- علي بدوان ...عضو اتحاد الكتاب العرب
جبل الشيخ أو جبل حرمون، ذاك المكان الشهير من هضبة الجولان والواقع في أقصى شمال غربها، شَهد صولات وجولات إبان حرب أكتوبر 1973 وفي حرب الإستنزاف التي تلته، في إنزالات وإنزالات مقابلة للسيطرة على رؤوسه وقممه ومرتفعاته الإستراتيجية المطلة على منطقة واسعة من بلاد الشام في المثلث الفلسطيني اللبناني السوري وصولاً إلى مناطق من الأردن.
لم تَحرمني الحياة متعة التواجد على أرض جبل الشيخ وعموم مرتفعاته، حين أتممت معظم خدمتي العسكرية فوق تلاله ووهاده قبل أكثر من ثلاثة عقود، وهي التلال والمرتفعات التي أَكَلت من أَقدامي ما أَكلت صعوداً وهبوطاً، مشياً على الأقدام، ومروراً بسيارات (التاترا والزيل) العسكرية الروسية والتشيكية الضخمة المخصصة للصعود والإنتقال على قمم ومرتفعات جبل الشيخ، كذلك الزحافات الثلجية التي كانت من مهامها جلب الغذاء والتموين والعتاد لنا في أوقات هبوب العواصف الثلجية العنيفة.
إبان خدمتي الوطنية العسكرية كضابط مجند في صفوف قوات أجنادين التابعة لجيش التحرير الفلسطيني، وفي موقع متقدم على جبهة الجولان وتحديداً في موقع تلة النسر وهي مرتفع يقع على إرتفاع نحو (1941) متراً عن سطح البحر على جبل فرعي من جبل الشخ يدعى بجبل بربر، حيث تقابل تلة النسر إياها قمة جبل الشيخ (المرتفع 2814) وتواجهه على شكل تحدب رأس ومنقار النسر لذلك دعيت بتلة أو (قمة) النسر.
في ذلك الموقع المتقدم، وعلى بعد ليس بمديد من قوات الإحتلال "الإسرائيلية" الصهيونية، كانت البراكسات والدشم تحت الأرضية تغص وتزدحم بكتابات وخربشات الجنود، وبصور فلسطينية لمدن وقرى من فلسطين المغتصبة، ولملصقات فنية ذات مضمون وطني هي غاية في التعبير والمعنى، وقد كتب أحد الجنود وبقلم (الفلوماستر) العريض على جدار إحدى (البركسات) تحت الأرضية المخصصة لمبيتنا، بيتاً من الشعر قاله شاعر تونس أبو القاسم الشابي قبل عقود خلت :
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
في تلك الأثناء كان البيت الشعري إياه، الذي بتنا نقرأه طوال ساعات اليوم الواحد كلما وقعت أنظارنا عليه، يلخص درساً يومياً لنا، في عبره ومغازيه، وعامل تحفيز لنا في جهوزيتنا العسكرية، وفي تَحمُلنا أصقاع وثلوج جبل الشيخ، كما في إيماننا الراسخ بأن إرادة الشعب تصنع المستحيل، وتستطيع ان تزيح عن صدر أي شعب كل أشكال المظالم، وأن تعيد تسطير وكتابة حياته بطريقة ثانية من جديد.
موقع تلة النسر الواقع في أعلى مرتفع جبل بربر، تتربع على منحدراته الشرقية قريتي (بقعسم وريما) السوريتين، فيما تقترب الحدود الشمالية له من بلدة (عرنة)، وتقابله من الشمال قرية (قلعة الجندل) المستريحة في حوض منخفض من وهدان وحفر جبل الشيخ يطلق عليه مُسمى (البحرة) نتيجة ذوبان الثلوج وصبيبها داخل تلك الحفرة وبقائها لفترات طويلة خلال فصلي الربيع والصيف.
في حرب تشرين أكتوبر 1973، ووفق ماعلمناه موثقاً ومؤكداً، فإن معارك طاحنة شهدتها تلة النسر وجبل البربر، حيث تبدو صخور ذلك الجبل وتلته النسرية بعد ذوبان الثلوج عادة وكأنها أسنان سوداء منخورة نتيجة الكم الهائل من القنابل التي وقعت على ذلك المكان، بما فيها القنابل الحارقة فضلاً عن القنابل العنقودية.
لقد حوّل جنود الجيش العربي السوري وجيش التحرير الفلسطيني، مكان وجودهم في عموم مرتفعات جبل الشيخ ومنها تلة النسر إلى نافذة معنوية ووجدانية ووطنية واسعة تطل على وطنهم فلسطين. حيث تُرى وتُشاهد جبال الجليل وقمة جبل الجرمق، ومدينة صفد، وإلى الخلف من جبل الجرمق ومن جهة الغرب يشمخ جبل الكرمل ومدينة حيفا فردوس فلسطين المغتصب، فيما تستريح طبريا والغور الفلسطيني في قعر منخفض الحدود السورية الفلسطينية "التي صنعها الثنائي اللعين سايكس/بيكو" تنتظر عودة الأحبة بعد لجوء مستديم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت