- بقلم د. نجلاء الخضراء
تحكي الروايات والحكايات الشعبية عن لغة كانت سائدة في فترة من الفترات في بلادنا تصيب مستمعها بالدهشة عند سماعها وتذهب به الظنون إلى أنه يستمع للغة غريبة رغم أن كلامها يبدو مألوفا لأذنيه. تسمى لغة لسان العصفور أو اللغة العصفورية، وقد أطلق عليها هذا الاسم لأنها تشبه في أصواتها أصوات زقزقة العصافير وتغريدها. ليس لتلك اللغة معاجم أو دورات تعليمية ولن تجدها على محركات البحث على الشابكة.
العصفورية أو لسان العصفور ليست لغة وانما هي قاعدة بسيطة ابتدعها بعض العرب أو هي أسلوب تشفير للكلام تقوم على مبدأ تقسيم الكلمة إلى مقاطع صوتية وإدخال مقاطع صوتية جديدة ضمن المقاطع الأصلية للكلمة وتكون تلك المقاطع الجديدة في الغالب حرف الزاي وربما يكون حرف الراء. مثل: مرحبا تصبح م ز رح زب زا (مزرحزبزا) و كلمة أهلا تصبح أزهزلزا
( أزهزلزا) وكلمة كيفكم تصبح ك ز ي ز ف زك زم (كزيزفزكزم) وكلمة وردة تصبح وزرزدة (وزرزدة).
اذن لسان العصفور أسلوب تشفير أو قاعدة لغوية استخدمت من أكثر من مائة عام في سوريا ولبنان وفلسطين أثناء الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي والبريطاني ويعتقد أنها ظهرت في عام 1830 زمن إبراهيم باشا وهي متوارثة عبر الأجيال إذ استخدمها الفتية والرجال والنساء والأطفال.
استخدمت تلك القاعدة في السجون والحارات والاجتماعات والجلسات وكان الهدف الأساسي منها تشتيت المحتل والتواصل بين الثوار والأسرى في سجون الاحتلال ونقل الأسرار والتضليل واضافة شيء من الغموض إلى الكلام في وقت غابت فيه الحريات والشفافية فكان هذا الأسلوب للتعبير عما يجول في الخاطر وتعويض الإحساس بالنقص واستلاب الحريات والقمع المحيط بالأفراد، واستخدمتها بعض العائلات لتشفير الحديث ضمن العائلة فاستخدمت شيفرات خاصة بها يتداولها أفرادها فيما بينهم وسميت بأسماء عائلاتهم مثل لغة الادارسة الخاصة بعائلة ادريس.
كما استخدمت ضمن الحرف التقليدية والعمل للحفاظ على أسرار المهن وأسرار العمل ضمن مكان العمل فكان الحكواتي يكتب قصصه الشعبية بأسلوب التشفير حتى لا يستطيع أحد استخدام كتاباته وسرقة قصصه، كما استخدمت لأغراض المزاح والتسلية إذ أنها تصيب المستمع بالدهشة فالانصات فالتدقيق ليتضح أنها لغة عربية بأسلوب خاص هو أسلوب الزقزقة، والسبب في اختيار حرف الزاي دون سواه هو أن لهذا الحرف دون سواه صدى خاص ويعد أسهل وأجمل في النطق وهو قريب من اللغة الفرنسية التي كان يتحدث بها المحتل فتثير لديه التساؤلات والاستغراب وربما تشعره بالسخرية منه لاقتراب الأحرف من أحرف لغته في الوقت الذي لا يستطيع أن يفهم منها كلمة واحدة،
لم يكن هناك أي مشكلة في تغير الحرف خاصة اذا تم اكتشاف الشيفرة أو تغير المحتل الذي هو أساس اختراع تلك القاعدة ففي فترة الاحتلال العثماني استخدمت الشيفرة بحرفي التاء والنون وهما يتكرران كثيرا في اللغة التركية فمثلاً ، (رايح عالجيش) تكتب (راتتنوح جاتنكيش) وكلمة (مرحبا) تصبح (مرتنحبا) و(أهلا) تصبح (أهتنلن) وكيفكم تصبح (كيتنفكم).
ونذكر أسلوب آخر للتشفير وهو استبدال الحرف الأول من كلمة بحرف الجيم ووضع الحرف المستبدل بآخر الكلمة مثل مين قالك أنا مجنون تصبح (جين بلمي جلك بلقي جنا بلأي ججنون بلمي) وان كان الحرف الأول هو الجيم فيستبدل حرف الجيم بالحاء ويلحق حرف الجيم بعدها مثل: جّني تصبح حني بلجي وجردون تصبح حردون بلجي .
تعد الأساليب المشفرة العصفورية أو غيرها على اختلاف قواعدها وشيفراتها عنصرا من عناصر التراث اللامادي المهددة بالاندثار بسبب قلة استخدامها والتداول بها في الوقت الحالي لعدم الحاجة لهذا الاستخدام وبسبب تفرق المجموعات التي استخدمتها وتحدثت بها وهي بحاجة للعمل السريع لانقاذها والحفاظ عليها وعلى قواعدها بالتذكير بها والتشويق إليها والعمل على توثيق قواعدها توثيقا سمعيا وكتابيا اذ تعد تلك الأساليب أساليب نضالية استخدمها الأجداد في التغطية والتمويه وارسال الرسائل وعلامات لبدء العمليات الثورية والنضالية وهي دليلا هاما على أساليب تعامل الآباء والأجداد وتكيفهم مع ظروف معيشتهم وطبيعتها ونتيجة لتجاربهم وممارساتهم الاجتماعية اليومية.
ان كل ما يندرج تحت اسم التراث اللامادي من عادات وتقاليد وسلوكيات وطقوس وممارسات يستحق الاهتمام والاحتفاظ به والعمل على تنميته لأنه يعني الحفاظ على الهوية والتنوع الثقافي والحضاري
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت