- د. سنية الحسيني
سيوقع لبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي اليوم إتفاقاً يحمل عنواناً عريضاً لترسيم الحدود البحرية بينهما، ولوضع الضوابط على استغلال الموارد الطبيعية خصوصاً تلك التي تتعلق بالطاقة في المياه الاقتصادية الخاصة بهما. وتعد تلك النتيجة، وذلك بقبول الطرفين التوقيع على تفاهمات محددة، اختراقاً يحسب للوسيط الأميركي، الذي لم ينجح في تحقيق مثل هذا الاختراق عبر عقد كامل مضى. ونجح الوسيط الأميركي في العام ٢٠٢٠ بتنسيق أول لقاءات تفاوضية غير مباشرة بين البلدين في منطقة رأس الناقورة، تحت رعاية الأمم المتحدة، في أعقاب انفجار مرفأ بيروت، وما خلفه من أضرار اقتصادية كبيرة على لبنان، لكن هذه اللقاءات لم تخرج بنتائج عملية تذكر بعد خمس جولات تفاوضية. الا أن التطورات التي جاءت في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، وحاجة الولايات المتحدة لموارد الطاقة من منطقة الشرق الأوسط، فرضت تطورات جديدة لتحريك ملف تلك المفاوضات، خصوصاً في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية اللبنانية، بل وتفاقمها. فهل نجحت الولايات المتحدة في إبرام اتفاق ملزم بعيد المدى لترسيم الحدود البحرية بين عدوين لدودين منذ أكثر من سبعة عقود، أم أن الأمر مجرد صفقة اقتصادية مربحة لجميع الأطراف؟
بعد الحرب الروسية الأوكرانية، صرح الاتحاد الأوروبي برغبته تعزيز تعاونه مع إسرائيل في مجال الطاقة. وكانت إسرائيل قد بدأت العمل بتطوير حقل كاريش البحري منذ نهاية العام ٢٠١٦، وجرى التأكد من وجود كميات كبيرة من الغاز فيه، ووصل المشروع الإسرائيلي إلى مراحله النهائية خلال العام الجاري، وذلك بإمكانية استخراج ونقل الغاز، فبدت إسرائيل وكأنها أحد قوارب النجاة للولايات المتحدة ولأوروبا، للتخفيف من حدة أزمة الطاقة خلال أيام الشتاء القادم. إن هذا يفسر تطور الأزمة البحرية بين لبنان وإسرائيل خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، والتي بدأت بوصول سفينة يونانية بريطانية في شهر حزيران الماضي لربط حقل كاريش عبر أنابيب في المنصة البحرية المقامة في الحقل لتصل إلى سواحل حيفا. رفض لبنان السماح لإسرائيل باستغلال موارد حقل كاريش دون حل مشكلتها في حقل قانا البحري، الذي يحرم لبنان من استغلاله، بحجة أنه ضمن مناطق متنازع عليها مع إسرائيل. استدعى لبنان الوسيط الأميركي في ذلك الشهر، وعرض عليه صفقة محددة تقوم على أساس عمل إسرائيل في حقل كاريش مقابل عمل لبنان في حقل قانا. إن ذلك ما يفسر تهديدات حزب الله بعد ذلك، بإرسال طائراتها المسيرة إلى حقل كاريش، عندما تأخرت إسرائيل في الرد على الصفقة اللبنانية. وكان الوسيط الأميركي قد تحمس لهذه الصفقة، التي من شأنها حل أزمة الطاقة في أوروبا في ظل استمرار الحرب. فهل نحج لبنان في استغلال ظروف الحرب وحقق أهدافه؟
جاءت تطورت عقد الصفقة البحرية اللبنانية الإسرائيلية متلاحقة، وتعكس اهتمام الوسيط الأميركي بتحقيقها، قبل حدوث أي تطورات محلية لبنانية أو إسرائيلية يمكن أن تعرقلها. فستجري الانتخابات التشريعية الإسرائيلية مطلع الشهر القادم، كما سيخرج الرئيس اللبناني من منصبة نهاية الشهر الجاري. وكانت إدارة الرئيس جو بايدن قد عينت مبعوثاً خاصاً لموضوع ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية، رغم أن العديد من الملفات العالقة في الشرق الأوسط لم تنل مثل ذلك الاهتمام من الإدارة الحالية، بما فيها عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية. كما جاءت الموافقة الإسرائيلية واللبنانية على العرض الأميركي لاتفاق الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية ومعطيات استغلال موارد الطاقة البحرية لكلا الجانبين متلاحقة، فوافق يائير لابيد رئيس وزراء دولة الاحتلال على العرض الأميركي للصفقة في الثاني عشر من الشهر الجاري، وجاءت موافقة الرئيس اللبناني ميشيل عون عليها في اليوم التالي، كما أيدها حسن نصر الله. وأعطت الحكومة الإسرائيلية المصغرة مدة أسبوعين فقط للجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست لإبداء الرأي في الصفقة، التي أيدتها الأجهزة الأمنية والعسكرية في إسرائيل بقوة. نجحت الولايات المتحدة بتوقيع الاتفاق قبل أيام فقط من موعد رحيل عون عن منصبة والانتخابات التشريعية الإسرائيلية.
ورغم ذلك من الصعب اعتبار ما سيتم توقيعه اليوم بأنه اتفاق ملزم للأطراف الموقعة عليه، فهو لم يخرج عن كونه مجرد تفاهمات، جاءت على شكل رسائل متبادلة وضعتها الإدارة الأميركية على شكل اتفاق، يضم عدداً من البنود، ستوقعها كل من لبنان وإسرائيل بشكل منفرد. كما لم يتم عرض هذا الاتفاق على الكنيست للموافقة عليه وإقراره، وهو الذي يعتبر الجهة المخولة حسب القانون بإقرار الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بأغلبية الثلثين. ورغم ذلك ليس من المتوقع أن ينسحب بنيامين نتنياهو من الاتفاق رغم إعلانه المتكرر بعدم القبول به، في حال فوزه في الانتخابات القادمة، بسبب المكاسب الاقتصادية التي سيمنحها الاتفاق لإسرائيل، ناهيك عن خطورة ذلك الانسحاب المفترض على علاقات حكومة نتنياهو مع أميركا ودول أوروبا الحليفة. وأصر الرئيس عون من جانبه على إبراز موافقته الفردية على الاتفاق، دون عرضها على مجلس النواب اللبناني، ليعطي الانطباع بعدم إلزامية هذا الاتفاق من الناحية القانونية، الأمر الذي يؤكد على أنه مجرد تفاهمات أو صفقة بين الأطراف الموقعة عليه، رغم اشتراط إيداع تلك التفاهمات بعد التوقيع عليها لدى الأمم المتحدة.
ونفذت الولايات المتحدة هذه الصفقة بحيث حاولت إرضاء الطرفين اللبناني والإسرائيلي، في ظل تناقض رؤيتهما تجاه المعطيات والقضايا الرئيسة لحل مشكلة الحدود البحرية بينهما، وانسجام مصالحهما الاقتصادية لإبرامها. فجاءت الصفقة عبارة عن اتفاق غير ملزم للطرفين، لا تغير معطياته من الواقع القانوني الحالي. فأكد الاتفاق على أنه لا يخل بالحدود البرية المتنازع عليها، والتي تعد الأساس، حسب القانون الدولي لترسيم الحدود البحرية. إن ذلك يفسر قبول لبنان اعتبار المنطقة المتنازع عليها بالقرب من حقل قانا ضمن معطيات إسرائيل لترسيم الحدود التي وضعتها بعد انسحابها من لبنان عام ٢٠٠٠، والتي لا تعترف بها لبنان. كما راعى الطرف الأميركي رغبة لبنان في عدم تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. فجاءت المفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل حول الاتفاق، كما اقتصرت مراسم التوقيع على الاتفاق بدون لقاءات مباشرة أو توثيق مصور، وجاء التوقيع على مستوى تقني وليس على مستوى سياسي. وراعت الولايات المتحدة رغبة لبنان في العمل في حقل قانا البحري منفردة دون شراكة مع إسرائيل، في ظل المنطقة المتنازع حولها، والتي عطلت استغلاله من قبل لبنان لسنوات، وذلك بإبعاد الطرف الإسرائيلي تماماً من الصفقة مع لبنان، وبتنازل إسرائيل عن حوالي ٨٦٠ كيلو متراً مربعاً من المياه القريبة من حقل قانا. في المقابل، ضمن الاتفاق لإسرائيل الحصول على نسبة من عوائد إنتاج حقل قانا مقابل الجزء الذي تنازلت عنه، من خلال شركة توتال الفرنسية التي تعهدت بإنجاز العمل في هذا الحقل، حيث أصر لبنان على أن عائدات إسرائيل المالية تأتي من الشركة الفرنسية وليس من نصيبها، كما أكدت على عدم اعتبار تلك الأموال التي ستذهب لإسرائيل من الشركة الفرنسية على أنها تعويض مالي، وإنما تسوية تأتي من أرباح الشركة الفرنسية نفسها، وهي مرهونة بما سينتج فعلياً من حقل قانا. وقد يشكل ذلك مؤشراً على الدور الذي لعبته فرنسا لإنجاز هذا الاتفاق.
نجحت الولايات المتحدة كوسيط في تجاوز جميع العقبات التي عقدت الوصول لاتفاق، وأرضت الطرفين، فاستطاع لبنان تشغيل حقل قانا دون تطبيع علاقاته مع إسرائيل، ونجحت إسرائيل في العمل في حقل كاريش دون مواجهة أي مشكلة أمنية من حزب الله، وحصلت الولايات المتحدة على ما تريد بضخ الغاز الذي تحتاج اليه أوروبا من حقل كاريش دون عقبات، وفي نفس الوقت لم يتنازل أي من الأطراف المتصارعة عن مصالحه، الأمر الذي يشمل صفة اقتصادية مربحة لجميع الأطراف.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت