- أسامة خليفة
- باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات " ملف"
بدأ التطهير العرقي في فلسطين بشكل متسارع بعد صدور القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأخرى عربية، فخطّأت الأمم المتحدة نفسها لإصدارها هذا القرار وأعلنت 29 تشرين الثاني تاريخ صدور القرار يوماً للتضامن مع الشعب الفلسطيني، إذ اعتبرت عصابات الحركة الصهيونية (الهاجاناه، والشتيرن، والإرجون، وغيرها) القرار181 غطاء دولياً رسمياً يشرع ويبيح لها طرد العرب الفلسطينيين من المناطق المخصصة لليهود حسب قرار التقسيم، بل ومن المناطق المخصصة للعرب، فعملت هذه العصابات على استخدام العنف في حملات تطهير عرقي في فلسطين لإفراغها من سكانها وتأسيس دولة يهودية على أراضيها المغتصبة.
حلت كارثة وطنية شاملة إثر التهجير الجماعي من أرض فلسطين، عقب حرب عام 1948، وعقب حرب حزيران عام 1967، ومازالت مخاطر الهجرة والتهجير قائمة في أي وقت طالما هناك مستوطن صهيوني مستعد ليحل مكان فلسطيني مهاجر، فالتغريبة الفلسطينية مازالت مستمرة، والنكبة أعقبها نكبات، والهجرة أعقبها هجرات، وقد شهدت دول اللجوء والشتات - لبنان، الكويت، العراق، وسوريا - هجرات جماعية للاجئين الفلسطينيين، والتي يُختلف بأسبابها، وفي مستوى خطورتها على القضية الوطنية مقارنة بأم النكبات عام 1948 المقدمة الأولى لكل ما لحق بالشعب الفلسطيني من نكبات وتهجير.
تميز النظرة الاجتماعية العلمية بين الهجرة الطوعية طلباً للعلم، أو بحثاً عن حياة أفضل في بلد يوفر فرص العمل ويتمتع برقي الخدمات وتنوعها، وبين الهجرة القسرية بسبب العنف والنزاعات المسلحة والاضطهاد، ومن الوجهة السياسية يتم التمييز بين اللاجئ والمهاجر، فاللاجئون الفلسطينيون في الشتات لا يمكنهم العودة إلى بلدهم بسبب رفض الاحتلال وإرهابه.
النظرة العلمية لظاهرة الهجرة تراها أمراً واكب تطور المجتمعات البشرية عبر الزمان والمكان، تزامنت آثارها السلبية والإيجابية على كل من بلد الهجرة "البلد المصدر" وبلد اللجوء "البلد المستقبل"، وعلى وقع تباين الآراء حول هجرة فلسطينيي الشتات وحول آثارها، يدور نقاش واسع في الأوساط الفلسطينية.
تأثر لاجئو فلسطين في سورية بشكل كبير جراء الأزمة التي أدت إلى نزوح شامل من المخيمات التي تضررت (مخيم اليرموك ومخيم درعا ومخيم حندرات ومخيم سبينة)، ونزوح كبير من تجمعات فلسطينية أخرى، قدرت الأونروا عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، في العام 2015 بـ /560 ألف/ لاجئاً فلسطينياً مسجلاً لدى الأونروا، في احصائية للأونروا فإن ٣٦٠ ألف لاجئ فلسطيني نزحوا من سوريا، منهم ٨٠ ألف نزحوا إلى البلدان المجاورة، من ضمنهم لبنان "هنالك 42,500 لاجئ فلسطيني سوري، وفي الأردن 16 ألف لاجئ فلسطيني سوري، أما في تركيا ومصر وأوروبا فلا توجد إحصائيات محددة، وتتضارب الاحصائيات حول عدد من بقي منهم في سوريا، ففي إحصائية بلغ عددهم حوالي 280 ألف لاجئ فلسطيني.
شهدت الأعوام الأخيرة تحسن في الأوضاع الأمنية في محيط مخيمات سوريا، لكن برزت مصاعب حياتية ومعيشية بالغة القسوة لدى أغلب الأسر من اللاجئين الفلسطينيين ساهمت بمزيد من الهجرة إلى خارج سوريا، (لن ألومك إن هاجرت أو بقيت، الخيار خيارك)، قالها أب في لحظة وداع قاسية خوفاً على ابنه من مخاطر الهجرة غير الشرعية في زوارق الموت، والأقسى من ذلك الأخبار المؤسفة التي توالت عن مصير الكثيرين ماتوا غرقاً، سبق كلمات الوداع محاولات يائسة لثنيه عن تصميمه القاطع على الهجرة غير مبالٍ بنتائج ركوب البحر، حجة الشاب، أنه أنهى دراسته الجامعية وبلا عمل، والعاطل عن العمل بمقام ميت، تتعدد الأسباب والحلم واحد التوجه نحو دول الشمال.
الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين طالبت م. ت. ف. والفصائل والاتحادات والمؤسسات الفلسطينية والأونروا وضع حدٍ لوقف ظاهرة الهجرة لما تنطوي عليه من مخاطر تحصد أرواح البشر وتهدد حياة العائلة، بل تهدد أيضاً بنية وتماسك المجتمع الفلسطيني، ودعت إلى تقديم كل أشكال الإسناد والدعم التي تمكن اللاجئين من استعادة حياتهم الطبيعية، كما دعت إلى العودة السريعة للنازحين من مخيمات اليرموك ودرعا وحندرات إلى بيوتهم مع ما يتطلب ذلك من توفير البنية التحتية وإعادة الإعمار.
تتفق الفصائل الفلسطينية حول مخاطر هجرة فلسطينيي الشتات على القضية الوطنية من خلال تأثيرها على المخيمات في الشتات بوصفها خزان الثورة الذي انطلق منه الكفاح الفلسطيني والشرارة الأولى لبدئها، فما كانت المخيمات إلا قواعد الثورة وحاميتها والبيئة الحاضنة لها، وبإفراغها من سكانها ستفقد الثورة الفلسطينية موقعاً كفاحياً مستعداً في أي فرصة أن يعود من جديد مركز ثقل في النضال الوطني، عملت الفصائل ومنظمة التحرير على لعب دور في الحد من الهجرة، ودعم صمود المخيمات لكن ينظر إليها على أنها دون المستوى المطلوب، لأن الأزمة كانت كبيرة ولم تكن الفصائل مستعدة لمواجهتها لا إغاثياً ولا عسكرياً.
عسكرياً بعضها كان له دور عسكري وتحدث عنه بصراحة بأنه محدود وفق إمكانات معينة في محاولة استعادة المخيم من المسلحين بالتعاون مع فصائل فلسطينية أخرى، وما كان بإمكانها مجتمعة استعادة مخيم اليرموك لولا جهود الجيش العربي السوري. بينما أكدت فصائل م. ـت. ف. أن حل الأزمة التي تسببت بموجة الهجرة هو حل سوري بالدرجة الأولى، وحاولت في ذلك الوقت التوصل إلى اتفاق مع المسلحين لتحييد المخيمات، حفاظاً عليها من التدمير، ولإعادة مهجريه إلى بيوتهم وفشلت تلك الجهود بسبب تعنت المسلحين.
إغاثياً حاولت القيام بحملات لدعم صمود أهلنا المهجّرين داخلياً من مخيماتهم بل وغير المهجرين، للتخفيف من آثار الأزمة على الواقع المعيشي، وبالتالي الهجرة بسببها، ولما كانت الأزمة كبيرة فقد كان التخفيف من آثارها يتطلب حملات إغاثية مجدية من م.ت.ف. ولا تنتظر الأونروا لتحثها ولتتابعها ولتطالبها بالمزيد و تعتمد عليها إن لم يكن كل الاعتماد فمعظمه، وألا تقتصر جهود كوادرها على إقامة ندوات عن الهجرة وحق العودة وأزمة المخيمات، وتنظيم زيارات للمزمعين على السفر لإقناعهم بالبقاء انطلاقاً من الحرص على حق العودة الذي سيتأثر نتيجة موجة الهجرة.
وفي هذا الجانب من حيث تأثير الهجرة إلى الخارج على حق العودة : تعتبر سوريا واحدة من المناطق الخمسة التي أعلنتها الأونروا من مناطق عملياتها الإغاثية ، واستمرار خدماتها يعتبر اعترافاً عالمياً بحقوق اللاجئين، وما هجرتهم من مناطق اللجوء الخمسة المعتمدة في الأونروا ، والتناقص المتزايد لأعدادهم إلا فائدة لجهات تريد أن تتنصل من هذه الخدمات وبالتالي من حقوق اللاجئين وانهاء مشكلة حق العودة التي يصرّ الفلسطينيون على هذا الحق وفق القرار 194 ، بينما تحصره اسرائيل في بضع مئات ضمن قانون لم الشمل، وتحصره أمريكا بمن ولدوا في فلسطين وخرجوا منها بسبب حرب 1948 دون أبنائهم وأحفادهم، و سياستهما هذه تتفق وسياسة دول أوروبية تعمل على دمج الجيل الأول من اللاجئين في المجتمعات الغربية وخلق انتماء جديد لهم بإقناعهم أنهم كانوا «stateless»، والآن صار لهم جنسية «محترمة»، وجواز سفر فعال يوصلهم إلى كل مكان في العالم ما عدا الدولة التي نزحوا منها، وبإمكانهم زيارة تلك التي يسمونها اسرائيل، قد تكفيهم زيارة قصيرة دون حق الإقامة تشبع لديهم أحلامهم برؤية أرض الآباء والأجداد، وأما الجيل الثاني والثالث وما يتلوه من أجيال يولدون في الغربة فسيصبحون أوروبيين مندمجين في المجتمعات التي ولدوا ونشأوا فيها وتشربوا عاداتها وقيمها.
يرى البعض أن الحرب ليست وحدها سبباً في الهجرة بل أيضاً الصورة الوردية للمجتمعات الغربية التي يروج لها في وسائل الإعلام، وليست فقط نتاج العامل المعيشي والأمني بل أيضا نتاج تقليد أعمى يحصل نتيجة سلوك القطيع يرى غيره يهاجر وتنقلب أحواله التي كانت بائسة فيرغب بالسفر، وأن الطبقة الاجتماعية المتوسطة هي التي سبقت على دروب الهجرة وهي تلمس سقوطها المتسارع إلى أسفل السلم الاجتماعي، أما فقراء اللاجئين الذين لا يملكون تكاليف السفر فقد باعوا بيوتهم وقطعوا بذلك جذورهم في هذا البلد ليعيشوا في مجتمع غريب عنهم قيمياً، هذا يتضح في الفكر التقليدي العربي حيث ارتبط مفهوم الهجرة بالتقويم الهجري، وهجرتي المسلمين إلى الحبشة والمدينة المنورة كنموذج للهجرة المقبولة، ومن وجهة النظر هذه أن ما تشهده بعض الدول العربية الآن ما هو إلا مؤامرة على قيمنا الإسلامية الأصيلة، واللاجئ الفلسطيني عندما هُجّر من فلسطين بعد النكبة عاش وسط تقاليد المجتمع العربي ذاتها التي لا تختلف في بلدان اللجوء عنها في فلسطين، أما انتقاله إلى أوروبا والعيش وسط التقاليد الأوروبية، ستؤدي هجرة الشباب إلى هذه المجتمعات إلى الانحلال الأخلاقي واكتساب عادات الغرب الإباحية.
إن أحداً لا يستطيع منع الهجرة أو وقفها بالمطلق، لأن المنع المطلق لم يكن طرحاً واقعياً، ولا يمكن سد أبوابها نهائياً، وإلا سينجم عنه بالضرورة إجراءات حدودية و أمنية تؤدي إلى مزيد من طرق تهريب جديدة خطرة على حياة الراغبين بالهجرة، وفق ما شاهدناه من غرق وموت أسر بأكملها، بينما يعود الاتجار بالبشر عن طريق الهجرة غير الشرعية بمزيد من الفائدة المالية على المهربين، واليوم يجري الحديث عن تكلفة تبلغ 30 مليون إلى 50 مليون ليرة سورية للشخص الواحد، ويقولون إن هذا المبلغ سيعوض إن وصل، كما يستطيع بعد الحصول على الإقامة طلب لمّ شمل لأفراد أسرته الذي إن تحقق سيراه المهاجر إنقاذاً لأسرته من البؤس.
مع كل ذلك تنظر بعض الفصائل الفلسطينية أنه لا يمكن لأحد أن يسقط الصفة الوطنية عن المهاجرين إلى أوروبا، وأن الفصائل تتواصل معهم باعتبار أن لهم دوراً وطنياً هاماً يستطيعون تفعيله لخدمة قضيتنا الوطنية بالتبرعات المالية أو بالنشاطات وحملات التضامن مع الشعب الفلسطيني لتغيير الرأي العام الغربي ليصبح مؤيداً مناصراً للقضية الفلسطينية.
إذا أردنا فعلاً الحد من الهجرة، مقتنعين أنها شر مطلق، فالمطلوب أولاً الاسراع في عودة المشردين من مخيم اليرموك وغيره من المخيمات والتجمعات الفلسطينية المتضررة إلى بيوتهم، والعمل مع الجهات المختصة على تجهيز المخيمات بالبنية التحتية من ماء وكهرباء وسبل العيش الأخرى، ثم التخفيف من آثار انخفاض المستوى المعيشي بأن يكون للفصائل ومنظمة التحرير الفلسطينية دور فاعل ومجدي في قضايا إعادة الإعمار، والتخفيف من تدهور الحالة المعيشية، وإذا لم يتحقق هذان الشرطان فإن الاقتصار على التثقيف لرفع العامل الذاتي سيصبح فارغاً من مضمونه، ويصنف في المزاودات الوطنية والشعارات اللفظية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت