الكاتب والصحفي طه خالد منصور ، فلسطيني مقيم في لندن
على ما يبدو أن التاريخ البريطاني يعيد كتابة أحداثه مجددا، فبعد قرون من إرسالها لما يقارب 3.5 مليون شخص اعترضتهم غرب إفريقيا، منهم إلى الأمريكيتين ومناطق أخرى من العالم، تحاول بريطانيا اليوم التخلص من المهاجرين الجدد من خلال نفس البوابة، لكن الوجهة هذه المرة رواندا، تلك الدولة الواقعة في شرق إفريقيا والتي اكتوت لسنوات من الحرب الأهلية ، وفي الحالتين لم يُمنح أولئك المهاجرين خياراً بشأن المكان الذي سيعاد توطينهم فيه، في حين انتقد الكثيرون بريطانيا على قرار إرسال طالبي اللجوء لديها إلى رواندا، حيث وصفته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون على أنه "انتهاك للقانون الدولي"، وقالت إن محاولة "نقل المسؤولية" عن المطالبات بوضعية اللاجئ أمر "غير مقبول"، في حين طالبت 160 منظمة خيرية وجماعة ا بإلغاء الخطة، بينما انتقدت أحزاب المعارضة وبعض الأعضاء في حزب المحافظين الحاكم هذه السياسة، لكن تهب الرياح بما تشتهي بريطانيا فقد صادقت المحكمة البريطانية العليا على القرار قبل شهر من الآن.
أعادت الانتقادات لترحيل بريطانيا للمهاجرين إلى رواندا، مع تصدر وسم MARCHAGAINSTRACISM# المناهض للعنصرية تغريدات تويتر في بريطانيا خلال الأيام القليلة الماضية فتح باب الجدل حول السياسات التي تتعامل بها بريطانيا مع المهاجرين، في ظل مفارقات تحتم علينا النظر في تبعات هذه الخطوة والتنبؤ بمصيرها يتطلب النظر في النماذج السابقة لها، وهنا يعرض علينا التاريخ تجربة أستراليا والتي كانت سباقة في إرسال طالبي اللجوء إلى مراكز احتجاز أنشأت في دولة ناورو في المحيط الهادئ، وجزيرة مانوس في بابوا غينيا الجديدة منذ عام 2001، ادعت حينها أستراليا معالجة طلبات المهاجرين، لكن الحقيقة، أن حلم إعادة التوطين لم يحدث إطلاقاً، وظل المهاجرون محتجزون هناك لسنوات دون تحديد مصيرهم، ناهيك عن الظروف القاسية التي كانوا يعانون منها في مراكز الاعتقال، والسياسة نفسها التي تسمح بالاحتجاز إلى أجل غير مسمى أثناء معالجة طلبات اللجوء والتي تشكل بحد ذاتها مفهوم "اللا إنسانية"، والمفروغ منه أن مراكز الاحتجاز لا تختلف كثيرا في رواندا، حيث سيتم إخضاع الآلاف من اللاجئين والمهاجرين لنظام مراقبة وتتبع صارم، بمسح بصمات أصابعهم عدة مرات في اليوم باستخدام «ماسح ضوئي لبصمات الأصابع» يعمل بتقنية (GPS) نظام تحديد المواقع العالمي، وبموجب الخطة، سيتلقى المهاجرون واللاجئون تنبيهات على مدار اليوم، لإرسال بصمات أصابعهم عبر التطبيق من خلال جهاز يجب عليهم حمله في جميع الأوقات وإلا خسروا الحق في نظر طلباتهم للجوء، وبالتالي إعادتهم رغما عنهم للبلاد التي فروا منها، وإذا اعتبرنا ترحيل اللاجئين خطوة قانونية من وجهة نظر بريطانية فإن تتبعهم بهذه الطريقة لا يمكن أن يكون إنسانيا.
من جهة أخرى تبعات التجربة الأسترالية شكلت هاجسا لدى العديد من السياسيين البريطانيين الذين لم يستطيعوا تحديد فوائد هذه السياسة بدقة، خاصة أن أستراليا اضطرت لدفع مبالغ خيالية لتعويض اللاجئين المتضررين، مما تسبب في خسائر مالية كبيرة. كما أن الغموض بشأن التكاليف يضع الشق الإقتصادي على المحك. فبموجب الخطة التجريبية التي ستكلف بريطانيا 120 مليون جنيه إسترليني بشكل مبدئي، تليها دفعات أخرى لم يتم الإعلان عنها، إلا أنها ووفق محللين اقتصاديين، لن تكون أقل وطأة على الاقتصاد البريطاني من الأزمات المتفاوتة الذي يعاني منها منذ أشهر، في محاولة لإثبات نجاح "بريكست"، وقدرة بريطانيا "المستقلة" أوروبياً على التعامل مع مشكلاتها بفعالية أكثر من دول التكتل الأوروبي، تعد هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر.
ان قضية نقل بريطانيا للمهاجرين إلى رواندا، لم تخلو من التناقضات والعنصرية العرقية بين المهاجرين ففي وقت تمارس فيه بريطانيا سياسة صارمة تجاه 85 ألفا من طالبي اللجوء أغلبهم من الشرق الأوسط وأفريقيا يقيمون بمعسكرات اللاجئين، ومحاولة تهجيرهم لدولة مارست الإبادة الجماعية ضد المهاجرين سابقا، استقبلت هذه الأخيرة خلال الأشهر الماضية، وبأذرع مفتوحة نحو 115 ألف لاجئ من أوكرانيا، الغريب أن حكومة المحافظين خصصت حوالي 350 جنيه استرليني شهريا معفاة من الضرائب، لكل عائلة بريطانية مستعدة لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين، هنا يظهر الوجه الحقيقي للحكومة البريطانية التي تحاول غلق الباب أما المهاجرين القادمين من آسيا وإفريقيا على وجه التحديد، أما ما هو أوروبي فهو مرحب به طبعا، ليتجسد مرة أخرى النموذج الغربي العنصري.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت