- بثينة حمدان
يطاردون سبعَ سنوات؛ مايزالُ غضاً، قلبُه بحجم كفِ يدِه، وجنَتَيهِ تُذوِّب الحجر وفرحاً، كلامُه الرقيق يُجند الكبار حباً له، سُمرتُه هي سُمرةُ صيفٍ ذهب... يركض جنودُ الاحتلال نحوه مُدجّجين بالقسوةِ، بالحقدِ على طفل صغير لم يكتمل فيه شيءٌ بعد، مايزال يتلعثم، يتعلم القراءة، وهاهي أحلامُه في طورِ النمو. يركضون وراء غيمة صغيرةٍ تستطيع أن تُبدِّدَها ريح..
ركض ريان؛ هو لا يجيد سوى الركض. كلنا حين كنا أطفالاً كنا نحترف الركض، أجملُ لعبةٍ في حياتنا هي حين يبدو لنا أن شخصاً يلاحقُنا عن قصد أو بدون قصد، لا نفكر بشيء، ولا حتى إذا ما يزالُ أحدٌ خلفنا، نركض ونركض ونركض فرحاً يقفز من العَينين والوَجنتَين والفم... طفولة!
ركض ريان هارباً من الجنود؟ لم يفعلْ شيء سوى أنه ركض، ربما خائفاً، أراد العودة إلى البيت لسببٍ ما، ركض جائعاً بعدَ يومٍ دراسيٍ طويل، وربما اعتقدَ فعلاً أنه يستطيع أن يسبقهم. وقد سبَقَهُم!
لا اعرف لماذا دوماً وعبر قصص موت كثيرةٍ يموت القلب أولاً وتبقى الذاكرة؟ ذاكرة الفلسطيني فرغم ثقلِها بالألم إلا أنها تعيشُ أكثر، أؤمن حقاً أن ذاكرتنا لا تموت، قد يتأخرُ ذلك فذاكرتنا تعيش مهمةً وطنيةً وتاريخية في الحفاظ على الرواية حتى الرمق الأخير، فيما يموت القلب مثقلاً بأثر الذاكرة الممتلئة بالألم وعذابات الشعب الفلسطيني، ذاكرتنا لا تموت قبل أن تنقل كل مافيها لوريث ما.
كان الجنود الاسرائيليون يطاردون سبع سنوات من الطفولة التي كانت تضحك طوالَ اليوم، تشاكس أرض المدرسة، تتناول كسرةَ خبزِ هي فطورُ الصباح، هل فعلاً يخاف جنود الاحتلال من أطفال بهذا العمر عائدين من مدرستهم، يخافون على طريق إلى مستوطنة فيها أناس يمتهنون السلاح والشر؟! يخافون من ريان الذي مات خوفاً! يخافون من ريان ابن تلك المرأة والتي أكثر ما أوجعها أنه رحل دون تناول طعام الغداء، ثم يقولون أننا قساةُ القلب، لا نشعر. وفي الحقيقة هو أن قلبَنا أكثر ما يوجعنا فيما تحتمل ذاكرتُنا كلَّ القصص التي من حولِنا، نستمر ونعيش..
لم يحتملْ قلبَ والدتَه رحيلَ ريان دون غداء! وينتظرها في الأيام القادمة أن تتجرع مرارةَ الفقد، وتدركَ أنه حقيقة، لكنها في اليوم الأول لاستشهادِه هالها فكرةُ أنه لم يتناول غداءه! طعام الأبناء وشرابهم هو القلق الدائم المسيطر على الأمهات والآباء وأقسى فرحُنا هو أن نشاهدهم يلعبون.
ركض الجنودُ خلفَ سبعِ سنوات إذا ما بحثنا فيها نجد أن ريان طفلٌ محروم بحكم الاحتلال، ليس لديه أدوات اللعب مثل أطفالِ العالم، وأطفالنا في مثل عمره يعتقدون أن العالم يعيش مثلِهُم، وأن العالم يشبه بيئَتِهم وحارتِهم، وأن جيشَ الاحتلال موجودٌ في كلِّ مكان، وقبل أن يكتشفوا حقيقة أن فلسطين هي البلد الوحيد الذي يرزح تحت الاحتلال.. حينها تكون عوالِمُهم وخيالاتُهم وأمالُهم تفجرت، فيبدأون من جديد، ضمن الواقعِ الظالم الذي بدأوا بإدراكه.. أطفالنا ضحية الاحتلال.
ريان طفلٌ طبيعي ويشعر بالخوف، فتوقف قلبُه ورحل، فيما بقيت الذاكرة؛ ذاكرةُ أصدقاءه التي لن تنسى هذا الوداع.. ذاكرةُ ريان وكان آخر ما حَفِظَتهُ شهداءَ جنين فقال لوالِدِه قبل يوم من استشهادِه: بكرة اضراب نحن مش أحسن منهم...
فيديو
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت