- الأسير/ كميل أبو حنيش
الحلقة الثالثة
الصهيونية وطبيعتها العدوانية
لا يمكن فصل السياسات والممارسات "الاسرائيلية" العدوانية بحق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة قاطبةً، عن الفكرة الصهيونية التي وُلدّت من رحم التشكيل الاستعماري الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر، واستقت خطابها وشعاراتها وأدواتها وسياساتها واستراتيجياتها من الفكر الاستعماري الاستشراقي والعنصري الأوروبي الذي كان في ذروة حروبه الامبريالية والاستيطانية والإبادية التي شملت العالم بأسره في تلك الحقبة.
لقد مَثّل مشروع "الدولة"، جوهر الفكرة الصهيونية، حيث جاهرت الصهيونية منذ البداية، بأن دولتها، العتيدة ستكون جزءاً من المشروع الاستعماري الأوروبي، وأنها ستكون بمثابة الحاجز أو السد في وجه "بربرية الشرق"، وأنها ستسعى لاقتلاع أبناء الجاليات اليهودية في شتى بقاع العالم، وتوطينهم على أنقاض شعبٍ آخر، وتحويلهم إلى رأس حربة في خدمة القوى الاستعمارية العالمية، وبذلك حددت سلفاً موقعها ووظيفتها العدوانية على شعوب المنطقة، وعلى السلام العالمي.
لإخفاء طابعها ووظيفتها العدوانية، بذل مفكرو الصهيونية جهوداً حثيثة لإضفاء "الصبغة الديمقراطية والثورية والإنسانية" على الصهيونية، وتسويقها على أنها "فكرة تحررية" تهدف إلى "تحرير اليهود، وتخليصهم من الملاحقة والاضطهاد المُمارس بحقهم".
بيد أن محاولات تجميل الصهيونية ومشروعها لا تلغي طبيعتها العدوانية والعنصرية والتوسعية. فقد قامت بالأساس على فكرة اختراع شعبٍ هو " الشعب اليهودي" ونفي شعبٍ آخر من الوجود، عبر إبادته أو تهجيره عن وطنه أو استعباده فوق أرضه هو الشعب الفلسطيني، وتشييد قلعتها العسكرية "اسرائيل"، التي شَكلّت تهديداً وجودياً منذ إقامتها، لشعوب المنطقة برمتها. ولا يمكن لها أن تتخلص من طبيعتها العدوانية إلا بسقوط دولتها واندحار أيديولوجيتها المستجلبة من مخلفات القرن التاسع عشر.
أما المراهنة على تَحوّلات الدولة العبرية من الداخل، وتطورها إلى دولة "ديمقراطية مسالمة"، فإنه يعد ضربٌ من الوهم، ولا يستقيم مع واقع الكيانات الاستعمارية الاستيطانية التي تقوم على أنقاض الشعوب، و تتسلح بالأيديلوجيات اليمينية العنصرية.
لقد شهدت التجربة الاستعمارية الصهيونية لفلسطين، عشرات الحروب التي شنتها "اسرائيل" ضد شعوب المنطقة، وتقدر أعداد الضحايا جراء هذه الحروب بمئات الآلاف من القتلى وملايين اللاجئين، ودفعت المنطقة أثماناً باهظةً من حروب وويلات وتخلف اقتصادي واجتماعي وسياسي، وتكريس للأنظمة الاستبدادية، وتبديد للثروات، وانفجار الأزمات والحروب المذهبية والطائفية، وتكريس التجزئة وضرب أي مشروع وحدوي...الخ.
كل ذلك بسبب الوجود الصهيوني، وإصراره على إبقاء المنطقة تعيش على صفيحٍ ساخن، كشرط لبقائه وانفراده كقوة مهيمنة بلا منازع.
أما مشروع السلام، كما تفهمه "اسرائيل"، كما صرح به أبرز قادتها منذ ما قبل تجسيد الدولة، وحتى اليوم بكل وضوح، والذي لخصه نتنياهو بـ " سلام القوة والردع". إنما يعني بالنسبة لها الهيمنة الشاملة على المنطقة، و فرض نفسها كامبراطورية إقليمية تخضع لها المنطقة وتتحكم بمصير ومستقبل شعوبها.
وإذا كانت المقاومة الفلسطينية والعربية قد ألجمت التوسعية الصهيونية في الجغرافيا العربية، وأرغمتها على الانكفاء والاندحار عن بعض الأراضي العربية المحتلة، غير أنها لم يكن بمقدروها حتى الآن، كسر هيمنتها العسكرية والأمنية، واختراقها للأسواق العربية، ولا وقف سياساتها التخريبية في المنطقة.
وإذا كان الشعب الفلسطيني، يُمثل رأس الحربة في مواجهة المشروع العدواني الصهيوني، وبوصفه الشعب الأكثر تضرراً واستهدافاً، فإنه وبحجم تجربته الطويلة في الكفاح ضد الاستعمار الصهيوني، يعي جيداً أنه لا بديل ولا خيار أمامه سوى مواصلة هذا الكفاح، وإلا فإن استسلامه ورضوخه وتراخيه أمام السياسات العدوانية اليومية لا يُمكن له إلا أن ينتج المزيد من الاستهداف وتهديد الوجود، في ضوء تَغوّل الاستيطان، ومصادرة الأرض، والإفقار، والاعتقال، والقتل، والتهجير، وهدم البيوت، وسرقة المياه، وضرب الاقتصاد، والحواجز، وسياسة العقاب الجماعي، واقتلاع الأشجار، وعربدة المستوطنين، واستغلال العمالة الفلسطينية...الخ.
إن تنامي الممارسات العدوانية الصهيونية واستشراء وسائل القمع، والتفنن في طرق إذلال الإنسان الفلسطيني على أرضه، لا يمكن لها إلا أن تنتج تنامياً في حدة الغضب والقهر، و تخلق مناخاً للفعل المقاوم لن يلبث أن يتدحرج ويتطور ، وينتج أشكالاً جديدة في المقاومة، تستدعيها ظروف المرحلة التاريخية التي يمر بها الشعب الفلسطيني، ارتباطاً بحالة الانقسام السائدة، وما أنتجته من ضعف وإحباط وتراخي، علاوةً على تراجع تأثير الفصائل الوطنية والإسلامية، وانحسار فعالياتها وأنشطتها الميدانية، وهو ما يسمح في نهاية المطاف بولادة حالةٍ شعبيةٍ ساخطةٍ على ما يجري تحاول الاجتهاد في الإمساك بزمام المبادرة النضالية.
وما تشهده الساحة الفلسطينية في الوقت الراهن، من ظهور إشكاليةٍ وظواهرٍ جديدة لم تعرفها التجربة الثورية الفلسطينية على هذا النحو من الحدة ما هو إلا دليل، على بروز مقدمات ومخاضات عسيرة لولادة مرحلة جديدة، من مراحل الصراع مع الصهيونية، ومن ناحية "اسرائيل"، المنهمكة بأزمتها السياسية الداخلية والمنتشية بكأس القوة والغطرسة، والمزهوة بكفاءة أذرعها الأمنية والعسكرية، ستفاجأ أكثر من غيرها بردود الأفعال الشعبية، على كل ما ترتكبه من ممارسات فهذه الموجة الثورية المتصاعدة، تختلف عن بقية الهبات السابقة التي كان يسهل احتوائها وإجهاضها، وليس لنا حتى الآن، أن نعرف إلى أي مدى ستتسع وفي أي اتجاه ستسلك، وأية محفزات من الممكن أن توجهها، ونقطة التَحوّل التي من شأنها أن تفسح المجال أمام انفجارها، وعدم القدرة على السيطرة على مفاعيلها.
إن "اسرائيل"، بحكم طبيعتها، لا يمكن لها أن تتراجع عن ممارساتها التي باتت يومية واعتيادية وطبيعية تتسق مع عدوانيتها، ولا يمكن للشعب الفلسطيني بوصفه شعباً يعيش تحت الاحتلال، أن يرضخ طويلاً أمام هذه الممارسات، وإذا كانت حالة الاشتباك موضوعياً، قائمةً ومفتوحةً، منذ بداية المشروع الصهيوني، وإذا كانت هذه الحالة تنتج انتفاضةً أو ثورةً بفعل التراكمات، فإنه قد يكون من المحتمل أنه آن أوان اندلاع انتفاضة جديدة، بفعل التراكمات.
وقد يكون من المبكر إطلاق أي توصيف أو مُسمى على الحالة الراهنة، التي تنذر بانفجار وشيك، غير أنه يمكننا أن نجازف ونقول: أنه لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء - أي إلى ما قبل - ولادة هذه الحالة، وليس من الحكمة أو المسؤولية الوطنية المسارعة لاستثمارها سياسياً، أو محاولة وأدها في مهدها، وإنما يتعين العمل على تشجيعها وإنضاجها وتطويرها وتمكينها والسعي لإسنادها والإمساك بزمامها من موقع المسؤولية الوطنية والتاريخية.
عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت