في يوم الطفل العالمي: نحو 160 من أطفال فلسطين في السجون الإسرائيلية

بقلم: عبد الناصر فروانة

دراسة حديثة بحدود (2500 كلمة) تتناول اعتقال الاحتلال للأطفال الفلسطينيين وتأثيراتها.jpg
  • عبد الناصر فروانة

تحتفل دول العالم في العشرين من تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام بيوم الطفل العالمي، باعتباره مناسبة عالمية تهدف إلى التذكير بأهمية الأطفال وتسليط الضوء على واقعهم في أرجاء العالم، والعمل على تحسين حياتهم وتعزيز حقوقهم ورفاههم، والسعي لضمان توفُّر حياة كريمة لهم، وذلك وفقاً لما أعلنته الجمعية العامة للأمم المتحدة لأول مرة سنة 1954، وكذلك بصفته الذكرى السنوية لتاريخ اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان حقوق الطفل في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1959، واتفاقية حقوق الطفل في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1989. وقد اعتمدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" هذا العام شعار: "لكل طفل.. كل الحق". بينما لسان حال أطفال فلسطين يقول: حقوقنا مسلوبة بفعل الاحتلال وطفولتنا في دائرة الاستهداف الإسرائيلي.

في انتهاك لجميع القوانين والاتفاقيات، استهدف الاحتلال الإسرائيلي الأطفال الفلسطينيين بصورة خاصة، وركز على تجريد الأطفال المقدسيين، تحديداً، من طفولتهم، فقتل وجرح واعتقل وصادر حرية الآلاف من الأطفال الفلسطينيين على مرّ السنوات الماضية، مصعّداً الوتيرة خلال الأعوام القليلة الماضية.

ووفقاً للقانون الدولي، فإن كلمة (طفل) تشمل كل مَن لم يتجاوز سن الثامنة عشرة من عمره؛ لكن لسلطات الاحتلال الإسرائيلي - في هذا الشأن - قاموسها الخاص: فالأطفال الفلسطينيون في نظرها - وبغض النظر عن أعمارهم -  هم فئة مستهدفة بالاعتقال، شأنهم شأن الكبار، حتى وإن قلّت أعمارهم عن الثامنة عشرة بخمسة أو ستة أعوام، بل أكثر، وهناك من الأمثلة الكثير. بينما ناقش الكنيست الإسرائيلي وأقرّ خلال الأعوام القليلة الماضية عدة قوانين تهدف إلى تسهيل إجراءات اعتقال الأطفال الفلسطينيين وتشديد العقوبات بحقهم، مثل: قانون محاكمة الأطفال دون سن الـ 14 عاماً؛ قانون تشديد عقوبة الحد الأدنى على راشقي الحجارة في القدس؛ قانون رفع الأحكام بحق الأطفال راشقي الحجارة.[1]

وفي ضوء ذلك، بات الأطفال الفلسطينيون، ذكوراً وإناثاً، دائمي التواجد في السجون الإسرائيلية ومراكز الاحتجاز والتوقيف، ضمن سياسة ممنهجة، ومن دون مراعاة لصغر سنّهم وضعف بنيتهم الجسمانية وسوء الظروف الصحية لبعضهم، ومن دون توفير الحد الأدنى من حقوقهم التي يضمنها القانون الدولي، أو حاجاتهم الإنسانية. كما لم تراعِ القواعد النموذجية الدنيا في معاملتهم، بعد احتجازهم في مراكز التوقيف، أو ما بعد صدور الأحكام، فتتعامل معهم باعتبارهم "قنابل موقوتة" مؤجلة الانفجار إلى حين البلوغ، فتوظف إمكاناتها الهائلة لتشويه واقعهم وتدمير شخصياتهم وتأخير نموهم الجسدي والعقلي والوجداني، والقضاء على أحلامهم ومستقبلهم، ثم التأثير في توجّهاتهم بطريقة سلبية، لخلق جيل مهزوز ومهزوم غير قادر على المقاومة أو المواجهة.

لقد دفع الأطفال الفلسطينيون ثمناً باهظاً جرّاء الاعتقالات المستمرة على مدار سني الاحتلال الإسرائيلي، ومَن يقرأ شهادات مَن مرّ منهم بالتجربة يُصاب بالذهول والصدمة، ويكتشف أن مراكز الاحتجاز وأقبية التحقيق وزنازين التعذيب وغرف السجون، ليست سوى مسلخ للطفولة الفلسطينية وافتراس لكل ما هو جميل ورائع في حياتهم، وأن ما تضمنته الاتفاقيات الدولية من نصوص جميلة ذات علاقة بحقوق الطفل ليس له مكانة على أجندة الاحتلال حين يكون الأمر متعلقاً بالأطفال الفلسطينيين.

إن كافة الاتفاقيات والمواثيق الدولية جعلت من اعتقال الأطفال ملاذاً أخيراً، وجعلت لجوء القاضي إلى الحكم بسجن طفل ما، وإن كان لا بد منه، فليكن لأقصر فترة زمنية ممكنة، مع ضرورة تمتُّعه بجميع الحقوق المقررة في إعلان حقوق الطفل. وكذلك اتفاقية حقوق الطفل، من دون أي تفريق أو تمييز بسبب العرق واللون، أو الجنس والدين، أو الأصل القومي والاجتماعي. ولعل المادة السابعة والثلاثين من اتفاقية حقوق الطفل مثالاً لما نقول، والتي تنص على ما يأتي:

  • يُمنع تعريض أي طفل للتعذيب، أو لغيره، من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو غير الإنسانية، أو المهينة.
  • ألّا يُحرم أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية. ويجب أن يجري اعتقال الطفل، أو احتجازه، أو سجنه، وفقاً للقانون. ولا يجوز ذلك إلا كملجأ أخير، ولأقصر فترة زمنية مناسبة.
  • يُعامَل كل طفل محروم من حريته بإنسانية واحترام للكرامة المتأصلة في الإنسان، وبطريقة تراعي حاجات الأشخاص الذين بلغوا سنّه. وبوجه خاص، يُفصَل الطفل المحروم من حريته عن البالغين، ما لم يعتبر أن مصلحة الطفل تقتضي خلاف ذلك، ويكون له الحق في البقاء على اتصال بأسرته عن طريق المراسلات والزيارات.

وعلى الرغم من معرفة سلطات الاحتلال لهذه الحقيقة؛ فإنها تضرب عنها صفحاً. فلقد جعلت من اعتقال الأطفال الفلسطينيين الملاذ الأول، والحكم بسجن طفل فلسطيني الخيار المفضل لديها، ولأطول مدة ممكنة، من دون مراعاة العمر. كما دأبت المحاكم العسكرية الإسرائيلية على تعمّد إهمال النظر في الظروف التي انتُزعت فيها الاعترافات من الأطفال الفلسطينيين، حين فرضت على الكثيرين منهم أحكاماً قاسية، وصلت أحياناً إلى السجن المؤبَّد (مدى الحياة). فهذا المُحرّر أحمد الشويكي، وذاك أحمد المناصرة الذي لا يزال أسيراً، وكلاهما من القدس. فالأول: أحمد صلاح الدين الشويكي، اعتُقل في الثامن من شباط/فبراير 2002، بعد إصابته بجروح، وكان يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً، وتعرّض لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي في سجن المسكوبية، ثم أصدرت المحكمة الإسرائيلية بحقه حكماً بالسجن الفعلي لمدة 20 عاماً. وبدلاً من أن يمضي طفولته في أحضان أهله وبين جيرانه، ومع أصدقاء الدراسة، أمضاها "أحمد" قسراً في زنازين الاحتلال وبين جدران السجون خلف الشمس، بعيداً عن كل هؤلاء، فكبر خلف القضبان وذاق من الألم ما يفوق قدرة الإنسان على التحمل. وقد أُفرج عنه بعد أن أمضى مدة محكوميته كاملة، ليخرج من السجن رجلاً بعمر 34 عاماً.

وذاك الطفل "أحمد مناصرة" الذي لا يزال أسيراً منذ أن اعتقلته قوات الاحتلال بتاريخ 12 تشرين الأول/أكتوبر 2015، ولم يكن قد بلغ الرابعة عشرة من عمره حينها، بعد إطلاق النار عليه وإصابته بجروح بالغة، ثم تعرّض لتعذيب قاسٍ، وقد سُرّب من داخل "مراكز التحقيق"، مقطع الفيديو "مش متذكّر"، والذي يظهر فيه الطفل "مناصرة" يجيب عن أسئلة ضابط التحقيق ويصرخ: "مش متذكّر". كان مشهداً صادماً ومؤلماً للغاية، وواحداً من أبرز مشاهد "انتفاضة القدس" التي أرشفَتها الذاكرة الفلسطينية. ومن دون النظر إلى ما تعرّض له "مناصرة" من ضغط وتعذيب، أصدرت محكمة الاحتلال المركزية في القدس في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 بحقه حكماً بالسجن الفعلي لمدة 12 عاماً، وبعد أقل من عام، خُفّض الحكم، ليصبح 9 أعوام ونصف العام، بالإضافة إلى فرض غرامة مالية قدرها 180 ألف شيكل، وما يعادل قرابة 53000 دولاراً.

كبر "أحمد مناصرة" وودّع طفولته مُكبّلاً، ولا يزال أسيراً، وقد أصبح اليوم شاباً تجاوز العشرين عاماً من العمر، ويمر في حالة صحية صعبة، جسدياً ونفسياً، جرّاء ما تعرّض له من تعذيب وضغط وترهيب نفسي وإهمال طبي ومعاملة قاسية وظروف العزل الانفرادي، ومع ذلك، ترفض سلطات الاحتلال الإفراج المبكر عنه جرّاء تدهور حالته الصحية، على الرغم من قضاء سبعة أعوام في السجن وما يفوق ثلثي المدة، وما زالت تحتجزه بمفرده في زنزانة ضيقة ومعتمة بمعزل عن الآخرين، وهو ما يسبب له الكثير من الألم والوجع المضاعف.

هذا بالإضافة إلى آخرين كُثر من الأسرى ممن تجاوزوا طفولتهم وكبروا خلف القضبان، بينهم من أمضى من سنوات عمره داخل الأسر ما يفوق بكثير ما أمضاه في رحاب الحرية قبل اعتقاله، ولا يزال أسيراً. 

معطيات إحصائية:

يُقدَّر عدد مَن اعتقلتهم دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ سنة 1967 بما يزيد عن خمسين ألف  طفل فلسطيني، ذكوراً وإناثاً، منهم قرابة العشرين ألف منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في 28أيلول/سبتمبر 2000،[2] ومن بين هؤلاء ما يزيد عن تسعة آلاف طفل تم اعتقالهم منذ اندلاع "انتفاضة القدس" في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2015، جُلّهم من القدس المحتلة، بينما اعتقلت سلطات الاحتلال منذ مطلع سنة 2022 وحتى الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري نحو 739 طفلاً، منهم 119 طفلاً خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، أغلبيتهم من القدس. ولا يزال يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي نحو 160 طفلاً موزّعين على سجون عوفر ومجدو والدامون، بينهم أربعة أطفال رهن الاعتقال الإداري.[3]

كيفية اعتقال الأطفال؟

أن أغلبية مَن مرّوا بتجربة الاعتقال من الأطفال جرى اعتقالهم من بيوتهم في ساعات الليل -كما هو الشأن في اعتقالات البالغين - إذ يدخل عدد كبير من الجنود المدججين بالسلاح إلى البيت، ويعيثون خراباً في محتويات البيت وأثاثه، وأحياناً، يقومون بالاعتداء على المعتقل وأسرته بالضرب والشتم، ثم بعد كل هذه الانتهاكات المدروسة المتعمدة، يقوم الجنود بتكبيل يدي الطفل وعصب عينيه، قبل أن يجروه بقسوة إلى مكان مجهول، كل ذلك من دون أن يكلفوا أنفسهم إبراز أي أمر قضائي بالاعتقال، ومن دون أن يُعلِموا ذوي الطفل بالمكان الذي سيُقتاد إليه طفلهم. وأحياناً يتم اعتقال بعضهم وهم يلعبون في الشوارع، أو في طريقهم إلى المدارس، أو في طريق عودتهم إلى بيوتهم، ويزَج بهم في السجون والمعتقلات، ويتم احتجازهم في ظروف سيئة للغاية، وضمن شروط حياتية قاسية، ويُعامَلوا معاملة لا إنسانية، وأحياناً بقسوة وعنف، ويُحرمون أبسط حقوقهم الأساسية، كالحق في التعليم والعلاج والغذاء المناسب وزيارات الأهل من دون عراقيل، والمحاكمة العادلة وغيرها.

وقد روى الكثيرون من الأطفال شهادات مؤلمة لمحامي هيئة شؤون الأسرى، وأكدوا، في تقارير منشورة، تعرُّضهم لأنواع مختلفة من المعاملة القاسية والمهينة لحظة اعتقالهم، وفي أثناء اقتيادهم إلى أماكن الاحتجاز ومراكز التوقيف الإسرائيلية، وخلال التحقيق معهم، ولا شك في أن كل القاصرين الذين مرّوا بتجربة الاعتقال أو الاحتجاز، وبنسبة مئة في المئة، قد تعرضوا لأحد أشكال التعذيب، على الأقل، بينما تعرّض البعض الآخر - بنِسب أقل - إلى أكثر من شكل من التعذيب، الجسدي أو النفسي والإيذاء المعنوي، أو المعاملة القاسية والمهينة، وأن بعضهم تعرّض للتفتيش العاري والتحرش الجنسي والتهديد بالاعتداء الجنسي، وآخرون تعرضوا للضغط والمساومة، وأحياناً للابتزاز، لإجبارهم على الاعتراف بتهم يُحاكم عليها القانون الإسرائيلي.

وفي الأعوام الأخيرة تحول بعض المستوطنات في الضفة الغربية والقدس إلى مراكز للاحتجاز والتعذيب، حيث كثيراً ما يتم اقتياد الأطفال القُصر إليها، قبل نقلهم إلى مراكز التحقيق والسجون الرسمية، بهدف الاستفراد بهم، خارج الإطار الرسمي لدولة الاحتلال، وإبعادهم عمّا يُفترض أنه "رقابة رسمية"، بغرض التحقيق معهم بقسوة وتعذيبهم بشكل همجي ووحشي، وانتزاع الاعترافات منهم، أو إلصاق التهم بهم. ويمكن القول إن مثل هذه الإجراءات قد نجح فعلاً في إجبار بعض هؤلاء الأطفال على تقديم اعترافات بأنشطة لم يقترفوها أصلاً. أو توقيع إفادة تكون غالباً باللغة العبرية ولا يجيد هؤلاء الأطفال فهمها.

محاكم إسرائيلية قوامها الظلم وقهر الأطفال 

أما المحاكم العسكرية الإسرائيلية، فلا تأبه لكل هذه الحيثيات والإفادات من محامي الأطفال المعتقلين، بل تعتبرها اعترافات قانونية يجوز الاستناد إليها في إصدار الأحكام القاسية بحقهم، حتى وإن قدمها الأطفال تحت وطأة التعذيب والتهديد. فتُصدر أحكامها القاسية التي تكون مقرونة في أغلب الأحيان بغرامات مالية. بل نكاد نجزم هنا بأن جميع الأحكام التي صدرت بحق الأطفال تكون مقرونة بفرض غرامات مالية، وهو ما يشكل عبئاً اقتصادياً على الأهل الذين يضطرون إلى دفعها، حرصاً على أبنائهم القُصر، وتجنباً لاستمرار بقائهم في السجن.

هذا بالإضافة إلى التوسع في اللجوء إلى سياسة الإبعاد عن المدينة المقدسة "كعقوبة بديلة"، وفرض قرارات "الحبس المنزلي" التي باتت تشكل ظاهرة آخذة بالاتساع، وبصورة خاصة بحق أطفال القدس، الأمر الذي حوّل مئات البيوت الفلسطينية هناك إلى سجون، وجعل من المقدسيين سجّانين لأبنائهم القُصر، تنفيذاً لشروط الإفراج التي فرضتها عليهم المحاكم الإسرائيلية، الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية لدى الأطفال وذويهم.

ظروف احتجاز الأطفال داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية

قد يظن البعض أن معاناة الأطفال تنتهي بانتهاء التحقيق معهم، أو بعد صدور الأحكام ضدهم وانتهاء فترة التوقيف، بينما الحقيقة أن معاناة هؤلاء الأطفال لم تتوقف، فهم يعانون سوء ظروف الاحتجاز وتردّي الرعاية الصحية واستمرار الإهمال الطبي وقسوة معاملة السجّان ونقص الملابس، وكذلك الطعام ورداءته، والاكتظاظ في غرف صغيرة لا تتوفر فيها تهوئة وإنارة مناسبتين، وعدم توفّر وسائل اللعب والترفيه والتسلية، والحرمان من مواصلة تعليمهم الأساسي. بالإضافة إلى وضع العراقيل أمام زيارات الأهالي والمحامين، وعدم توفّر مرشدين وأخصائيين نفسيين، والإساءة اللفظية والضرب والعزل الانفرادي، وأحياناً التحرش الجنسي، والاقتحامات والاعتداءات وغيرها. كما لم تتغير الحال في أثناء تفشّي فايروس "كورونا" في المنطقة. فالجائحة لم تشفع للأطفال الفلسطينيين، ولم تدفع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى التوقف عن ملاحقتهم واعتقالهم، أو تغيير قواعد معاملتها لهم، أو تحسين ظروف احتجازهم.

إن تأثيرات الاعتقال لا تتوقف فيمن تعرّض للاحتجاز والسجن من الأطفال بشكل مباشر، فالأبناء الذين فقدوا آبائهم وأمهاتهم وحُرموا عطفهم وحنانهم جرّاء الاعتقال، وتربوا وكبروا مع آبائهم في السجن، هم ضحايا الاعتقال أيضاً.

إن الصدمات النفسية في الصغر لا تُمحى، و"صدمة" الاعتقال والسجن والتعذيب، تترك تأثيرات فظيعة في الصحة النفسية للأطفال وتكوين شخصياتهم وسِماتهم النفسية وخصائصهم بدرجة أعلى من البالغين، سواء أكانوا أولئك الذين مرّوا بتجربة الاعتقال والسجن بشكل مباشر، أم أولئك الأطفال الذين عُذّبوا وعانوا جرّاء تداعيات اعتقال أحد الوالدين، أو كليهما. بينما الحالة الفلسطينية تشير إلى أن أغلبية الأطفال الذين تعرضوا للاعتقال والسجن بشكل مباشر أو غير مباشر، بقيت صور المعاناة المتنوعة عالقة في أذهانهم، وبمرور السنين، تعزز لديهم الانتماء إلى الوطن، وفي المقابل، نما لديهم شعور متزايد بالكراهية والحقد تجاه الاحتلال، وهو ما يدفعهم دوماً نحو الانتقام، وليس العكس.

وهذه تجربتي الشخصية:

لقد اعتُقل والدي – رحمة الله عليه - في الثالث من آذار/مارس 1970، ولم أكن قد بلغت الثالثة من عمري، فعانيت جرّاء الاعتقال منذ صغري، وعرفت السجون، وحفظت مفرداتها، قبل أن أعرف رياض الأطفال وأتعلم أبجديات اللغة، ومنذ ذاك اليوم والصورة بكل ملامحها وتفاصيلها عالقة في ذهني وماثلة أمام ناظريّ، تُلازمني وترفض الرحيل، أو حتى لمجرد المغادرة الموقتة. تلك الصورة وما تبعها من صور على مدار خمسة عشر عاماً وما يزيد أمضيناها زواراً لوالدي الأسير قبل أن يتحرر في إطار صفقة تبادُل الأسرى في سنة 1985، كانت سبباً رئيسياً في الالتحاق المبكر بالمقاومة، قبل أن أكبر وأتحول بدوري إلى أسير أربع مرات، ولسنوات عديدة.

لم يحدث لي ذلك فقط، بل حدث مثل ذلك لأخي الأصغر والوحيد جمال -الذي أبصر النور بعد اعتقال والدي ببضعة أشهر - حين اعتُقل وهو في سن الطفولة وكان طالباً في الصف العاشر، خمسة أعوام متواصلة، قبل أن يتحرر ويُعاد اعتقاله للمرة الثانية ويمضى عامين إضافيين. وهو ما جعل كلاً منا بعد التحرر أكثر التصاقاً بقضية الأسرى والمعتقلين، وأكثر نشاطاً وعملاً من أجل حقوقهم، وفي مقدمتها حقهم في الحرية، وكلانا اليوم ضمن المختصين في مجال الدفاع عن القضية، وهذا شرف لنا.

ختاماً، لقد باتت الصورة مؤلمة، جرّاء الاستهداف الإسرائيلي المتصاعد للأطفال الفلسطينيين وارتفاع أعداد المعتقلين منهم وتأثيرات ما يتعرضون له في واقعهم ومستقبلهم، وما لحِق بأوضاع الكثيرين منهم من أذى وضرر جسدي ونفسي، وهو ما يستوجب تدارُك خطورة ما تقترفه دولة الاحتلال بحق الأطفال الفلسطينيين، والتحرك الجدي نحو توحيد الجهود وتكثيف العمل والاستمرار في المطالبة والضغط بكل الوسائل الممكنة والمشروعة، ليس لتحسين ظروف احتجاز الأطفال فقط، أو الإفراج عن المعتقلين فحسب، وإنما العمل على احتضان وإعادة تأهيل كل مَن مروّا بتجربة الاعتقال وتأثروا جرّاء سجنهم وعانوا بفعل اعتقال أحد الوالدين أو كليهما،  وكذلك توفير الحماية الدولية للأطفال الفلسطينيين وضمان وقف ملاحقتهم وتوفير حياة كريمة لهم للعيش بكرامة وحرية كسائر أطفال العالم. 

إن الوقائع تؤكد أن دولة الاحتلال الإسرائيلي بكل مكوناتها تشارك في استهداف الأطفال الفلسطينيين، وتنفيذاً لسياسة إسرائيلية ثابتة وممنهجة تهدف إلى تشويه واقع الأطفال وتدمير مستقبلهم والتأثير في توجهاتهم المستقبلية بطريقة سلبية، لخلق جيل فلسطيني مهزوز ومهزوم غير قادر على المقاومة أو مواجهة المحتل.

ولكن تخطئ دولة الاحتلال الإسرائيلي إذا استمرت في اعتقادها أن تحقيق أمنها وسلامة مواطنيها سوف يتأتى عبر اعتقالها المواطنين العُزّل واستهدافها الأطفال الأبرياء. وتخطئ الظن إذا اعتقدت أيضاً أن السنين بإمكانها أن تمحو الصورة المؤلمة التي حُفرت في أذهان أولئك الأطفال. وللدلالة على ذلك، فبعد مرور عشرات الأعوام على احتلالها الأراضي الفلسطينية واعتقال مئات الآلاف من الفلسطينيين، بمن فيهم عشرات الآلاف من الأطفال، لم تنجح في استئصال روح المقاومة لدى شعب يسعى لانتزاع حريته، ولن تنجح كذلك في القضاء على كره الأطفال لها. كما أن ليس باستطاعتها أن تحافظ على استقرارها، وأن تحمي أمنها وأمن مواطنيها من خطر ما بعد بلوغهم. فالحقيقة تفيد بأن الأطفال الفلسطينيين لا ينسون، وأن السنين لا تمحو الصور المؤلمة التي طُبعت في أذهانهم، وأن ما تقترفه دولة الاحتلال بحق أطفال فلسطين لم يحقق لها الأمن والسلام، ولن يحفظ مستقبلها من حقد دفين زرعته بفعل ممارساتها لدى الأطفال الفلسطينيين، ومؤجل الانفجار إلى حين البلوغ. وهذا لا يقود إلى أي نوع من السلام المنشود. فالسلام العادل يبدأ بإنهاء الاحتلال.

 

[1]انظر: هيئة شؤون الأسرى والمحررين، تقرير حصاد عام 2018.

[2]تقرير هيئة الأسرى في ذكرى انتفاضة الأقصى، أيلول/سبتمبر 2022.

[3]انظر: تقرير مؤسسات الأسرى الذي رصد أحداث شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022.

 

لمؤسسة الدراسات الفلسطينية (رابط)

عن المؤلف

عبد الناصر فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى والمحررين، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة، وله موقع شخصي مختص بالحركة الأسيرة اسمه: فلسطين خلف القضبان.