العنف الرقمي ضد المرأة: استنساخٌ لمظاهر العنف خارج الإنترنت

بقلم: نداء بسومي

  • نداء بسومي

  لا يخفى على أحد ما وصلنا إليه في الوقت الحالي من عصر الرقمنة، وتجسيد الواقع في شبكة اتصالية أبعادها الاتصال بالإنترنت، وما أحدثه هذا الالتصاق المتنامي بالفضاء الرقمي من تغييرات بنيوية على حياةِ الفرد، حتى أنها فرضت على الحكومات والمؤسسات أشكالًا جديدةً من الممارسة العملية، لم تكن تترجم من قبل، فبدأ العمل عن بعد، والتسويق الإلكتروني، واستحدثت حكوماتٌ مختلفة قوانين جديدة متعلقة بضبط النظام على هذا العالم.

ولمّا كان الإنسان قبيل الإنترنت مشغولٌ بهمومه اليومية، وكانت المؤسسات الحقوقية والدولية متفرّغة للوصول إلى أكبر قدر من سيادة حقوق الإنسان على أرض الواقع، وجد الحقوقيون أنفسهم أما إشكالياتٍ جديدة، ومفاهيمَ لم تكن مطروحة من قبل، وفُتح بابٌ جديدٌ من الانتهاكات التي تطلب مسارًا جديدًا من العدالة وتحقيقها.

بطبيعة الحال، لم تكن المرأة بمعزلٍ عن هذه المتغيرات كلها، وجدت في الفضاء الرقمي مساحةً حرّة نسبيًا للتعبير والرأي، وتوسيع قدراتها وإمكاناتها، وتعزيز تواصلها مع المحيط متجاوزة حدود الزمان والمكان، بحسب مركز آيبوك في تقريره السنوي عام 2021، فإن 46.3% من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في فلسطين هن من الإناث  ولكنها، في الوقت ذاته، وجدت نفسها أمام عنفٍ مستحدث يمارس ضدها، وانتهاكاتٍ بحقوقها المبنية على أساس نوعها الاجتماعي، مشابهةً إلى حدٍّ بعيد تلك التي كانت تواجهها على أرض الواقع، بل بعضها جاء امتدادًا لعنف الواقع، والعكس صحيح.

في أحدثِ إحصائية نشرتها هيئة الأمم المتحدة للمرأة، تحدثت فيها أن 54.2% من النساء في فلسطين تعرضن لعنفٍ رقمي خلال عام 2021، وأبلغن عنه، وأن هذه الانتهاكات تركزت بشكلٍ خاص في منصات التواصل الاجتماعي بنسبةٍ تقارب 70% من مجمل الانتهاكات المبلغ عنها، أي أن أكثر من نصف الفلسطينيات واجهن – وما زلن – عنفًا رقميًا وانتهاكاتٍ قائمة على أساس الجندر والنوع الاجتماعي، ما يعني أن العنف اتجاه النساء ما زالَ قائمًا، لكنه اختار لنفسه وصفًا جديدًا: الرقمي.

تتعدد أشكال العنف الرقمي الذي تتعرض له النساء، في فلسطين وحولَ العالم، وهو ما تعدده المنظمات الحقوقية – على سبيل المثال لا الحصر- بمشاركة الصور أو مقاطع الفيديو غير المرغوبة، والترهيب والتهديدات عبر البريد الإلكتروني أو منصات وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك تهديدات الاغتصاب والقتل، والتحرش الجنسي عبر الإنترنت، والملاحقة، بما يشمل استخدام تطبيقات وأجهزة التتبع، فضلاً عن انتحال الهوية والأضرار الاقتصادية عبر المنصات الرقمية، وتعد الفتيات الصغيرات معرضات بشكل خاص للاستغلال والاعتداء الجنسيين، وكذلك التنمر من قبل أقرانهن في الفضاء الرقمي.

وعلى الرغم من أن كلًا من الرجال والنساء يمكن أن يتعرضوا لحوادث عنف وسوء معاملة عبر الإنترنت، إلا أنه من المرجح بشكل كبير أن تكون النساء ضحايا لأشكال متكررة وشديدة من الإجراءات الضارة عبر الفضاء الرقمي، فمع بدءِ جائحة كورونا، والتوجه العالمي الكبير (إناثًا وذكورًا) للشبكة الرقمية الذي فرضه الحجر المنزلي بفعل الجائحة، زادت نسبة العنف الرقمي نحو النساء، وقد أجرى المكتب الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة للدول العربية في نيسان/أبريل – أيار/مايو 2020 دراسة استقصائية عبر الإنترنت في تسعة بلدان – من ضمنها فلسطين – حددت نتائجها أن العنف على الإنترنت كان أكثر أشكال العنف التي تم الإبلاغ عنها خلال الأشهر الأولى من الجائحة.

 

الصحفيات والناشطات يتعرضن لعنفٍ على أسس رقمية

من جانبٍ آخر، وفرت التكنولوجيا الرقمية وسيلة جديدة لمناصرة حقوق الإنسان والدفاع عنها وممارستها والتأثير على جميع أنواع الحقوق، المدنية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، ولكنها تُستخدم أيضًا لقمع الحقوق والحد منها وانتهاكها، من خلال المراقبة مثلاً والمضايقات عبر الإنترنت، والخوارزميات المفروضة، وتؤثر سوء استخدام التكنولوجيات الرقمية أيضًا بشكل غير متناسب على الأفراد والجماعات المهمشة، ما يؤدي إلى عدم المساواة والتمييز، سواء عبر الإنترنت أو في الحياة الواقعية.

وفي إطار ذلك، لم تكن المدافعات عن حقوق الإنسان والناشطات والصحفياتُ بمعزلٍ عن هذه الانتهاكات التي تتعرض لها النساء، لكن هذه المرة يضاف سبب النشاط المهني إلى النوع الاجتماعي، ما يضاعف من شدة الانتهاك ووطأته، حيث لا يمكن لنا أن نغفل الانتهاك الرقمي الذي يمارس بشكل مقصود بحق المحتوى الفلسطيني الذي يكتبه النشطاء والصحفيات والصحفيون حول الأحداث والقضايا اليومية، سيّما المتعلقة بالاعتداءات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، هذا الانتهاك الذي يكون مصدره خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي التي لا تراعي خصوصية الحالة الفلسطينية، أو بلاغات قدمتها غرف خاصة جندها الاحتلال الإسرائيلي لتقوم بذلك، ووجدت في منصات التواصل انحيازًا معها. 

وخلال النصف الأول من عام 2022، وثق مركز صدى سوشال 425 انتهاكًا رقميًا بحق المحتوى الفلسطيني، وممارسي العمل الصحفي، ومن ضمن هذه الانتهاكات حذفت المنصات الرقمية صفحات وحسابات عدد من الصحفيات، في تضييق على مهنتهن: مثل الصحفية أسيل سليمان، ونجلاء زيتون ، وغيرهما.

وبالحديث عن الانتهاك الموجه خصيصًا لممارسي العمل الصحفي والناشطات والمدافعات عن حقوق الإنسان، فإننا نستطيع الجزم أن هذه الانتهاكات لم تقتصر فقط على الحيز الرقمي، بل امتدت آثارها إلى أرض الواقع، ولعلنا نذكر هنا، الصحفية لمى غوشة من مدينة القدس، التي اعتقلها الاحتلال لعشرة أيام، حقق خلالها حول منشورات عبر حساباتها على منصات التواصل الاجتماعي، نشرتها في إطار عملها الصحفي وقضيتها الفلسطيني، والطالبة من النقب مريم أبو قويدر والتي تواجه حبسًا منزليًا بعد اعتقالها لأيام بتهمة التحريض على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك بسبب نشرها مقاطع تظهر الاعتداءات الإسرائيلية بحق بدو النقب.

ولعل من الأمثلة التي لا زالت تتردد في ذهن الفلسطينيين، اعتقال جيش الاحتلال الإسرائيلي للصحفية وأستاذة الإعلام في جامعة بيرزيت د. وداد برغوثي عام 2019، حينها، قدمت سلطات الاحتلال لائحة اتهام ضد البرغوثي تتضمن بند “التحريض على مواقع التواصل الاجتماعي”، بادعاء أنها تنشر منشورات على فيسبوك تشكل دعم لأنشطة وتنظيمات معادية، وهو ما تصفه مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان نهجًا لدى الاحتلال هدفه القمع وسلب حرية الرأي والتعبير المكفولة بموجب المواثيق والاتفاقيات الدولية، حيث يتعمد الاحتلال تجريم كل قول أو وجهة نظر وربطها بفعل إرهابي.

إضافة لذلك، قد تتعرض الصحفية في الأراضي الفلسطينية لحملة تحريض رقمية تمارس من قبلِ جهاتٍ متنفذة ومختلفة في حال قررت الخوض في تحقيق صحفي، أو إنجاز مادة إعلامية لا توافق آراء ذوي القوة والنفوذ، والشواهد من الواقع الفلسطيني كثيرة على ذلك، حيث تعرضت صحفياتٌ فلسطينيات لسرقة هواتفهنّ بشكلٍ مقصود خلال مظاهرة احتجاجية في مدينة رام الله يونيو\ حزيران 2021، وهو ما وثقته مؤسسة الحق: “بتعمد جهات محسوبة على الأجهزة الأمنية بالإضافة إلى وسائل القمع العنيف واستخدام الابتزاز الاجتماعي والعائلي من خلال سرقة هواتف المحتجين ولا سيّما الإناث والصحفيات وتسريب ونشر صور خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي والتحريض ضدهن والتحرش بهن جسديًا ولفظيًا.” 

وخلال عام 2021، سجل صدى سوشال 600 منشورٍ يصنف تحت خطاب الكراهية في الضفة الغربية وقطاع غزة، 24% من هذه المنشورات كانت بحق النساء وحرية الرأي والتعبير، فضلًا عن خطاب التحريض والكراهية الذي تواجهه فلسطينيات من قبل مستوطنين إسرائيليين، خاصة في أراضي الداخل المحتل، ففي شهر أيار\ مايو 2022، وثق صدى سوشال جمع إسرائيليين في جامعة “بار ايلان” تواقيع لطرد الطالبة الفلسطينية “بيان مصاروة” من الجامعة بعد التحريض عليها على منصات التواصل الاجتماعي على خلفية منشورات لها تتعلق بالاعتداءات الإسرائيلية في الضفة الغربية. 

يمكننا القول، أن أشكال التمييز على أساس الجنس والتي تؤدي إلى العنف خارج الإنترنت بمكن أن تستنسخ وتمنح أحيانًا حجمًا أكبر ومعنى آخر في الفضاء الرقمي، وفي الوقت الي تظهر فيه أشكال جديدة من العنف، غالبًا ما يكون من الصعب فضل نتائج الأفعال التي تبدأ في البيئات الرقمية عن الوقائع التي توجد خارج الإنترنت، وبالرغم من الجهود المبذولة للحد من ذلك، إلا أن المسارَ ما زال في بدايته.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت