يعد تحرر كريم يونس من سجون الاحتلال الإسرائيلي أكبر تجسيد لمقولة: "باب السجن بسكرش ع حدا"، التي دأب الناس على ترديدها منذ أول سجن زج فيه الاحتلال خيرة أبناء وبنات شعبنا الفلسطيني.
المقولة غدت أملاً شعبياً، خاصة بين أمهات الأسرى، وتستخدم بكثرة في مواساة أمهات ذوي الأحكام العالية.
فعائلة كريم يونس، كانت تعرف أن هذه اللحظة ستأتي، وأن باب السجن الذي فُتح في السادس من كانون الأول 1983، ثم أغلق لمدة 40 عاما، سيُفتح مجددا، وها هو اليوم، الخامس من كانون الأول 2023، فُتح.
في أدبيات الأسرى والسجون، وفي رسائلهم الشخصية والعامة، أولى الأسرى قضية الأمل اهتماما عاليا، فلولاه ما صمدوا واحتملوا أن يقضوا زهرة شبابهم خلف القضبان.
(18) عملية تبادل أسرى بين الاحتلال الإسرائيلي ودول عربية وفصائل فلسطينية، من ضمنها عملية سورية، وعملية أردنية، وأخرى مصرية، وعشر عمليات تبادل لبنانية، جميعها مرت أمام عين كريم يونس، وفي كل واحدة منها كان ثمة ضوء يُنذر أن القيد سُيكسر، لكن باب سجنه ظل عصيا على الفتح، قبل أن يدور بنفسه للخارج، ليتمختر البطل وحيدا، عاليا، فخورا وحرا.
18 عملية تبادل أسرى تحرر خلالها (8,265) أسير فلسطيني وعربي، امتدت منذ تشرين الثاني 1983 وحتى تشرين الأول 2011، جميعها مرت عن كريم يونس، الذي بدوره كان يرقب كانون الثاني 2023، ليكون موعد بزوغ شمس تحرره.
لم تكن سنوات السجن الطويلة بشقاء وحزن وفاجعة رحيل والدته، صبحية يونس، في أيار 2022، صاحبة أطول انتظار لعناق عرفته فلسطين.
مضت صبحية (88 عاما)، بعد صبرها وتحملها 39 عاما ونصف العام بانتظار تحرر نجلها كريم يونس (63 عاما) من سجون الاحتلال الإسرائيلي، قبل أشهر قليلة من انتهاء محكوميته البالغة 40 عاما.
ولعلها تكون أطول مدة انتظار عرفها العالم، لأم على مشارف التسعينات، تنتظر منذ السادس من كانون الثاني 1983 عودة ابنها البكر، تُربي وتسقي كل صباح الأمل والقوة والصوت والإحساس والأنفاس والزعتر والحكايات والسنوات الطويلة، للحظة الأولى التي سيرتمي فيها "كريم" في حضنها.
رحلت صاحبة "يا مندرا"، وهو لفظ عامي يعني التمني والأمل بحدوث انفراج وفرح والحصول على واحد من الطموحات التي يتمناها ويطلبها الإنسان، وعادة ما تقال بنبرة حسرة وكسر، رحلت وهي تردد: "يا مندرا يا كريم أشوفك فايت ع البيت".
بدأت حكاية كريم يونس صباح الـ6 من كانون الثاني/يناير 1983، عندما اقتحمت وحدة خاصة تابعة للاحتلال أحد مختبرات الهندسة في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع، وقف أفرادها على الباب ليتأكدوا من وجوده في الداخل.
في المختبر الذي كان فيه الطالبان كريم يونس ورياض محاميد يقومان بتجربة إحدى الاختراعات، سألاهما: من منكم كريم؟ ليترك كريم ما بيده من عدة، ويتقدم نحو القوة الخاصة، تاركا خلفه على طاولة الدراسة قلمي رصاص وحبر وحقيبته الجامعية، ومنذ ذلك اليوم لم يعد كريم إلى بيته في عارة.
أحب كريم يونس في طفولته البرية، الساحل والجبل والوادي والتل، السباحة والرياضة بأنواعها، والمشي.
كان مثقفا، كاتبا، وصاحب خط عربي أنيق، ورساماً، يرعى الأغنام ويبني مع والده الحظيرة، وناشطا اجتماعيا، ومبادرا لتوفير الخدمات والبنى التحتية في البلدة، كتعبيد الشوارع، وإنشاء ملعب لكرة الطائرة.
توفي من أقاربه وهو داخل السجن: أربعة أخوال، وخالاته الاثنتان، وعماته الاثنتان، وجدّاه وجدتاه، فيما ولد لأشقائه الثلاثة وشقيقاته الاثنتين أكثر من 20 نفرا، لم يرهم كريم إلا عبر الصور.
شقيقه نديم يونس قال لـوكالة "وفا": كان كريم يحب الدراجات الهوائية، ويذهب بها حتى شاطئ "قيسارية" على بعد 20 كيلومترا من عارة، يحب تربية الحيوانات، خاصة الكلاب، سباحا ماهرا، ولاعب كرة قدم.
وأضاف: درس كريم الثانوية العامة في مدرسة السيلزيان في الناصرة، ثم توجه إلى جامعة "بن غوريون" في بئر السبع ليدرس الهندسة، تخصص في هندسة الماكنات، وحين اعتقل كان في سنته الدراسية الثانية.
كان كريم يغضب حين يرى دمع والدته أثناء الزيارة، قائلا: إذا كنتِ جئتِ لتبكي، لا تأتي. أنا لم أفعل شيئاً لتصابي بكل هذا الحزن.
وفي إحدى المقابلات التلفزيونية، قالت والدته: "أنتظر أن أعيش بعد تحرره ولو ثوانٍ. لا يذهب من مخيلتي أبدا، دائما أراه أمامي. هي قليلة علي، بعد الأيام... يوم ورا يوم".
وحول والده، قال نديم: عمل والدي مزارعا، بعد أن فصله الاحتلال من سلك التعليم في خمسينيات القرن الماضي، حيث أمضى ما يقارب الـ10 سنوات، وكان معلما معروفا بخطه الوطني المتمثل في مقاطعة المنتج الاحتلالي، ودعواته للتصدي لتفريغ النقب من أهله الأصليين، وندواته حول المشاريع الاستيطانية.
وبين: بعد فصله، أمضى حياته في الأرض، وكان معلما لكريم في الوطنية والانتماء، وكان يحلم أن يدرسه في جامعات الوطن كـ"بيرزيت أو النجاح"، وكانت طولكرم وجنين أسواقه التي يتزود منها بكل مونة بيتنا وحاجياتنا، حتى الصحف كان يشتري الأعداد التي فاتته منها.
ويضيف: حين اعتقل كريم، قامت والدتي بإعطاء شقيقها مكتبة كريم، خوفا من المداهمة وأن يكون هناك كتب ومنشورات ممنوعة.
وجدت لديه مكتبة شخصية تحوي جميع أصناف الكتب، وكانت آخر قراءاته كتاب "فلسطيني بلا هوية" لصلاح خلف "أبو اياد".
ومن تركته، بطاقته الشخصية "الهوية" باللون الأزرق، التي كانت تشبه الدفتر.
وتابع: في العام 2014، بعد 31 عاما، تعرف إلينا زميله رياض محاميد، لأول مرة بعد الاعتقال عام 1983، وأعاد لنا دفتره وحقيبته وأقلامه، وأصبح صديقا مقربا للعائلة.
واحدة من أقسى المشاهد واللحظات التي مر بها كريم، هي وفاة والده في الذكرى الـ30 لاعتقاله، ففي تاريخ 6/1/2013 دخل إليه مروان البرغوثي وخالد الأزرق ليعزياه، دون أن يكون قد علم بعد برحيل والده، فتحدثا إليها بعبارات من سبيل: شدة وبتزول، الله يهونها عليك، ليرد عليهم كريم: هذا وضعنا للأسف وحالنا، أتمنى ألا تصلوا للرقم الذي وصلت إليه (30 عاما) خلف القضبان.. لكنهما صححا: لا، نحن لم نأتِ لنواسيك بهذه السنوات الطويلة من السجن إنما بوفاة والدك، هنا انهار كريم وسقط على الأرض مغشيا عليه، ليستفيق في عيادة السجن، مصدوما وحزينا.
يُشار إلى أن الأسير كريم يونس هو عميد الأسرى الفلسطينيين، وعضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، ولد في الـ23 من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1958، في بلدة عارة في أراضي العام 1948، وهو الابن الأكبر لعائلته.
يُشار إلى أن رفيق دربه، الأسير ماهر يونس، والذي أمضى معه حتى اليوم 40 عاما في السجون، يستعد بعد عدة أيام لنيل حريته.
ولد ماهر يونس في الـ6 من كانون الثاني/ يناير 1958، وهو من قرية عارة في أراضي العام 1948، ومن عائلة مكونة من خمس أخوات، وأخ، واعتقلته قوات الاحتلال في الـ18 كانون الثاني/ يناير 1983، وحكمت عليه بالسجن المؤبد، حيث جرى تحديده لاحقا بـ40 عاما، وخلال سنوات اعتقاله توفي والده وذلك عام 2008.