- عصام مخول
الائتلاف الذي يشق طريقه لتشكيل حكومة الانتقال الفاشي في إسرائيل، بعد انتخابات الأول من نوفمبر، يتشكّل من أربع كتل برلمانية تمثّل ثلاثة تيارات أساسية في الخارطة السياسية والأيديولوجية المهيمنة في المجتمع الإسرائيلي اليوم، وذلك على خلاف ما شهدته المنظومة السياسية الإسرائيلية منذ سنوات طويلة من تنوّع أوسع لكتل الائتلاف الحاكم وتعدد مشاربه الفكرية والسياسية والاجتماعية (ائتلاف حكومة بينيت – لبيد المنتهية ولايتها تشكلَ من ثماني كتل).
وإذا اخذنا في الحساب أن الليكود هو طليعة اليمين الحاكم وعموده الفقري الذي أوصله الى الحكم في غالبية المعارك الانتخابية في العقود الأربعة السابقة، وهو الذي طبع السياسة الإسرائيلية بطابعه وتغلغل في مفاصل الدولة العميقة، وبلور ملامح النظام الحاكم في الفترة الماضية، فإن نتائج الانتخابات التي نحن بصددها تشي بأن شيئاً أعمق من التدهور المعهود قد نشأ عنها. فمقابل الليكود الذي حصل على 32 مقعدا برلمانيا، رأينا أن كتل الأحزاب الدينية المتشددة التي يشكل طابعها وخطابها الديني المتشدد مميزها الأساسي، والأحزاب اليمينية الشوفينية المتشنجة عنصريا قد حصلت هي الأخرى على 32 مقعدا، وتنقسم هذه المجموعة كما أشرنا الى مركبين اثنين، بحيث تمثّل الاحزاب التقليدية المتشددة من الحريديم بمركبيها "شاس" و"يهدوت هتوراة" 18 مقعدا (منها أحد عشر مقعدا لحركة شاس، وسبعة مقاعد لكتلة يهدوت هتوراة). بينما تتمثل "الصهيونية الدينية" التي تشكل رأس حربة فاشية ونواة الحزب الفاشي السافر على النسق الإسرائيلي بقيادة بن غفير وسموطريتش بأربعة عشر مقعدا.
وإذا أخذنا بالاعتبار التحولات الطارئة على حزب الليكود وما يلازمه من التحلل من طابعه "الليبرالي" اليميني التقليدي، وما بات يغلب عليه من خليط شعبوي متشنّج وعناصر دينية وعلمانية تتبنى خطابا فاشيا وعنصريا، ويمين نيوليبرالي يغلب عليه الفساد، وقد ضاق ذرعاً بملامح الديمقراطية الليبرالية والإدارة السليمة وأولوية حكم القانون، فإن بروز ائتلاف في سدة الحكم يتشكل نصفه الأول من ممثلي الليكود المأزوم، ويتشكل نصفه الآخر من 32 مقعدا يشكلون كتلة دينية، تتراوح في داخلها بين المركب المنغلق دينيا والمنطوي داخل أحيائه ومدارسه ومؤسساته وتقاليده الدينية كـ"الحريديم" من جهة، وبين المركب اليميني الشوفيني والاستيطاني الأكثر عدوانية وفاشية ودموية تجاه الشعب الفلسطيني متمثلا بكتلة الصهيونية الدينية برئاسة سموطريتش وبن غفير، فإن هذا التطور يشي بأن تدهوراً نوعيا قد طرأ على النظام الحاكم في إسرائيل وعلى الجمهور الإسرائيلي والرأي العام، وهو يفرض مهام وتحديات جديدة أمام القوى التقدمية العربية واليهودية في إسرائيل وأمام القوى غير الفاشية والمناهضة لها عامة.
ومن المفارقات الملازمة تقليديا للانتقال الفاشي، أن القاعدة الشعبية التي تستند اليها القوى الفاشية المتربعة في سدة الحكم بهذا الشكل السافر في إسرائيل اليوم، تتشكّل من غلاة المستوطنين من جهة، ومن الفئات الشعبية المهمشة في البلدات المحيطية الميدانية وفي أحياء الفقر في المدن وخاصة في المدن التاريخية المشتركة من الجهة الأخرى، وعلى الرغم من أن هذه الطبقات هي المرشحة لتكون ضحية الفاشية، والأكثر معاناة من السياسات الفاشية اليمينية والنيوليبرالية المتطرفة في خدمة الرأسمالية المتوحشة اجتماعيا- لكنها توفر للفاشية في الوقت ذاته قاعدتها الشعبية الغوغائية ورعاعها الذي تستند اليه في تحريضها وانفلاتها قوميا وشوفينيا.
وفي الحالة الإسرائيلية، يلتقي المكون العنصري القومجي الشوفيني الذي يستهدف الشعب الفلسطيني بما في ذلك الفلسطينيين داخل إسرائيل مع المكوّن المتلفع بالدين والقوى الدينية الموغلة في الأصولية الرجعية والتشدد والانغلاق الديني، والعيش في ظلال الرواية التوراتية لتبرير الاحتلال والقمع والاستيطان وإلغاء الحقوق القومية للشعب الفلسطيني. وتترافق مراكمة الهيمنة الفاشية اعتمادا على ترسيخ "تديين" الجيش و"تديين" أدوات الاحتلال والاستيطان من جهة، وعسكرة الدين وإعداد القاعدة المادية والفكرية لإنتاج الوعي الفاشي الزائف والأصولية الغيبية بشكل منهجي مبيّت.
تحالف غلاة المستوطنين وغلاة الأصولية الدينية
إن مأسسة الممارسات الفاشية ميدانيا وإعداد أدواتها على الأرض سبقت الانتقال الفاشي للحكم في إسرائيل وخلقت مقدماته الضرورية، ونستطيع بوضوح رؤية أن البنى التحتية الأيديولوجية والمادية للفاشية كانت تبنى وتراكم أدواتها بشكل حثيث وسلس في ظل هيمنة مشروع الاستيطان والتهويد وقمع الشعب الفلسطيني وقهره، وتحوير مفهوم السياسة والصراع السياسي وتفريغه من مضامينه الحقيقية بحيث لا يبقى من مضمونه غير خيارين هزيلين: "معسكر فقط من دون بيبي"، و"معسكر فقط بيبي" دون التنافس على الخيار بين مشاريع سياسية وفكرية بديلة. وتحت مظلة التضليل وتضييع الطاسة والافلاس السياسي لكلا المعسكرين كان يجري التأسيس بالمقابل لتداخل التوحش العسكري والامعان في امتهان حقوق الفلسطينيين مع مأسسة الفكر الاستيطاني الدموي القائم على التبرير الديني والمستند الى الرواية التلمودية.
وطفت على السطح في العقدين الأخيرين ظواهر احتلالية تحمل طابع التغول الديني في تفاعل مع التغول العسكري تجاه الشعب الفلسطيني ومع مجرد حقه في بقائه في وطنه، وهذه الظواهر تعكس التكامل بين "تديين الجيش" وتعبئته بالروايات الدينية التوراتية المنتقاة والأكثر عنفا، وبين عسكرة الدين وإقامة ميليشيات متدينة ووحدات عسكرية للجنود المتدينين تخلط التعليم الديني بالانفلات العسكري والقمعي، محمولا على أجنحة الفكر الإرهابي الفاشي الذي تنتجه المؤسسة الدينية الاستيطانية في المناطق المحتلة. ولا يتورّع هذا التحالف بين الفاشية والاصولية الدينية عن استحضار روايات القضاء المبرم على أهل البلاد الاًصليين على نسق دخول يهوشواع بن نون الدموي الى أريحا وفق الرواية التوراتية، وإذا كان القضاء على أهل البلاد الأصليين غير ممكن ماديا اليوم، فإن التحالف الفاشي المعاصر سيكتفي "بالقضاء المبرم" على الحضور القومي والسياسي لأهل البلاد الأصليين كما عكسه قانون القومية ومخططات الضم ووضع إدارة شؤون المناطق الفلسطينية تحت سلطة المستوطن الفاشي سموطريتش، وتحطيم الحقوق القومية للشعب الفلسطيني بما فيه حقوق الأقلية القومية الفلسطينية المواطنة في إسرائيل، وبذلك يغذي هذان التياران أحدهما الآخر وتندمج المؤسسة الدينية الاستيطانية بالممارسة القمعية الاحتلالية وتجعل طريقها قصيرا الى الانتقال الفاشي في إسرائيل.
إن أبرز مظاهر هذا التطور ظهور وحدة عسكرية مثل "وحدة خلود يهودا" (נצח יהודה) المشكّلة من الجنود المتدينين المتعصبين، حيث أخذ التدين في الجيش يحتل وزنا مهمًا في الوحدات المنخرطة في قمع الفلسطينيين، وتجسّد ذلك بالمكانة التي أخذت تحتلها المدارس التلمودية في تعزيز منظومة الاحتلال وحماية جرائم المستوطنين واندماجها فيها بصورة واضحة.
ويشير الكاتب اليهودي الفرنسي سيلفان سيبل والذي شغل منصب رئيس تحرير صحيفة لوموند الفرنسية الشهيرة بعد أن كان مراسلا للصحيفة في اسرائيل، في كتاب صدر له في باريس في العام 2020 تحت عنوان: "دولة إسرائيل ضد اليهود"، الى أن محامين من جمعية حقوق المواطن قد توجهوا الى المحكمة العليا في إسرائيل في أكتوبر 2018، "بطلب الحد من عمل الاكاديمية العسكرية "بني ديفيد" المقامة في مستوطنة عالي في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967".
وتجدر الإشارة الى أنه إذا كانت النخب العسكرية في الجيش الإسرائيلي قد أتت تاريخيا من حركة الكيبوتسات باعتبارها "طلائع" المشروع الصهيوني العلماني (חלוצים)، وشكّلت "فخر" اليسار الصهيوني المؤسس وما ارتكبه من حروب عدوانية ومجازر منذ طور التأسيس، فإن اكاديمية "بني ديفيد" (أبناء داوود) التي تأسست عام 1988، قد عكفت على مشروع تديين الجيش وعسكرة الدين، وجعلت هدفها المركزي السافر، وفخر إنجازاتها تكوين نخب المستقبل في الجيش الإسرائيلي على شاكلتها ومثالها وعلى شاكلة عصابات المستوطنين المنفلتة والمحمية من قبل جيش الاحتلال، وحسم مسألة أسبقية أرض إسرائيل الكبرى على الادعاء الديمقراطي في معادلة "دولة يهودية وديمقراطية"، وما يتطلبه ذلك من مأسسة عقلية الإمعان الدموي في قهر الشعب الفلسطيني. واتسمت مناهج التربية والتعليم في أكاديمية "بني دافيد"، كما يذكر سيبل "بالتديّن وروح التعصّب والتطرف وقد اعتلى العديد من خريجيها مناصب عالية في الجيش وفي السياسة".
ويقول الكاتب إن طلبة "أكاديمية عالي" يؤمنون بأن المسيح سيأتي من نسل داوود، ويقتبس سيبل من الموقع الإلكتروني للأكاديمية العسكرية الاستيطانية عبارات منسوبة الى حاخامات فاعلين في الاكاديمية تعكس الروح السائدة فيها تقول : "إن الجيش -اليهودي- هو الأداة التي تتجسّد بواسطتها قوة الله". وعبارة أخرى للرابي يوسف كالنر يقول فيها: "إن جميع اليهود العلمانيين خونة، ويحق للدولة أن تتخذ أي إجراء ضدهم، بما في ذلك طلقة في الرأس".
وشكّلت تصريحات الملياردير اليهودي الأمريكي شيلدون إديلسون الذي أغدق الملايين على حملات نتنياهو الانتخابية، إضافة الى ما أغدقه من مئات ملايين الدولارات على اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وفي دعم حملة ترامب الانتخابية مؤشّراً، وربما موجّها، يعطي المبرر الأخلاقي الحاسم للتخلي عن الادعاء الديمقراطي، وإخضاع المسألة الديمقراطية نهائيا لمتطلبات الاحتلال بما لا يعيب أي تجربة فاشية في التاريخ. ففي 9 نيسان 2014 رد إدلسون على سؤال حول مخاطر تخلّي إسرائيل عن الديمقراطية في ظل استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية والسكان الفلسطينيين بقوله: "لا أعتقد بأن التوراة تقول شيئا عن الديمقراطية. والله لم يقل ولو كلمة واحدة حول الحفاظ على إسرائيل كدولة ديمقراطية.. تقول لي بأن إسرائيل لن تكون ديمقراطية... وماذا في ذلك؟".
إن استعمال الدين والرواية التوراتية من قبل اليمين الجديد في إسرائيل لهزم الادعاء الديمقراطي باعتبار ذلك أداة فاعلة لفك التناقض الداخلي في معادلة " دولة يهودية وديمقراطية"، شكّل مركبا محوريا في تبرير الانتقال الفاشي في إسرائيل وتعويد الاذهان على التعامل الطبيعي مع الانتقال الفاشي الى الحكم باعتباره نتاجا ديمقراطيا مشروعا ومن غير الديمقراطي التشكيك في شرعيته، في أبشع أشكال التلوّن والابتزاز الفكري والسياسي المضِّلل.
"جيش الرب" هل يبتلع "جيش الشعب"
في حمأة تعميق الاحتلال؟
كانت صحيفة هآرتس أكثر شجاعة ووضوحا في طرح تمدد عقلية المستوطنين وتفشي خطابهم الديني الغيبي الى داخل مؤسسات الدولة والمنظومة الاحتلالية الحاكمة وفي صلبها مؤسسة الجيش، واعتبرت الصحيفة: "إن هناك ريحا شريرة تهب على الجيش الاسرائيلي الذي بات يعرض نفسه على انه جيش الرب وليس جيش الشعب كما كان يسميه أرباب الصهاينة المؤسسين" وكانت هآرتس تشير الى: "الموعظة الدينية التي ألقاها قائد لواء السامرة في 13 نيسان 2022 أمام الجنود لتشجيعهم وتوجيههم قبل دخولهم قبر يوسف في نابلس لحماية ترميمه.
وقال: "إن في هذا المكان تم وعد البلاد لأبينا إبراهيم، كما جاء: لنسلك أعطي هذه البلاد"، وأضاف: "إنهم – المستوطنين اليهود - يعملون اليوم ويدهم هي العليا.. ليس كسارقين في الليل، بل كأبناء ملوك. وأن هذا الجيل من اليهود سينال الحق في استعادة شرف البلاد وشعب إسرائيل".
وعلّقت صحيفة هآرتس: "إن هذا الخطاب الديني العنصري يأتي على لسان من قدم نفسه وكأنه سيدنا موسى، وليس كقائد لواء في الجيش الإسرائيلي. ولكنه دليل إضافي على تحوّل رهيب في جيش الاحتلال، الذي بات يتخذ من الحاخامات الدينية مرجعية له ولا يحترم الأوامر العسكرية، خاصة وأن القول الوارد على لسان قائد "لواء السامرة"، شكّل خرقاً لأمر عسكري أصدره قائد المنطقة الوسطى اللواء يهودا فوكس الذي لم يكن يريد الدخول الى نابلس بمرافقة إعلامية ولا بمشاركة وفود سياسية خوفا من تعريض حياة جنوده للخطر. ولكن قائد اللواء ببساطة قرر الاستخفاف بالجميع"، وأشارت هآرتس الى أن قائد اللواء "تلقى تعليماته من نائبين من المعارضة، عضو الكنيست أوريت ستروك من الصهيونية الدينية ويوآف كيش من الليكود، ومن رئيس مجلس السامرة وهو من نصحه بإدخال وسائل الاعلام وليس قائده العسكري المباشر.
وكان قائد لواء السامرة نفسه، قد صرّح في أحتفال مدني احتفالا "بتوحيد أورشليم"! أقيم في مستوطنة ألون موريه المقامة على مشارف نابلس: "يخطئ من يقول ان الجيش والمستوطنين يتعاونون، فالمستوطنون والجيش هم الشيء نفسه.. إنهم جسم واحد متماثل". (هآرتس 1.6.,2022).
هذه هي نقطة الارتكاز التي تجمع مفهوم الاحتلال المتواصل ومشروع الاستيطان الاستعماري من جهة بالأصولية الدينية المتشنجة والمدعومة في نهاية المطاف من رأس المال الكبير، والتي قادت بشكل حثيث الى الانتقال الفاشي في اسرائيل في شكله الذي نشهده اليوم، وهذا هو المؤشر الى أن تشكيل حكومة نتنياهو – درعي- بن غفير- سموطريتش الذي يكتمل في هذه الأيام يشكل نقلة نوعية في الحالة الإسرائيلية وفي الهيمنة الفاشية على المجتمع الإسرائيلي.
إن هذه القراءة لطابع الانتقال الفاشي من شأنها أن تخلق فرزا إضافيا مختلفا على الساحة الإسرائيلية وداخل المجتمع اليهودي في إسرائيل ذاته، ليس محصورا على أساس الفرز الإسرائيلي والفلسطيني، ومن شأنه أن يحدد من باب جديد، خارطة القوى الإسرائيلية المتضررة والمهددة مباشرة بهذا الانتقال النوعي في المجتمع الإسرائيلي، وأن يرسم حدود التناقضات الجديدة الناشئة في ظل الانتقال الفاشي والوسائل المتوفرة لسد مسارب هذا الانتقال والتصدي له.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت