- بقلم: رانية عبدالرحيم المدهون
ميناء غزة البحري.. نموذج مصغَّر للوطن المحاصَر، وشاهدٌ على قطاع شعبي ليس بالقليل ضمن قطاعات الشعب الفلسطيني المختلفة التي تقطُن قطاع غزة الذي وصفوه بـ "المحرَّر"!
أجلَت حكومة الكيان "الإسرائيلي" خلال شهر آب/أغسطس من العام 2005، 1600 عائلة من المستوطنين، واعتبر الفلسطينيون أن قطاعهم الجنوبي الغربي من فلسطين المحتلة، أضحى قطاعًا محررًا من الوطن؛ لكن سرعان ما تكشَّفت حقيقة هذا الانسحاب، وأنه محض توسيع المدى الجغرافي الفاصل بين القوات الأمنية للعدو وبين الشعب الفلسطيني، بمعنى نقل قوات العدو على تخوم غزة عملاً على أَسرِها داخل حدودها البريَّة والبحريَّة والجوِّية، وسهولة السيطرة عليها بتكلفة أقل للاحتلال.
يُعتبر شاطئ بحر غزة بوابة القطاع من جهته الغربية، بمثابة سياجًا مائيًا لمحاصرة فلسطينيّي القطاع، حيث يُحاذي هذا السياج المائي شاطئ البحر الممتد لـ 41 كيلو متر مربع، من بلدة بيت لاهيا شمالاً، وحتى مدينة رفح جنوبًا.
عشرات (الحسكات) المراكب والقوارب مُرابِطة دون عمل بمحاذاة مرفأ القطاع، بسبب قيام حكومة الكيان بحصار بحري صارم ودامي على طول الساحل. خمسون ألفًا عدد الصيادين الفلسطينيين وعوائلهم ممَّن يعتاشون على قوت مهنة الصيد، يعانون الأمرَّين جرَّاء تنكيل عناصر سلاح البحريَّة الإسرائيليَّة بحقِّهم بشكل روتيني ومُمنهَج، تحت ذريعة تجاوُزهم للمساحة المسموح بها للصيد في بحر غزة.
اعتداءات بالغة لقوات بحريَّة العدو على الصيادين الفلسطينيين، تبدأ بمطالبتهم بالميكرفونات ترك شباكهم ومغادرة المنطقة بدعوى أنها "منطقة مُغلَقة"! بالإضافة إلى اعتراض قواربهم وملاحقتهم، ومنعهم من الصيد، واحتجاز القوارب في بعض الأحيان.
كما يقوم العدو بتفتيش الصيادين بدون ملابس أحيانًا لإهانتهم، ومن ثم إنزالهم في المياه لا سيما خلال ليالي الشتاء قارسة البرد، وكثيرًا ما يتم إطلاق الرصاص الحي والمطاطي عليهم، وفتح نيران مدافع الزوارق البحريَّة الرشاشة للعدو باتجاههم، الأمر الذي يتسبَّب في وقوع إصابات جمَّة في صفوفهم، وقد يصل الأمر أحيانًا للاستشهاد.
هذا إلى جانب إحداث أضرار جسيمة في قواربهم تصل لقلبها أو دهسها وإغراقها، وتخريب معداتهم التي تعينهم في مهنتهم، برصد شباك الصيد والسير أعلاها لتقطيعها وإتلافها، ورشق زوارق العدو الجزء العلوي لمحركات القوارب تحديدًا بالمياه من أجل إتلافها، لبهاظة أسعار المحركات وتعجيز الصياد أمام شراء آخر جديد.
أيضًا تقوم بحريَّة العدو بتكسير كشافات القوارب، وأجهزة الملاحة عبر الأقمار الصناعية الـGPS ، وأجهزة الإيكو ساوند التي تساعد الصيادين على تحديد مواقع الأسماك، والمولدات الكهربائية، والإشارات الضوئية لمراكبهم.
ناهيك عن احتجاز قوات العدو أحيانًا لقوارب الصيادين، وتوقيف الصيادين القاطنين عليها داخل مراكز الاعتقال، وإخضاعهم للتحقيق المؤجَّل.
وبعد كل هذه المعاناة، تقوم حكومة الاحتلال بتقييد تصدير الأسماك، أو حتى تسويقها محليًا، كما وتحظر دخول المواد الخام وقطع الغيار والمعدات الضروريّة لممارسة مهنة الصيد.
من النظرة القانونية؛ فإن اتفاقية إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي "أوسلو" الموقَّعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الاحتلال، في 13 سبتمبر/أيلول من العام 1993، نصَّت ضمن بنودها على السماح للصيادين بالإبحار لمسافة 20 ميلاً بحريًا على طول شواطئ قطاع غزة؛ إلا أن حكومة الاحتلال في العام 2000 وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية، بدأت بالتضييق على قطاع الصيد تدريجيًا، حيث قلَّصت المساحة المسموح بها للصيد إلى 12 ميلًا بحريًا، أي ما يعادل 22 كيلو مترًا مربعًا في عمقِ البحر، وكتداعي لأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في العام 2006، ومن بعدها الحصار على القطاع الذي بدأ بشكل واضح في العام 2007، قامت قوَّات سلاح البحريَّة الإسرائيليَّة بإغلاق بحر غزة بشكل كامل لفترات لا تقل عن ثلاثة أشهر في كل غلق.
وفي العام 2011، بدأت حكومة الكيان بتشديد حصارها البحري على القطاع، من خلال ترسيم الحدود البحريَّة له، وإرساء نقاط بحريَّة حربيَّة جديدة، ووضع عوَّامات بحريَّة كبيرة منصوب عليها أجهزة مراقبة إلكترونية على بعد ثلاثة أميال من حدود شاطئ غزة، وإطلاق عشرات الطائرات المسيِّرة بدون طيَّار للمراقبة داخل بحر غزة، وهي إجراءات جميعها مخالف قانونيًا لبنود اتفاقية أوسلو.
وعن اتفاق التهدئة الموقع بين الفصائل الفلسطينية ودولة الكيان، التي تمَّت برعاية مصرية، في 26 أغسطس/آب من العام 2014، والذي ينص على السماح للصيادين الفلسطينيين بالإبحار في مياه القطاع لمسافة ستة أميال بحريَّة؛ فقد باتت هذه الاتفاقية على درب الاتفاقيات المختلفة للفلسطينيين مع العدو، محض تسويف وإيهام. فلقد وَقَعَتَ كافة الاعتداءات الإسرائيلية على الصيادين الفلسطينيين في نطاق المسافة المسموح بها للصيد، على الرغم من إبرام هذا الاتفاق! ونجد القوات البحرية الإسرائيلية وقد أعلنت في 7 مارس/آذار من العام 2015، عبر مكبِّرات الصوت، داخل نطاق تواجدهم في بحر غزة، أنه تم تقليص مساحة الصيد المسموح بها للفلسطينيين إلى 4 أميال بحريَّة، وحذَّرت الصيادين من الخروج عن هذا النطاق علي امتداد مياه ساحل القطاع.
تلى ذلك تقليص المساحة المسموح بها للصيد إلى 9 أميال بحريَّة، في العام 2018، أي ما يُعادِل تقريبًا 9.5 كيلو مترًا مربعًا، وذلك في المناطق الواقعة جنوب القطاع، ثم إلى 6 أميال بحريَّة، أي ما يعادل تقريبًا 16.5 كيلو مترًا مربعًا، وذلك في المناطق الواقعة شمال القطاع، ثم إلى 3 أميال بحريَّة، أي ما يُعادِل تقريبا 8.2 كيلو مترًا مربعًا، وفي بعض الأحيان يَمنع المحتل الصيد بشكل كامل كما ذكرنا عاليه.
الجدير بالاستهجان، أن العدو يُقلِّص المساحة المسموح بها للصيد بشكل بالغ خلال المواسم الرئيسية، ثم يزيد من المساحة المسموح بها في وقت ميِّت من العام، إضرارًا بالصياد الفلسطيني، ويجب الإشارة هنا إلى أن الحد من مساحة الصيد أثناء المواسم الرئيسيَّة لا سيما موسم صيد السردين التي يعتمد عليها الصيادون بشكل كبير، يُقلِّل من كميَّات وأنواع الأسماك المتاحة للصيادين، ما يؤثر على دخل الصياد طيلة العام.
لقد أودت قوات الاحتلال منذ العام 2006، بحياة 21 صيادًا في بحر قطاع غزة، وأصابت 300 آخرين، ودمَّرت 200 مركبًا، وأتلفت آلافًا من شباك الصيد، ما أدى إلى احتضار قطاع الصيد البحري في قطاع غزة، من حيث عدد من يمتَهِنونَ المهنة؛ فخلال العام 2000 كان هناك نحو 10000 صياد مسجَّل في نقابة الصيادين بغزة؛ بينما اليوم هناك ما يقل عن 3700 صيادًا مسجَّل في النقابة فحسب، نصفهم فقط يمارسون مهنة الصيد بالفعل، ونلفت إلى أن هؤلاء الصيادين يعيلون ما يزيد عن 50000 نسمة، ولا يمتلكون سوى 1000 قارب فحسب!
وتختلِق حكومة العدو الحُجج والحيثيات الزائفة لتبرير استهداف قطاع الصيد والعاملين به في غزة، حيث تدَّعي أن حصارها البحري بسبب تعدي الصيادين للمساحة المسموح بها للصيد، رغم أن صيادي القطاع يمتلكون أجهزة ملاحة عبر الأقمار الصناعية (GPS) ويحرصون على عدم تجاوز المدى المُتاح. السبب الحقيقي للحصار البحري على قطاع غزة هو إطلاق أهالي القطاع لبالونات حارقة من القطاع باتجاه أراضي الـ 48، أثناء المظاهرات التي ينظِّمها أهالي القطاع أسبوعيًا في منطقة الحدود البحرية الشمالية بين قطاع غزة ودولة الكيان (أراضي الـ 48).
كما أن ممارسات العدو تجاه سكان القطاع ومن ضمنهم قطاع الصيادين، إنما هي تطبيق لنظرية "استدامة الغذاء"، والتي تم تطبيقها لربط اقتصاد غزة بالاحتلال بشكل قاطع.
وأخيرًا؛ لا نجد لحل هذه الأزمة مجالاً، في غياب أدنى مساحةً لتطبيق مواد القانون الدولي لحقوق الإنسان، الخاصة بحماية حياة السكان المدنيِّين، واحترام حقوقهم، لا سيما حقهم في العمل، وفي السلامة الشخصية، حسب المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة السادسة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت