- أسامة خليفة
- باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
قراءة في كتاب «2007 عام الانقسامات»، يحمل الكتاب الرقم «19» في إطار سلسلة «الطريق إلى الاستقلال»، التي يصدرها المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف».
لماذا يتكرر الحديث عن عام الانقسامات؟. هل لنكء هذا الجرح الفلسطيني الغائر في صدر الحركة الوطنية؟. أم للتذكير بحجم الكارثة؟. ومازالت حالة الانقسام مستمرة بتداعياتها حتى الآن، العودة إلى بدايات المشكلة يعيد للذاكرة جذورها المكلومة التي مازالت تمتد عميقاً في الجسد الفلسطيني، والتذكير بها للوقوف عليها وعندها لنتبين الضرورة في تحريم الاقتتال واللجوء إلى العنف لحل الخلافات وحسم المواقف السياسية، بما لها من أثار ومفاعيل سلبية على مجمل البرنامج الوطني الفلسطيني، الذي وجد نفسه محاصراً بين نيران الاقتتال، كما وجدت المؤسسات الشرعية نفسها ممزقة مشلولة، وإلى الآن لم تحمل الأيام ما يؤشر إلى أن الطرفين مقبلان على معالجة الانقسام، في ظل حالة وطنية عامة، غير قادرة بعد على فرض شروط تقدم مسار استعادة الوحدة التي باتت تحتل رأس الأولويات الوطنية الفلسطينية، خطير هذا العجز أو التهاون في وضع حد للانقسام والشرذمة، وإذا كان الكل يدعي الاهتمام بالمصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، فالمدخل إلى ذلك يكون باستعادة الوحدة الوطنية، وتصليب الحالة الفلسطينية وفق برنامج مقاوم متفق عليه بين الجميع، من أجل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في ظل ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد.
انقضى العام 2007 ثقيلاً على الحالة الفلسطينية، مشكّلاً مرحلة شديدة الحساسية لها تداعياتها بعيدة المدى ليس على الوضع الفلسطيني الداخلي فحسب، بل وكذاك على القضية الوطنية في عيون أبنائها وفي الحسابات الإقليمية والعربية، مضى العام 2007 ملطخاً بالدم الذي سال بغزارة في شوارع ومدن القطاع وقراه ومخيماته، بعضه برصاص الاحتلال وقذائفه، وهو أقله ألماً رغم الارتفاع الدائم في عدد الشهداء بفعل المجازر المتكررة على يد الاحتلال خاصة في القطاع المحاصر، وبعضه الآخر برصاص فلسطيني، وهو أكثره وأعظمه ألماً، بفعل الاقتتال الداخلي الفلسطيني، في داخل الوطن دخل عنصر جديد على الحالة الفلسطينية لُمستْ مفاعيله منذ العام 2006 إثر فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية، وتشكيلها للحكومة الفلسطينية العاشرة، عمل وزير الداخلية سعيد صيام على تأسيس جهاز أمني جديد، تحت مسمى القوة التنفيذية، كبديل لأجهزة السلطة الأمنية الموالية لحركة فتح، والتي ترفض التعامل معه، وهو ما اعتبره عصياناً من طرف هذه الأجهزة، استدعى انقلاباً عسكرياً على نفوذ الأجهزة الأمنية السابقة، وقد سبقه انقلابات في القيم والعلاقات الوطنية، كان ضحيتها المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وقامت حركتا فتح وحماس بالانقلاب السياسي الأول، حيث شكّل الاتفاق الثنائي في مكة انقلاباً على النظام السياسي الفلسطيني، الذي انتقل من حكم الحزب الواحد إلى حكم الحزبين يتقاسمان المصالح والمغانم والحصص على كل المستويات، في الوزارات والوظائف العليا والوسيطة والدنيا، وكشف اتفاق مكة أن الخلاف محوره الرئيس التنافس السياسي على السلطة والصراع على مغانمهما، وأنه كلما توصل الطرفان إلى اتفاق (محاصصة معينة) كبديل للشراكة الوطنية الحقيقية، شهدت العلاقات بينهما هدنة لا يمكن إخفاؤها، وأنه كلما اختلف الطرفان على تقاسم «كعكة» ما من «كعك» السلطة، دخلت العلاقات الثنائية بينهما في نفق التوتر، الذي تحول في بعض الأحيان إلى اشتباك مسلح في الشوارع، فالتنافس على المصالح والحصص والمغانم وإن بدا وكأنه وصل إلى اتفاق، إلا أنه تنافس لا يتوقف عند حدود معينة، فطموح كل طرف للاستيلاء على الحصة الأكبر سيبقى هو الدافع الرئيسي لحركة كل منهما.
الانقلاب السياسي الأول الذي شهده العام 2007 هو ذلك الانقلاب الذي قامت به حماس على وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى) الموقعة في 27/6/2006، التي أرست الأسس الضرورية لقيام وحدة وطنية فلسطينية على الصعد كافة، بدءاً من مؤسسات «م.ت.ف.» مروراً بحكومة السلطة، وصولاً إلى بناء غرفة عمليات توحد المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وانتهاء بإعادة بناء مؤسسات المجتمع المدني، تجاهلت حركتا فتح وحماس هذا كله واستبدلت الحوار الشامل للاتفاق على أسس تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، بحوار ثنائي في مكة أدى إلى اتفاق ثنائي على تقاسم الحصص في الحكومة وتوزع الوزارات، وترك أربع وزارات من أصل 28 وزارة لباقي القوى الفلسطينية، بذريعة أن الديمقراطية البرلمانية تعطيهما الحق في ذلك، لأنهما الطرفان الأكبر في المجلس التشريعي الفلسطيني، حماس ترى أن الشعب قال كلمته في الانتخابات التشريعية وأعطى لحماس الحصة الأكبر من أصواته، لذلك من حق حماس أن يكون لها في الإدارة والمؤسسات ما ينسجم مع ما لها في المجلس التشريعي من نواب، في حين ترى فتح أنها هي التي تحملت أعباء قيام السلطة الفلسطينية في وقت كان فيه الآخرون يكتفون بالاعتراض والانتقاد، وإن تنازلت لحماس عن حصة فإنها تتخلى عن حصة هي الأحق بها.
أكد اتفاق مكة بين حركتي فتح وحماس على اعتماد لغة الحوار كأساس لحل الخلافات، وتحريم إراقة الدم الفلسطيني، وتأكيد الوحدة الوطنية بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، حركة حماس تسع حقائب وزارية وست لفتح وخمس للمستقلين وأربع حقائب للكتل البرلمانية الأخرى في المجلس التشريعي، الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب والمبادرة الوطنية، ولم تشارك الجبهة الشعبية في هذه الحكومة، ومع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، بقيت العقبة الكأداء التي جابهت الطرفين، والتي عجزا عن حلها أو تجاوزها، وهي الأجهزة الأمنية باعتبارها «ذراع السلطة»، وذراعها الثاني هي وزارة المالية، ومن يمسك بهذين الذراعين يمسك بعناصر القوة في السلطة، ووزير الداخلية هاني القواسمة المستقل بدا لفتح أنه أقرب إلى حماس، منه إلى موقع المستقل، وحماس ترفض حل «القوة التنفيذية» كجهاز أمني تابع لها ويخضع لقراراتها في مواجهة الأجهزة الأمنية الموالية لحركة فتح، كما ترفض حماس دمج هذه القوة في باقي الأجهزة، وتصر على منحها الصفة الرسمية كجزء من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة مع المحافظة على هيكلها المستقل وبولائها الكامل لحركة حماس.
وهكذا تكون حماس وفتح قد انقلبتا على ما تم الاتفاق عليه بشأن الأجهزة الأمنية التي تقرر نزع الصفة الحزبية عنها، وبناءها على أساس مهني، وأن تتبع للمرجعية السياسية الممثلة في وزير الداخلية، لا حركة فتح نفذت ما عليها، ولا حركة حماس فعلت ما يتوجب عليها فعله، فبقيت الأجهزة الأمنية منقسمة على بعضها على قاعدة حزبية تتناحر في الشارع وتتقاتل وتتبادل إطلاق النار، واحتلال المربعات السكنية في طول القطاع وعرضه، والطرفان يرفضان إطاعة أوامر وزير الداخلية الذي بدا عاجزاً عن ممارسة صلاحياته، فآثر الاستقالة باستحالة معالجة الوضع في ظل العقلية التي يدير بها الطرفان الأوضاع، وبدا المشهد الفلسطيني غاية في المأساة.
فشلت فتح وحماس في الاتفاق على شخصية مستقلة تخلف هاني القواسمة، فوضعت مقاليد الوزارة «بشكل مؤقت» بين يدي رئيس الحكومة إسماعيل هنية، وهي خطوة أخرى على طريق تعميق الطابع الحزبي للعمل الأمني في السلطة، خلافاً لما جاء في وثيقة الوفاق الوطني، وما جاء في البيان الوزاري، وبات واضحاً أن «جهاز الأمن»، هو إما الممر الإجباري الآمن نحو تسوية العلاقة بين فتح وحماس، وإما العنصر المفجّر لهذه العلاقة ونسف كل ما تم التوصل إليه.
أن يكون «جهاز الأمن» هو الممر الإجباري الآمن، فهذا يعني العودة إلى صيغة «نزع الصفة الحزبية عن الأجهزة الأمنية» وهذا ما تعمل ضده وتعارضه بشدة حركتا فتح وحماس اللتان تتشبثان بحصة كل منهما في الأجهزة الأمنية، باعتبار أن الحصة هي «صمام الأمان» لوجود كل منهما في السلطة وفي الشارع، وفي هذا انقلاب على مفهوم الاعتماد على القاعدة الجماهيرية كأساس لوجود قوة سياسية معينة وتطورها.
أما أن يتنازع الطرفان صلاحيات الأجهزة الأمنية فهذا معناه دفع الأمور إلى نقطة الانفجار، وهذا ما حصل في الأسبوع الثاني من حزيران/يونيو الذي انتهى في 14 منه باستيلاء حركة حماس على السلطة في قطاع غزة، بانقلاب دموي، أدى إلى إسقاط السلطة الشرعية لصالح سلطة ميليشيا حماس.
حركة 14 حزيران/يونيو 2007 شكلت انقلاباً على نظام المحاصصة، ودفعت الأمور نحو الاتجاه الأكثر سلبية حين قادت إلى حدوث الانقسام في وضع السلطة، واحدة تدير الشؤون في الضفة الفلسطينية، والثانية لا تملك الشرعية وتدير الوضع في قطاع غزة، واستكملت حركة الانقلاب هذه دورها في إلغاء مؤسسات السلطة، واستحدثت مؤسسات تابعة لها، استبدلت مؤسسات تدين بالولاء لحركة فتح، بمؤسسات تدين بالولاء لحركة حماس.
وهكذا تبخرت الدعوات والشعارات حول ضرورة نزع الصفة الحزبية عن المؤسسة الأمنية لصالح الكفاءة والخبرة والنزاهة ونظافة الكف، وحلت محلها شعارات الولاء والانحيازات الحزبية، بل وتعمقت هذه الحالة في ظل الانقسام الحاد بين حركتي فتح وحماس.
تباينت ردود فعل الجهات الفلسطينية على هذه الأحداث، حيث كانت ردود فعل السلطة في رام الله شديدة التوتر
فقرر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إقالة إسماعيل هنية رئيس الحكومة وإعلان حالة الطوارئ وكلف سلام فياض بتشكيل حكومة طوارئ لمدة شهر واحد حسب القانون الفلسطيني، أدت اليمين الدستوري في 18/6 وعلى رأس أولوياتها فرض الأمن في الضفة الغربية، فأقرت خطة أمنية قصيرة المدى، واتخذت رزمة إجراءات من شأنها ربط قطاع غزة مع الضفة تتعلق بجوازات السفر والتعليم وقوات الأمن، وأصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ثلاثة مراسيم رئاسية تقضي بحل مجلس الأمن القومي وإقالة المدير العام للأمن القومي وإقالة المدير العام للأمن الداخلي، ومنح وزير الداخلية الجديد صلاحية إغلاق مؤسسات وتعليق العمل بفقرة من القانون تتطلب موافقة المجلس التشريعي على أي تعيينات وزارية، وفوضه قيادة جميع أجهزة الأمن بما فيها تلك الواقعة خارج صلاحياته، وجدد عباس رفضه لأي حوار مع حركة حماس قبل إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب، كما أعلن إلغاء الاتفاقات السابقة مع حماس بشأن تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية.
بعد أسبوع من سيطرة حماس على القطاع، التئم جمع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في رام الله لبحث المستجدات في غزة، واتخذ جملة من القرارات بشأن إعادة إحياء المنظمة ومؤسساتها وصادق على المراسيم الرئاسية التي أصدرها محمود عباس بشأن إعلان حالة الطوارئ، وإقالة حكومة هنية، وتشكيل حكومة طوارئ، وإدانة خطوة حماس وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه والدعوة لتهيئة الأجواء لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة على قاعدة التمثيل النسبي.
قدم رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنية عشر نقاط في إطار الرد على ما ورد في خطاب عباس أمام المجلس المركزي الفلسطيني من بينها احترام الشرعية الفلسطينية، واعتبر أن لا بديل عن الحوار بلا شروط على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، وعدم تجزئة الوطن، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، والتزام اتفاق مكة.
استمر الشد والجذب بين فتح وحماس، فوصفت كتائب القسام سلام فياض (الذي أصبح رئيس حكومة تصريف أعمال بعد انتهاء فترة الطوارئ) بالخائن وأعلنت أنه مطلوب بسبب مواقفه، وحذرت كتائب الأقصى كتائب القسام من المس برئيس حكومة الطوارئ، واقتحم مسلحون من كتائب الأقصى شركة الثريا للإنتاج الفني التابعة لحركة حماس، واتهمت حركة فتح خالد مشعل بانه رأس الانقلاب العسكري والسياسي الذي أدى إلى سيطرة حماس على قطاع غزة، وكان مسلحون من حركة فتح في الضفة الغربية قد أقدموا على خطف عدد من كوادر وقياديي حماس، بالمقابل في 15/7 قامت القوة التنفيذية باعتقال عناصر من حركة فتح بتهمة التخطيط للقيام بعمليات ضد حماس، مما دعا فصائل فلسطينية في غزة لمطالبة حماس بوقف عمليات دهم منازل كوادر فتح وعناصرها واعتقالهم، وقررت تشكيل لجنة لمتابعة هذه القضايا مع حركة حماس، ازدادت المناكفات والإجراءات الكيدية بين حركتي فتح وحماس حدة مع إعلان إسماعيل هنية سحب حركة حماس تفويضها لمحمود عباس التفاوض مع اسرائيل على تسوية سياسية، وذلك في أعقاب إصدار عباس مرسوماً ألغى بموجبه تعيينات مئتين من كوادر حماس في وظائف عليا في دوائر السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، بل وشهدت الشهور اللاحقة اشتباكات مسلحة بين ميليشيا حماس، مثل تلك التي دارت في 21/10 مع عائلة حلس وأسفرت عن مقتل مواطنين وجرح آخرين.
لقد كانت أخطر تداعيات الحركة الانقلابية في 14/6/2007 الانفلات المخيف لخطاب امتداح الاقتتال الداخلي، وامتداح اللجوء إلى العنف في حل الخلافات السياسية، وامتداح سياسة سفك الدم الفلسطيني بالسلاح الفلسطيني، وبدت كل الشعارات التي رفعت سابقاً في تحريم اللجوء إلى العنف واللجوء إلى الاقتتال واللجوء إلى سفك الدم، وكأنها مجرد تزييف لسياسات مضمرة كانت تنتظر اللحظة المناسبة لتطل برأسها باعتبارها هي السياسة الحقيقية والفعلية التي يتبناها هؤلاء، واختفت مفاهيم الديمقراطية بكل معانيها ومظاهرها، فجرى قمع الصحف والصحافة والصحفيين، ومنعت التجمعات والمسيرات، وأعطبت وسائل التعبير عن الرأي، وجرى اقتحام مقراتها، وكذلك جرى تسخير القضاء في خدمة السياسة عبر تلفيق الاتهامات لتبرير سياسة مطاردة «المطلوبين» والزج بهم في السجون بذرائع قضائية جنائية، ونفي وقوع أسباب سياسية خلف هذه المطاردات والاعتقالات، وهبط مستوى الخطاب السياسي وتحول في مجموعه إلى سلسلة من المهاترات وكيل الاتهامات دون مستند وصولاً إلى التخوين، وهي كلها ممارسات أدخلت الحالة الفلسطينية في نفق مظلم وبدت الأمور شديدة الاضطراب، وكأن كل ما تحقق من مكاسب وطنية بات معرضاً للتبذير.
من التداعيات السلبية لانقلاب حماس على السلطة الفلسطينية ما أصاب المقاومة المسلحة من إرباكات، بما أن الانقلاب هو في حد ذاته عمل انقسامي، كان من الطبيعي أن تنعكس تداعياته مزيداً من الشرذمة في أوضاع المقاومة، لا تقارباً وتنسيقاً منظماً بين أذرعها المختلفة، إذ أقدمت حماس في ظل لجوئها إلى الحسم العسكري إلى تجريد حركة فتح، وجناحها المسلح، كتائب شهداء الأقصى من السلاح، الأمر الذي أدى إلى شل أحد أجنحة المقاومة عن أداء دوره في إطار التصدي للاحتلال والعدوان على القطاع، من جهته أصدر عباس مرسوماً رئاسياً تم بموجبه حظر عمل المليشيات المسلحة والتشكيلات العسكرية غير النظامية أياً تكن تبعيتها وحظر قيامها بأي نشاط ووضع كل من يساعدها تحت المساءلة الجزائية، بينما صرح رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية فاروق القدومي أن السلاح سيبقى بأيدي المقاومة طالما بقي احتلال، وعاد وزير الداخلية عبد الرزاق اليحيى ليؤكد نية السلطة حل جميع الاجنحة العسكرية المسلحة معتبراً أن المقاومة هي كارثة على الشعب الفلسطيني.
ودخلت حماس في حالة تنافس غير مبدئي مع حركة الجهاد في السعي للسيطرة على المساجد في قطاع غزة، وفي السعي لتأكيد نفسها كحركة إسلامية «الأكثر شرعية» والأكثر نفوذاً، والعنوان شبه الوحيد للنشاط السياسي الإسلامي في القطاع، وهو ما أربك حركة الجهاد، وذراعها العسكري سرايا القدس، التي انشغلت من جهة بحماية أوضاعها الداخلية، ومن جهة أخرى في مقارعة الاحتلال، أما الذراعان الأخران للمقاومة، أي كتائب المقاومة الوطنية، وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى، فقد انشغلا بين واجبين كبيرين: عين على الأوضاع الداخلية شديدة التوتر في ظل الصدامات شبه اليومية، وعين على العدو وتحركاته، في إطار مواصلة الواجب الرئيس واجب مقاومة الاحتلال.
من التداعيات الكبرى لحالة الانقسام في الوضع الفلسطيني ما طرأ على العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية ، والفلسطينية الأمريكية، من تطورات، في محاولة الطرفين الأمريكي والإسرائيلي لاستغلال حالة الانقسام الفلسطيني وحالة الضعف الذي يعيشه المفاوض الفلسطيني، جرى ذلك تحت شعار إسرائيلي ملخصه «دعم عباس في مواجهة حركة حماس» والوجه الآخر للشعار «تجميد العلاقة مع عباس إذا ما استعاد علاقته مع حركة حماس»، وعملت الولايات المتحدة على التحرك لعقد مؤتمر دولي في أنابوليس لدفع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي نحو استئناف مفاوضات الحل الدائم، التي استغلتها اسرائيل لتستظل بها في توسيع عمليات الاستيطان بالضفة الفلسطينية، وتصعيد العدوان على قطاع غزة وتشديد الحصار من حوله.
من الثمار المرة للعملية الانقلابية الانقسامية، إصابة المجلس التشريعي الفلسطيني في مقتل، فقد لعب الطرفان، فتح وحماس، كل بدوره لعبة أدت إلى تعطيل المجلس، ومنعه من الانعقاد وفقاً لنظامه الداخلي، إذ استغلت حركة حماس رئاستها للمجلس التشريعي، فعطلت انعقاد الجلسة التي طالبت بها حكومة فياض لتقديم بيانها الوزاري ونيل الثقة على أساسه، في ظل غياب عدد من نواب حماس في الأسر، الأمر الذي أفقدها الأغلبية في المجلس التشريعي، من جانبهم قاطع نواب فتح أعمال المجلس التشريعي حين دعت حماس لتجديد الثقة بحكومة هنية المقالة، باعتبارها الحكومة الشرعية والمعنية بتصريف الأعمال، في موقف تريد منه حماس الطعن بشرعية حكومة فياض، الذي فصله نواب حركة حماس من عضوية المجلس بذريعة قيامه بالسطو على المال العام، وحجب الرواتب عن الموظفين الذين عينتهم حماس، في جلسة المجلس التشريعي هذه في غزة التي انعقدت بموجب فتوى تتيح للنواب الأسرى توكيل زملائهم في النيابة عنهم في حضور أعمال المجلس والتصويت على قراراته، وتم في هذه الجلسة التي اعتبرتها حماس شرعية إلغاء القوانين التي أصدرها محمود عباس بصفته رئيساً للسلطة الفلسطينية، وبات واضحاً أن المجلس التشريعي أيضاً قد أصابه الانقسام، فصارت الحالة الفلسطينية أمام حكومتين، واحدة لتصريف الأعمال برئاسة فياض، وأخرى برئاسة إسماعيل هنية، ولكل حكومة هياكلها الأمنية والقضائية والإدارية الخاصة بها، واستطاع الطرفان جر عدد من الحلفاء يمتدحون سياسته وسلوكياته ويبررونها، لكن في قلب هذا الظلام كانت ثمة أصوات رفضت الانجرار هنا أو هناك، وحافظت على توازن موقفها، تدعو إلى وضع حد للانقسام والعودة إلى طريق الوحدة الوطنية، والتراجع عن نتائج الحسم العسكري في غزة، وإعادة المؤسسات ومقراتها إلى السلطة الشرعية، ووقف الملاحقات في الضفة والقطاع، وإطلاق سراح المعتقلين على خلفية سياسية، ووقف الحملات الإعلامية والتمهيد للجلوس على طاولة الحوار، للاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية، من شخصيات مستقلة مشهود لها بنصاعة تاريخها وموقفها وحياديتها، تكون معنية وضمن سقف محدد بإعادة توحيد الحالة الفلسطينية، والتمهيد لإجراء انتخابات مبكرة، رئاسية وتشريعية، بدا هذا الحل صعب التطبيق لأنه يدعو في سياقه العام كلا الطرفين ( فتح وحماس) لإجراء مراجعة نقدية لسياستهما، والحركتان تتسمان بأنهما
لا تملكان الحيوية الداخلية الضرورية التي تمكن كل منهما إجراء مراجعاته دون أن يلغي ذلك استعداد كلا الحركتين للجوء إلى نقلات مفاجئة في الموقف السياسي.
بذلت عدد من الفصائل الفلسطينية، (الجبهتين الديمقراطية والشعبية لتحرير فلسطين والجهاد الإسلامي والمبادرة الوطنية) جهوداً لإقناع حركتي فتح وحماس بالعودة إلى طاولة الحوار لإيجاد حل للأزمة الداخلية منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة بالقوة.
كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين قد دعت إلى وقف الاقتتال وقدمت مبادرة من بنودها: إصدار قرار مشترك من رئاسة السلطة الفلسطينية ورئاسة الحكومة بوقف الاقتتال وإحالة جميع المتورطين إلى القضاء، وفرض أحكام القانون على الجميع، وتشكيل قوة مشتركة من الفصائل الوطنية لحماية أمن الشعب والمؤسسات الأهلية والرسمية. وفي 12/7 وبعد سيطرة حركة حماس على القطاع قدمت الجبهة الديمقراطية مبادرة سياسية أخرى تشكل أساساً لحوار وطني شامل يهدف إلى الوصول إلى اتفاق يمكّن الفلسطينيين من الخروج من المأزق الذي تسبب به الحسم العسكري، وذلك بالتراجع عن نتائجه قبل أن يتم تشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، أبدت حركة حماس اهتمامها بهذه المبادرة من خلال لقاء جمع بين وفد من حركة حماس ووفد قيادي من الجبهة الديمقراطية في غزة.
تواصلت المساعي لحوار يجري في القاهرة بين حركتي حماس وفتح بعد موافقة الطرفين على مبادرة الخرطوم التي تتضمن توحيد الحكومة وأجهزة الأمن والاعتراف بشرعية عباس، وفي لقاء عقد في مقر الرئاسة في رام الله مع الرئيس الفلسطيني يوم 3/11، أكده أربعة من قادة حماس على احترام شرعية الرئيس، إلا أن التوتر عاد من جديد بعد صدامات جرت في غزة في ختام مهرجان إحياء الذكرى الثالثة لرحيل الرئيس ياسر عرفات.
والآن قد مضى على الحسم العسكري خمسة عشر عاماً وسبع شهور ونصف، ومازالت الحالة الفلسطينية تعاني من الانقسام والتشرذم، ومازلنا أمام موضوع المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية، رغم الاتفاقات العديدة التي بدلاً من أن تنفذ لتدل على الجدية والالتزام بما يتفق عليه وتؤمن الخروج من المأزق الذي وضعت به الحالة الفلسطينية جراء الانقسام، أصبحت الحوارات الثنائية أو التي تشمل الجميع، عامل إحباط ويأس لا يرتجى منها خيراً، ويبقى السؤال إلى متى؟.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت