمر بها وأسفرت عن مقتل زعيم القاعدة أيمن الظواهري، خليفة بن لادن.

وتأتي ذكرى هذا العام بعد حوالي عام من انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، حيث غرق الجيش الأميركي في حرب امتدت لعقدين من الزمان بعد الغزو في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

وتعرض بادين لانتقادات حادة جراء الطبيعة الفوضوية لعملية الانسحاب، حيث اهتزت ثقة الأميركيين في قدرته على الحكم.

 وبدلاً من اتباع نهج محسوب بدرجة أكبر تجاه العولمة والتأكد من مشاركة فوائدها على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة، فقد تبنوا مناهج نيوليبرالية في التجارة والاستثمار، ولم يفعلوا ما يكفي لتأمين القطاعات المهددة بالانقراض من القوى العاملة الأميركية، كي تصبح قليلة التأثر بعواقب العولمة.ولن يكون المستقبل الناشئ نظاماً ليبرالياً متمركزاً حول الولايات المتحدة، ولا نظاماً شمولياً متمركزاً حول الصين، ولكن ستقود كل من هاتين القوتين الرئيستين نظاماً جزئياً يتضمن دولاً تشترك في قيم متشابهة أو ليس لديها خيار سوى التوافق مع جانب دون الآخر، وستتوقع كل من واشنطن وبكين كثيراً من الولاء من بعض حلفائهما.

مع ذلك، فإن العديد من بلدان الجنوب ستقاوم الضغوط لاختيار جانب دون الآخر وستحاول البقاء بمعزل عن الخلافات التي لا تشاركها بشكل مباشر، وسيحاول بعضهم جني فوائد أكبر من خلال التلاعب بالولايات المتحدة والصين ضد بعضهما البعض. ما يعني أن محاولة تأسيس السياسة الخارجية للولايات المتحدة على ثنائية جامدة من "الديمقراطية مقابل الأوتوقراطية" هي وصفة للفشل، إذ سيتطلب النجاح التعاون مع الشركاء ذوي تفكير مماثل حيثما يكون ذلك ممكناً، ومع الدول التي لا تشارك القيم الأميركية عند الضرورة.

علاوة على ذلك، سيكون من الصعب تحقيق التعاون بين القوى الكبرى والمحافظة عليه، حتى عندما تتوافق مصالحها جزئياً. ما يمنحها، ربما، العذر لتجاهل الخطر الأكثر تهديداً المتمثل في تسارع تغير المناخ الذي يتطلب تضحيات من جميع القوى الكبرى، لكنها ستكون أقل استعداداً لتقديمها عندما تكون هذه الدول قلقة بشأن توازن القوى العالمي وتتردد في الاستسلام أكثر من منافسيها.

لهذا، يبدو أن العالم يتجه إلى الواقعية التي تتنافس فيها القوى العظمى على السلطة والنفوذ بينما يتكيف الآخرون بأفضل ما يمكنهم. وإذا ما كانت الولايات المتحدة في الماضي هي الوحش الأكبر في الغابة العالمية وخدعت نفسها لتعتقد أنها يمكن أن تجعل جميع من في الغابة يتصرف وفقاً لرغبتها ونظامها، فإن العالم الذي تصوره الواقعية سيكون مختلفاً بكل تأكيد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت