- بقلم:سري سمور
حتى كتابة هذه السطور كان عداد الشهداء الفلسطينيين في الضفة الغربية(بما فيها القدس) يرتفع، وهو ارتفاع غير مسبوق منذ سبع سنين، وقد كان لجنين ومخيم جنين(حيث أعيش) عدد الشهداء الأكبر في الأحداث الجارية.
مخيم جنين وجنين...صداع إسرائيل!
لمع اسم مخيم جنين وتصدر أخبار العالم، في نيسان-أبريل 2002 أثناء عملية(السور الواقي) التي شنها شارون وموفاز ضد مناطق الضفة الغربية، حيث تصدى عشرات المقاتلين الفلسطينيين لاقتحام المخيم، فأوقعوا عشرات القتلى والجرحى في صفوف قوات الجيش الإسرائيلي، ولم يتم إنهاء المقاومة في أزقة وشوارع وبيوت المخيم إلا بعد حوالي أسبوعين، حيث استشهد عشرات المواطنين، وهدمت مئات البيوت وسويت بالأرض باستخدام الجرافات العسكرية، وبيوت أكثر منها تضررت بدرجات مختلفة على إثر تلك المعركة المشهورة.
وشهد المخيم منذ 2007 أي بعد أحداث الانقسام الفلسطيني، حالة من الهدوء النسبي، استمرت سنوات، ولكن منذ 2013 عاد التوتر إلى مخيم جنين، حيث صار من المؤكد أن قوات جيش الاحتلال التي تقتحم المخيم لاعتقال أي من سكانه، سترشق بالحجارة والزجاجات الحارقة والفارغة، وسيرتقي شهداء إثر ذلك، ثم تطور الأمر إلى إطلاق النار على القوات المقتحمة من مسافات بعيدة نسبية(ولكن للأمر رمزيته المفهومة).
عود على بدء!
وبعد سنوات من اختفاء ظاهرة الملثمين المسلحين المقاومين في المخيم، كما سائر مناطق الضفة الغربية، عادت الظاهرة تدريجيا إلى مخيم جنين حصرا، وتعززت بعد عملية (نفق الحرية) في أيلول-سبتمبر 2021 ذلك أن الأسرى الستة الذين أعيد اعتقالهم بعد أيام من محافظة جنين وأحدهم(زكريا زبيدي) من مخيم جنين وقد كان أحد أبرز نشطاء كتائب شهداء الأقصى إبان انتفاضة الأقصى.
وبعد أسابيع قليلة من أحداث(نفق الحرية) استشهد الشاب (جميل العموري) بعد فترة قصيرة من الإعلان عن تشكيل (كتيبة جنين) وكتيبة جنين باختصار تعرف نفسها بأنها مجموعة تقاوم الاحتلال مقاومة مسلحة باستخدام البنادق (بعضها محلي الصنع) والعبوات الناسفة المصنعة محليا، وهي تضم مقاومين من مختلف الفصائل(فتح وحماس والجهاد الإسلامي) مع ملاحظة دور بارز لحركة الجهاد الإسلامي في انتماء العناصر الذين يرتقون شهداء.
وبعد حوالي سنة من هذه الحالة؛ أي تصدي مقاومي كتيبة جنين لاقتحامات الجيش الإسرائيلي وارتقاء شهداء وإصابة عدد من المواطنين أثناء كل عملية اقتحام، عاد مخيم جنين إلى واجهة الأحداث من جديد.
شيرين أبو عاقلة!
لعل مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة لا تذكر -من كثرتها-عدد المرات التي دخلت فيها مخيم جنين لتغطية الأحداث، أو لإعداد تقارير خاصة بالجزيرة بمناسبات معينة، وجاءت منية شيرين في 11 أيار-مايو 2022 على أرض المخيم وتحديدا قرب مقبرة الشهداء، برصاصة أطلقها جندي إسرائيلي اصابت رأسها، وأصيب الصحفي مراسل الجزيرة سابقا في جنين(علي سمودي) في ظهره، وقد صعقت مقاطع الفيديو التي بثت عبر الإنترنت والقنوات الفضائية ملايين المشاهدين...وأيضا عاد مخيم جنين إلى صدارة الأحداث أكثر من السابق.
ولعل في استهداف شيرين رسالة إسرائيلية؛ فهي لم تكترث بأنها مراسلة قديمة لأكبر فضائية إخبارية عربية ترتدي زي الصحافة كاملا، وهي قبل كل شيء امرأة، وتحمل الجنسية الأمريكية...وكأن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تقول للمخيم والعالم:انتظروا ما هو أبشع!
تصعيد وإلهام!
تواصلت عمليات اقتحام مخيم جنين بين الفينة والأخرى، وصارت عمليات الاقتحام كل بضعة أيام مؤخرا، وبالتزامن معها تصاعدت عمليات التصدي للاقتحام، وبوتيرة أعلى وأكثر تنظيما، وأحيانا يصاب جنود إسرائيليون في الاشتباكات المسلحة العنيفة.
وهذا التصعيد جعل مجموعة من أسماء الشهداء أيقونات ومصدر إلهام لجيل الشباب، الذين ولدوا وترعرعوا بعد أحداث انتفاضة الأقصى، والمجمع عليه أنهم يتمتعون بجرأة كبيرة غير مسبوقة تلامس المغامرة، وأن ملهميهم هم من سبقهم من الشهداء؛ فلا يكاد يعلن عن شهيد جديد إلا وتنشر صوره برفقة شهداء بارزين من المخيم في المرحلة الجديدة من النضال الفلسطيني(أمثال جميل العموري وعبد الله الحصري) أو صورة بجانب قبور هؤلاء الشهداء...إنهم مصدر إلهام وقدوة، بلا شك للجيل الشاب الجديد.
وانتقلت الظاهرة إلى نابلس خاصة منطقة البلدة القدمة، وقد لوحظ أن عددا من شهداء نابلس التقطوا صورا مع شهداء جنين(قبل ارتقائهم) أو وهم يقرؤون الفاتحة على قبور شهداء مخيم جنين.
هنا أصبحت جنين ونابلس حالة كفاحية خاصة، فيها مقاومون يجمعون بين السرّ والعلانية، ويصدرون البيانات ويعلنون عن تنفيذ هجمات، ويدعون إلى التصعيد والإضرابات، وبسبب تضييقات فيسبوك على المحتوى الفلسطيني، لجأوا إلى تطبيق تلجرام.
تطور واضح في الأداء
مع اختلاف الاسم:(كتيبة جنين) التي امتد نشاطها من المخيم والمدينة إلى العديد من القرى والبلدات المحيطة، و(عرين الأسود) في نابلس التي تمكنت مؤخرا من قتل جندي إسرائيلي قرب مستوطنة(شافي شومرون) غرب مدينة نابلس، أي لم تعد(عرين الأسود) مجموعة تقاوم الاحتلال فقط عندما يقتحم نابلس، شأنها شأن شقيقتها(كتيبة جنين) التي تهاجم يوميا بعض الحواجز والنقاط العسكرية الإسرائيلية.
أبو رعد خازم وماهر غوادرة!
في نيسان-أبريل 2022 وبالتزامن مع الثلث الأول من شهر رمضان المبارك قام الشاب رعد فتحي خازم(بالخاء) بتنفيذ هجوم مسلح في شارع (ديزنغوف) في تل أبيب قتل فيه مستوطنان إسرائيليان وجرح 15 آخرون بجروح مختلفة وبعد ساعات استشهد (رعد) بعد اشتباك مع قوة إسرائيلية خاصة بعد أدائه الصلاة في مسجد في مدينة يافا المحتلة.
وفور الإعلان عن هوية منفذ الهجوم توافدت الجموع إلى منزل عائلته في مخيم جنين، وهنا كان المخيم على موعد مع أمر جديد؛ حيث وقف فتحي خازم(أبو رعد) وألقى كلمة أعلن فيها عن رضاه عن نجله الأكبر، واستشهد بآيات قرآنية واستلهم وقائع من التاريخ الإسلامي.
ومن عادة الاحتلال أن يعتقل ذوي أي منفذ لعملية من هذا النوع للاستجواب وجمع المعلومات، ولكن أبا رعد رفض تسليم نفسه، وتحوّل حتى اللحظة إلى (شيخ المطاردين) الفلسطينيين فهو ابن الستة وخمسين عاما، أعلن غير مرة أنه يريد تسلم جثمان ابنه رعد، واحتضانه ودفنه بطريقة لائقة حسب الشريعة الإسلامية، وبعدها لكل حادث حديث.
وتحتجز سلطات الاحتلال جثامين عشرات الشهداء ممن نفذوا عمليات في ثلاجات وترفض تسليم جثامينهم كنوع من الضغط والمساومة والابتزاز.
واستمر أبو رعد في إلقاء خطابات تدعو إلى وحدة الصف(لوّح مرة أمام الجماهير والإعلام براية حركة حماس الخضراء) والاستمرار في المقاومة حتى تحرير القدس وفلسطين.
وصار أيقونة مميزة في مخيم جنين ومناطق أخرى مثل غزة والقدس ومخيمات لبنان حيث ترفع صوره، وتقتبس بعض كلماته التي يلقيها أمام الجماهير في مناسبات التشييع والتأبين للشهداء أو التي ينشرها على صفحته في فيسبوك.
وقد هدمت سلطات الاحتلال شقة مسجلة باسم رعد في جنين، وبعد خمسة شهور من استشهاد رعد وتحديدا في ذكرى اندلاع انتفاضة الأقصى اقتحمت قوة إسرائيلية منزل عائلة خازم في مخيم جنين واشتبكت مع عبد الرحمن شقيق رعد وصديقه (محمد الونة) فاستشهدا.
وفي أثناء تشييع الجثمانين ألقى (أبو رعد) كلمة وفي مفاجأة جديدة ظهر لأول مرة الخمسيني (ماهر غوادرة تركمان) ملثما وألقى كلمة مقتضبة؛ وماهر تطارده قوات الاحتلال بدعوى مشاركته ابنه محمد(استشهد في مشفى هداسا في تشرين أول الجاري) وابن عمه بتنفيذ هجوم مسلح على حافلة جنود إسرائيليين في منطقة الأغوار في أيلول-سبتمبر الماضي أسفرت عن جرح سبعة جنود على الأقل.
وظهر ماهر غوادرة مرة أخرى دون لثام مستقبلا المعزين باستشهاد نجله ماهر وكرر خطاب التحدي الداعي إلى استمرار المقاومة، وصوره وهو يحتضن (فتحي خازم-أبو رعد) أثارت عاطفة الجمهور.
وبوجود الرجلين (فتحي وماهر) يكون للشباب من لا يترددون بوصفه (بالأب) فإذا كان المقاومون تتراوح أعمار معظمهم ما بين 18-24 عاما فإنه قد صار لهم أب معنوي يلهمهم ويوجه لهم النصح والإرشاد ويحاول أن يزرع فيهم الوعي ويحضهم على مواصلة الطريق، فهو في عمر آبائهم، وعركته الحياة وخبر السجون والمطاردة وغيرها.
إلى أين؟!
حتى الآن تكاد تنحسر الحالة الكفاحية الجديدة في الضفة الغربية في جنين ونابلس، ولا تخفي المؤسسة الإسرائيلية مخاوفها وبعضا من أعمالها لمنع تمدد الظاهرة-الحالة وانتشارها إلى مناطق أخرى.
ولكن يبقى السؤال عن المدى الزمني لهذه الحالة، وكم ستستمر وعمّ ستسفر؟وهل ستتمدد جغرافيا؟وهل ستبقى بذات الوتيرة؟
والواضح بأن التصعيد سيستمر والزخم سيزيد خلال المرحلة القادمة، وستسيل مزيد من الدماء.
رحم الله الشهداء.
،،،،،
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت