- حسن عبادي| بلاطة-حيفا
اسمحوا لي بدايةً أن أعترف أنّه لا دراية لي ببحور الشعر وأوزانه، ولا أدّعي ذلك، ولكنّي أحبّ سماع الشعر وقراءة ما وراءه، وسبر أغواره، فلا أهتم كثيرًا إذا كان الشعر مقفّى أو موزوناً، هل هو من شعر التفعيلة أو من قصيدة النثر، ولكن تهمّني موسيقى حرفه وما ورائيات كلماته، أمقت الديباجة والشعر "المبروَز"، إن صحّ التعبير، ويجذبني إن حمل رسالة مشفّرة لأحاول فكّ طلاسمها.
صدر ديوان "على حافّة الشعر: ثمة عشق وثمة موت" للشاعر الفلسطيني فراس حج محمد في ألمانيا عن دار بدوي للنشر (ألمانيا)، (246 صفحة، لوحة الغلاف: الفنان التشكيلي محمد العتيبي، تصميم الفنان بكري خضر، وشارك في الحلقة 164 من مبادرتي "لكلّ أسير كتاب").
لغة الديوان جميلة انسيابيّة، وجرأة طرحه، كعادته، يُحسد عليها وصارت ماركة فراسيّة مسجّلة.
تنوعت قصائد الديوان بين الشعر المقفى الموزون وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر، وجاء معبرا عن كثير من القضايا المعاصرة، والهمّ الذاتي، ضمن منظومة أكبر هي منظومة العالم بكل ما فيه من أفكار وأشخاص وتشابكات وتعقيدات.
جاءت قصائد الديوان في خمس مجموعات؛ "من غمسة الريشة"، يتحدث فيها الشاعر عن الشعر والإلهام. "مُنَمْنَمات"، تناول فيها قضايا فكرية وجمالية وأسطورية. "إللّات: محاولة في القفز على حواجز اللغة"، يهديها إلى أصدقائه وإلى مجموعة من الكتّاب والشعراء قديما وحديثا وإلى شخصيات عربية وأجنبية، وإلى بعض النساء، فذكر أسماء بعضهنّ، واكتفى أحيانا بالإشارة إلى بعضهنّ بذكر حرف أو حرفين من أسمائهنّ أو بوصف ما يعطيه لإحداهنّ.
(كم كنتُ محظوظًا حين خصّني الشاعر بإحدى نصوصه (ص.65)، برفقة الكاتبة اللبنانية مادونا عسكر، والروائي غسان كنفاني والشاعر محمود درويش وأبي تمام، وغيرهم)، "قصائد إلى صوفي" (مهداة إلى "صوفي" تلك المرأةِ التي لا تملّ الحبّ)، "في مديح النهد"(حلماتُكِ النشوى أجلُّ وأمتعُ من زهرةِ الرمّانِ)، "في حبسة الكوفيد التاسع عشر" تحدث فيها الشاعر حول الهواجس الذاتية والعامة خلال الحجر الصحي في فترة انتشار فايروس كورونا.
سأتناول في مداخلتي ثلاثة محاور:
- "الإهداء": يُعتبر الإهداء لأيّ مؤلّف مهمةٌ صعبة، ومع الزمن أصبح عتَبةً نصّية وعملًا موازيًا لمتن المؤلّف وأصبحت له وظائف ودلالات، وحين أمسك بكتاب أبدأ بتمعّن غلافه، ثم أسرع لقراءة الإهداء، ويجذبني ذاك الإهداء الذي يرتبط بالمضمون ارتباطًا غامضًا، أو يشكّل وظيفة إغرائية تسعى لإغراء القارئ، والإهداء المميّز ذاك الذي يدلّ على نفسيّة صاحبه، وهنا كتب فراس: "الإهداء: إلى من مرّوا على لغتي وأقاموا فيها صلاتهم"؛ يا له من إهداء مميّز يوحي إلى نرجسيّة صاحبه واعتداده بنفسه، وما يميّز الكاتب أنّه يلبس ويتلبّس قبّعة المشرف والمرشد في حياته اليوميّة وعمله المهني والأخذ بيد الكثير من الكاتبات/الشاعرات والكتّاب، مرشدًا وموجّهًا ومنقّحًا ومصحّحًا ويصعب عليه أحيانًا الفصل بين الأدوار، وهذا ما ألمسه أيضًا في كتاباته النقديّة، وحين أريد استفزازه أقول له: "هلا بمُريدِنا!"، وهنا يقولها بصريح العبارة: أعي جيّدًا أن هناك كُثُراً من مرّوا على لغتي وغرفوا منها ويصلّون في محرابي (إن صحّ التعبير) وإليهم، دون غيرهم، أهدي هذا الديوان ليبقوا مدانين لي ومن أتباعي. إهداء نرجسيّ لمُريد صوفيّ.
يقولها بصريح العبارة:
"لولا البعاد لهاجني استئناسُ ولـ (بُستُ) خَدَّك والورود (تباسُ)
لما دنوتُ تهيَّبتْ، فضممتُها همستْ: فديتك يا الحبيبُ فراسُ" (ص.22)
- "حضور النبيذ والخمرة في الديوان":
لفتت انتباهي خمريّة فراس؛ وجاء ذكرها وتوابعها أربعين مرّة، وتساءلت بيني وبيني عن العلاقة بين الدين والخمر وأشعاره، فوجدتها "خمرًا عذريًا"، خمريات رمزية، مجازية، وكأنّي بها مناجاة الذات الفراسيّة والذات الإلهية، والتعبُّد، كأنّي به "الحبّ الإلهي"، إن جاز التعبير، فجاءتني الخمرة في الشعر الصوفي، تلك التي لا يتذوّق ويستمتع ويغبط لمذاقها إلا من توحّد مع الإله، فهي خمرة لا لون ولا طعم ولا رائحة لها ولكنّها رغم ذلك تُشعر شاربها بِخدر وسكر من نوع آخر.
على سبيل المثال، لا الحصر، يقول فراس:
- لم أشرب إلى الآنَ نخبَ الطيّبين في الحانةِ القصوى من علماء اللغة (ص. 65)
- آهٍ لو كانت تستطيع أن تشاركني ليلة واحدة نشرب معًا كأس نبيذٍ مثلّجْ" (ص.81)
- النساء دائمًا تحلّي المؤتمر
كما يحلو بهنّ الخمر أو الطريق أو العبث (ص. 127)
- وتبذلين دمائي خمرة سُكبت فيشرب القلبُ كأسًا زخّه المطرُ (ص. 143)
- فتلك الكأسُ تزهرُ في شفاهكْ
وروّي الخمرَ
إنّ الخمرَ يشبعُ من شهيّاتِ انتشائكْ (ص. 183)
- إيقاع آهتها خمرٌ وإسكارُ (ص. 214)
خلال قراءتي الديوان للمرّة الثانية عدتُ إلى "خمّارتِه/حانتِه" في ديوانه السابق "وشيءٌ من سردٍ قليل"، وحينئذٍ جاءني ما قاله ابن الفارض حين ناجى محبوبه، الخالق:
شَرِبْنَا على ذكْرِ الحبيبِ مُدامَةً
سكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ
لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يُدِيرُهَا
هلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجم
ومِن بين أحشاء الدّنان تصاعدت
ولم يبقَ منها في الحقيقة إلّا اسمُ
وإن خَطَرَتْ يوماً على خاطرِ امرئٍ
أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ"
وجدت الخمر عند شاعرنا رمزًا لرغبته في الانتشاء والشعور بالسعادة، وتدلّ على رغبته في التمرّد والمشاكسة الفراسيّة، وجاءت من باب المجاز والتشبيه تيمّنًا بالشيخ مُحيي الدين بن عربي في ديوانه "إذا نظرت عيني فأنت الذي ترى":
"ألا كلُّ ما قد خامر العقلَ خمره
وإنْ كانَ في مزرٍ وإنْ كانَ في تبعِ"
- "متلازمة حرف الفاء": فراس الكاتب والناقد الجريء، المفكّر المشاكس، الذي يدلي بدلوه في مواضيع شتّى، صاحب العامود الفقري الذي صار ماركة مسجّلة باسمه، يصاب بالجُبن والتخاذل أمام حرف الفاء وجبروته، الأرض تنشقّ وتبلعه حين يواجه حرف الفاء فتُضمُر الكلمة وتتلاشى الحروف وكأنها تبخّرت، فالألف تصبح نشازًا، والطاء نكرة، والميم مجهول الهوية والتاء المربوطة تصير غريبة عن معجمه، ناهيك عن الزين واللام التي يطالب بحذفهما من قاموسنا (يذكّرني، دون تشبيه، بمحادثة لي مع صديقي الراحل حنا أبو حنا حين توجّهت إليه لأستشيره بالنسبة لمشاركة أديب في أمسية أدرتها فضحك وقال: "ويحك! هذا من كتب في قصيدة له بأنّه يتوجّب حذف الفاء من قاموس اللغة العربيّة لأنّه الحرف الأول من كلمة فلسطين. ماذا لو حذفناه يا فراس؟ ماذا تبقّى لك؟).
حين قرأت وجدانيات فراس "الإصحاح الأول لحرف الفاء" كنت قارئًا ساذجًا، على نيّاتي، وأخذتها AS IS، ولكن حين قرأت هذا الديوان للمرّة الثانية جالت في مخيّلتي عُقدة الفاء التي يعاني منها فراس، وحسدت تلك الفاء كم هي محظوظة بحضورها الوارف وإلهامها الطاغي لفراس عبر صفحات الديوان، بطوله وعرضه، فنجدها تتربّع عنوان قصيدة "مُنمنَمَةٌ على حرفِ فاء" (ص.42)، صاحبة التحيّة في قصيدته بمناسبة يوم الثامن من آذار "إلى الحروف الخمسِ... تحيّةٌ"، لم يجرؤ على ذكر اسمها لكن جاء في التذييل: "إلى (فاء نون)". (ص. 62)، وتصير فاء الفلك (ص. 97)، وتصبح السرّ في قصيدة "إلى مَن كانت فاطمةً في الاسم والصفات والحبّ والغياب: السرُّ" (ص. 121)
"لأنّ الشاعر مهووس بحبيبتهِ
باسم حبيبتهِ
من بدء البدء إلى أن تزهر في القلب مروج حبيبتهِ
فاءٌ ألِفٌ طاءٌ ميمْ
والختمةُ تاءُ حبيبتهِ"
وكذلك الأمر حين تعزّيه بوفاة صديقه في قصيدته "إلى صديقي المشاكس "شوقي" فكتبَت له: "تعيش وتترحم عليه، الله يعوّضك بالحنين. ما رح يتركك لحالك" (ف.ن) (ص.129)، ويؤرقه بعدها حين تصير "هي انتظار الانتظار":
"تحاصرني بشتات خمس حروفها" (ص. 229)
وحين يسأم الجلوس على العرش يقول:
"وقع الشاعر في محبرة اللّون الأزرقْ
فاختلجت آلافُ الأشجارْ
والفأس تفرّسُ حرف الفاءْ". (ص. 231)
وفي قصيدته "طير قلبي الجامح" يقتبس ما كتبَت له في إحدى رسائلها:
"أنا إنسانة بسيطة معذّبة بكلّ هذا الحبّ وأحمل وزره ما حييت" (ف.ن) (ص.234)
وأخيرًا؛ أبارك لفراس هذا الإصدار، وأهمس في أذن فائك وأقول لها: زيديه إلهامًا يا فاء الفراسيّة.
[*] مداخلتي في حفل إشهار الديوان يوم السبت 28.01.2023 في مركز يافا الثقافي/ مخيم بلاطة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت