- بشرى حفيظ
تواجه اقتصادات العالم منذ بداية جائحة كوفيد سنة 2019، وُصولا إلى الصراع الروسي-الأوكراني بداية العام 2022، أزمات وهزّات دفعت بدُول إلى اتخاذ إجراءات عاجلة وبعض الأحيان مُوجعة في مُحاولة لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه وتجاوز فترة الركود الاقتصادي العالمي بسلام.
ولعّل أبرز التحديّات التي تقف عائقا أمام ازدهار الاقتصاد ارتفاع نسب التضخّم كما هو الحال في تركيا التي عرفت في السنوات الأخيرة تدهورا في اقتصادها تسعى لتلافيه وتجنبّه عبر البحث عن شراكات و أسواق جديدة خارج انتمائها الإقليمي و السياسي أيضا.
اقتصاد مُتدهور وتضخّم مستمر
منذ بداية العام الحالي، انخفضت قيمة الليرة التركية مقابل الدولار لأكثر من النصف ممّا تسبب في ارتفاع قيمة الواردات وأجّج التضخّم الذي بلغ خلال شهر سبتمبر الماضي 83,5٪، وهي النسبة الأعلى في تاريخ الاقتصاد التركي منذ العام 1998.
في المُقابل، ارتأى البنك المركزي التركي مُواجهة التضخم بالتخفيض في سعر الفائدة الرئيسي بنقطة ونصف نقطة مئوية لتصل إلى 10.5 ٪ خلافا للمُتعارف عليه في النظريات الاقتصادية في مواجهة مثل هذا الوضع والقاضي برفع أسعار الفائدة لا تخفيضها للحد من التضخّم.
وقد تسبّب هذا الاجراء في ارتفاع مُشطّ في أسعار المواد الاستهلاكية في تركيا بمُعدّل الضعفين منذ سنة 2017، إضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية الراجع أساسا إلى الحرب الروسية الأوكرانية، والذي حاولت تركيا كبحه من خلال اتفاقية تصدير الحبوب المُوقعة في 22 يوليو/تموز الماضي برعاية الأمم المتحدة لتسهيل عملية تصدير الحبوب الأوكرانية.
حوالي 451 مليار دولار هي القيمة التقريبية لديون تركيا للمُستثمرين الدوليين، علاوة على عجز مستمر في الحساب الجاري للبلاد، وفقا لأحدث البيانات صادرة أواخر شهر سبتمبر الماضي.
وقد كانت المشاريع الضخمة المُعلن عنها في الفترة الأخيرة و التي تمّ إنجازها عن طريق الشراكة بين القطاعين الخاصّ أحد أسباب انخفاض احتياطات البنك المركزي التركي إلى -52.3 مليار دولار في عام 2022.
سياسة الحكومة هي السبب...وأردوغان يسعى للاصلاح
لم يكن تدهور الاقتصاد التركي وليد هذه سنة أو عامين، إنّما جاء نتيجة لسياسية حكومية غير متناسقة منذ عقد من الزمن فبدأ التدهور في 2011 وبات أكثر وُضوحا في العام 2013، فأزمة اقتصادية في مارس 2018، ليكون حالة كساد وركود تامّ في مارس/ آذار 2020 بسبب الوباء.
ووفقا لتقرير معهد الشرق الأوسط، فقد اتسمت سياسة الحكومات في تركيا على امتداد العشر سنوات الأخيرة بسمتان رئيسيان وهما تعزيز النشاط الاقتصادي والحفاظ على سلامة المالية للنظام المصرفي، إضافة إلى غياب سياسية اتصالية واضحة ممّا جعل الفاعلين الاقتصاديين المحليين والأجانب من أفراد ومؤسسات يفقدون الثقة في السياسات الاقتصادية للحكومة التركية التي لم تسعى للإصلاح.
ونظرا لتفاقم الوضع ورصد حالة من الغضب الشعبي، أقّر الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في مارس/آذار الماضي حزمة إصلاحات اقتصادية للحدّ من التضخّم وارتفاع الأسعار.
وتقوم إصلاحات أردوغان الاقتصادية أساسا على تطبيق سياسات جديدة بخصوص الشراكة بين القطاع العام والخاص وتقلص العراقيل الضريبة التي تعترض المستثمرين الدوليين، إضافة إلى اعداد قانون جديد يُساهم في الإسراع من تطوير القطاع التشاركي.
في السياق ذاته، كشف وزير الخزانة والمالية التركي نور الدين نباتي، في بيان صادر عنه في شهر يوليو/تموز الماضي عن إجراءات حكومية تتمثل في تخفيض معدّل الضريبة على القيمة المضافة على المتنجات الغذائية ومواد التنظيف ومنتجات الأطفال، كما شمل التخفيض كذلك القيمة المضافة على الكهرباء المُستخدمة للري السكني والزراعي وغيرها.
هذه الإجراءات العاجلة لم تكن وحدها كفيلة بضخّ جرعة أكسيجين للاقتصاد في تركيا، ما دفع أردوغان للتقرب للسوق الخليجية واجراء مُصالحة مع المملكة العربية السعودية بعد خلاف استمر لأكثر من عامين بعد مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في سفارة المملكة بأنقرة العام 2018.
السوق الخليجية...جزء من الحلّ
في نيسان/أبريل، أدّى الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان زيارة إلى المملكة العربية السعودية التقى خلالها العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، بعد أن ساد التوتر العلاقات بين البلدين منذ أكثر من سنتين على خلفية مقتل خاشقجي.
وقد اندرجت هذه الزيارة سعيا من أردوغان لفك الخناق الاقتصادي الذي تفاقم في تركيا بعد ازماتها الديبلوماسية المتلاحقة المتسببة في تراجع الاستثمارات الأجنبية في البلاد، والذي بات يزداد نتيجة وقف الرياض لاستيراد المنتجات التركية وحرمان الشركات التركية من المشاركة في مشاريع المملكة العملاقة.
وقد أسفرت الزيارة عن إنشاء مجلس للتعاون الاستراتيجي ممّا سيجعل من السعودية مدخلا لاقتحام تركيا لسوق دول التعاون الخليجي.
ومثلما دفع التدهور الاقتصادي الذي دفع بأردوغان "الارتماء" في أحضان السعودية ودول الخليجي، فقد اضطرّه أيضا للتطبيع اقتصادي مع الاحتلال في تضارب واضح وصريح مع سياسة تركيا المساندة للقضية الفلسطينية.
تطبيع اقتصادي مع الكيان المحتل
في فصل بين الاقتصاد والسياسية، فقد بلغت قيمة التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب 10 مليارات دولار في العام 2021، وفقا لتصريحات أدلى بها وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو.
وبالرغم من التوتر الذي شاب العلاقة بين تركيا والاحتلال بعد طرد تركيا لسفير في العام 2018 احتجاجا على مقتل عشرات الشبان الفلسطينيين عند حدود غزة، فإنّ العلاقات التجارية البينية بين البلدين تعود إلى سنة 1996 تاريخ توقيع اتفاقية التجارة الحرة والتي بدأت فعليا في العام 1997.
وقد شملت إلغاء الرسوم والحواجز الجمركية في العديد من المجالات من ضمنها الغاء الرسوم على المنتجات الصناعية بداية من العام 2000.
زيارة رئيس دولة الكيان المحتل إلى تركيا في مارس/آذار الماضي، عزّزت التعاون التركي مع تل أبيب خاصة في علاقة بالطاقة والتنقيب عن الغاز في البحر الأبيض المتوسط ما يحيلنا على مفاوضات ترسيم الحدود البحرية الخارجية حاليا برعاية اممية بين تل أبيب وبيروت.
سعي أردوغان للإصلاح، وسياسة انفتاحه وبحثه عن أسوق جديدة لتصدير السلع التركية لمُجابهة التضخّم وارتفاع الأسعار وتجنب الغضب الشعبي، يأتي قُبيل أشهر من اجراء انتخابات رئاسية ستُجري في الـ28 من مارس القادم لمّح أردوغان إلى ترشحه فيها بعد أن أصبح رئيسا لتركيا 2014 ثم فاز في انتخابات 2018 المبكرة بعد تحول النظام إلى رئاسي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت