- د. طلال الشريف
تعبيرات جديدة يكتبها إنسان الرقميات على مسطحات التواصل كلافتات أو خواطر او شكوى وغالبا بكائيات بعد استهلاك كل أنواع النقد الناعم أو العنيف لأنظمة الحكم أولا وباقي شرائح وسلوكيات الإنسان الآخر .. هل هو أدب جديد؟
شدني تعليق أو بوست يقول كاتبه:
" الله يرحمك ياوالدى
والله انو اشتقنا لك "
في عصرنا الجاف بالمشاعر حتى تخيل الرجل بأنه مجرد وقت وسيلتقي بوالده بعد اشتياق.
قمة الإنسانية وتعبير فعلي وحقيقي باح به الرجل في لحظة تجلي كأننا سنبقى احياء لعودة الغائب بالموت لنلتقيه ونسي صاحبنا أن الأموات لا يعودون بكل تأكيد بل نحن من نذهب إليهم.
حين يعبر الرقميون على الرقميات بمقتضب الكلام ويجبرون على التماشي مع منظومات النشر لتواكب نمط التلقي السريع الذي أصبح مزاجا للمتصفحين يحكم على البوست أو التغريدة بالقراءة أو الإهمال أذا طال الكلام هو نوع من أدب التواصل المستحدث مع كثافة النشر وتدفق المشاركات التي تميز رقميات الرقميون في هذا العصر ..
الرقميون هم نحن جميعا أو بغالبية عظمى عظمى تكاد لا تبقي إلا شذرا من متوقف عن مواكبة العصر أو حشاش اجتماعي بطيء الحركة والفكرة يرى نقطة المار نهر أو بحر فيرى أن مقالا ولو متوسط الحجم فقراءته درب من المستحيل ولماذا يضيع وقته ففي هذا الوقت لقراءة مقال يمكنه الاطلاع على ألف بوست رقمي مختصر أو تغريدة أو صورة او مقطع فيديو أبو دقيقة، ولذلك أصبح مقالا من عشرين سطرا في عصر الرقميات يمثل رواية من الحجم الكبير بتاع زمان .. مقال يعرض قضية كبرى في خمسة أسطر ويحللها في خمسة أسطر ويصل لعقدتها وتحدياتها في خمسة أسطر ويقدم الحل في خمسة أسطر يعتبر اليوم بمثابة رواية من القطع الكبير لديستوفيسكي، فروح إنسان الرقميات قد قصرت وأصبحت تلك صفة لصيقة لإنسان عصرنا، فكيف تريد من متلقي الرقميات هذا الإنسان الجديد المتسرع أو المتسارع أن يتفرغ ربع ساعة أو حتى خمس دقائق لقراءة المقال، فالصفة السائدة لإنسان الرقميات هي التعجل والسرعة البرقية للاطلاع حتى لو كان هذا الانسان متقاعدا وليس لديه عمل أو إلتزام بمهمة، فهو أصبح مثل الرقميات نفسها سريع جدا والأثر المتبقي لديه لا يتجاوز تنقله بين الصفحات التي تأتي بالجديد ليس يوميا كصحف الماضي بل هو سيل متدفق من الأحداث والمشاركات لا يمكن لأي إنسان قديم الفكر والطبع أن يلم بأحداث يوم كامل وأحيانا كثيرة بأحداث ساعة واحدة حروب كبيرة جدا واحداث كبيرة جدا لا يتوقف الرقميون عندها أكثر من ثواني أو دقائق ..
لم يعد الأدب أدب ولا السياسة سياسة ولا الاقتصاد إقتصادا ولا الاختراعات ولا المنتجات ولا أي نوع من التخصصات مفصولا عن الآخر فالعلوم والأدب والفلسفة والسياسة هي خلطة واحدة تقذف في عين المتصفح وعقله كعلم واحد دون تفريق، رقص وطبل وغناء وجربمة وحرب وسياسة وتجارة وجنس ودين وشعر وأفراح وتهاني وتعازي وشتائم وتكفير وتخوين ودعارة وشحدة ونصب واحتيال ورياضة وألغاز وطبايخ وحلويات وعنف وقتل وجمعات مباركة وجمعات طيبة وخداع بصري وخداع فكري وسحر وشعوذة، كل ذلك في جرعة أو كبسولة واحدة ترفع الضغط وتخفضه وتتلاعب به في جلسة واحدة بلا رحمة ولا توقف للعقل للاستراحة، هذا ما يجتاحنا الآن والمتلقي لايستطيع النوم فمحاولة النوم أصبحت متعذرة وأن غفت العيون تصحو الجفون جافة والتوتر مستمر في حال الإغفاء أو الصحو ..
إنه عصر النكد المكثف، والجنس المكثف، والحرب المكثفة، والاعلام المكثف، والسياسة المكثفة، والشكوى المكثفة، والاحتياج المكثف، والاشتباك الداخلي والخارجي المكثف ..
إنه عصر التكثيف المراوغ والمخادع .. إنه عصر مسطحات أدب الرقميات حيث عاد مصطلح أدب يحتوي كل مناحي الحياة والعلوم بمعنى حياة الناس ، عادت كل علومها ومناحي الحياة لتصب في قوقعة الأدب كجامع لها وانتهت تقسيمات عصور ما قبل الرقميات الكاذبة التي تم تقسيمها إلى تخصصات وفروع وعلوم قبل عصر الرقميات .. الأدب في الأصل ليس النصوص تعكس حياة وأفكار وابداع وثقافة الانسان بل هو كل الحياة الحياة
إنه أدب حياة مكثف .. كل شيء عاد واندمج مع باقي أجزائه في حياتنا وأصبح الإنسان متشابها في كل شيء والمتبقي فقط هو اختلاف الأديان، ولا غرابة ولا عجب إن ظهر نبي لهذا العصر الجديد ليبلغ البشر برسالة جديدة كما حدث في كل العصور رغم اغلاق هذا الباب بختمة النبي محمد ..
مسكين هذا الإنسان تحمله الرياح من مكان وتسقطه في مكان جديد تماما كما الأمطار حين تهب الرياح من مناطق الضغط المرتفع إلى مناطق الضغط المنخفض محملة ببخار الماء وعندما تصطدم بمناطق ضغط منخفض فإنها تسقط حمولتها على شكل أمطار ... هكذا هذا الإنسان المسكين تحمله الرياح ويتصور أنه السيد والقائد والعارف لكل شيء.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت