- بقلم: فراس ياغي
خلفية
تأسست دولة الكيان الصهيوني عام 1948 على أنقاض الشعب الفلسطيني الذي تم طرده من أرضه وفقا لمخطط إستعماري إمبريالي يتوافق مع طموح الحركة الصهيونية في تأسيس دولة لليهود، بهدف السيطرة والتفتيت لمنطقة "غرب آسيا" لما تشكله من قوة إقتصادية وشعبية و"جيوسياسية" قادرة لو توحدت لأن تُصبح قوة عظمى في العالم، وجاء تشكيل هذا الكيان من يهود الشتات وما يعنيه ذلك من تعدد المشارب الإثنية وتعدد الثقافات وتعدد المنطلقات الفكرية والدينية، لذلك عملت الحركة الصهيونية على مفهوم "الصهر" من خلال مؤسستا "الجيش" و "التعليم" عِبر خلق هوية "إسرائيلية" تعيش في بحر من الأعداء مما يتطلب دائما اليقظة والحذر والوحدة الداخلية لمواجهة الأخطار الخارجية التي تُطوق هذه الدولة، نجحت الحركة الصهيونية في ذلك ظاهريا ولمدة عقود من الزمن، لكنها لم تستطيع ردم الهوة العميقة التي كَمِنَتْ في داخله وبين مُختلف مُهاجريه وأصبح هناك فوروقات وتمييز بين قطاعات المهاجرين من ناحية إقتصادية وفكرية ودينية وإجتماعية، حيث سيطرت النخبة الإشكنازية على السلطة والحكم، وحين فقدت الحكم في إنقلاب عام "1977" بقيت لديها السلطة "الدولة العميقة" وبالذات في مؤسسة "الجيش" ومؤسسة "القضاء" والمؤسسة "الإعلامية" والمؤسسة "الإقتصادية" وأهم فرع فيها "الهاي تك"، أي أنها بقيت مُتحكمة في مفاصل الدولة وتُوجهها بالطريقة التي تُبقي هذا الكيان يعمل وفق الأجندة والثقافة الغربية الإستعمارية، لكنّ هذا لا يعني أن التناقضات الداخلية تم محوها، بل بقيت تظهر وتخبو بين الفترة والأخرى، خطأ النخبة الإشكنازية جاء بِ إحتلال "الضفة الغربية والقدس" بالذات والذي رافقه تحول كبير داخل مجتمع الدولة الصهيونية، وبظهور حركة المستوطنين وبالتالي ظهور فكر الصهيونية الدينية القومية كَ "تيار" تبلور في عدة محطات وهو يتوافق مع فكر "الحريدية" الدينية في تطبيق الشريعة "التوراتية" في الدولة الصهيونية، ومع تراكم القوة لدى هذا التيار والتغيّر في موازين القوى الداخلية لصالح تحالف اليمين المتطرف، بدأت القضايا الداخلية والتناقضات في مفاهيم الهوية والحكم تَطفو على سطح النقاش، حتى جاءت حكومة "نتنياهو" "سموتريطش" "بن غفير" "درعي" لتعلن وبشكل عملي عن برنامج وأهداف تؤدي لخلق دولة "جديدة" لا مكان فيها لمن أسسها من النخب "الإشكنازية".
لذلك نرى لأول مرة تطفو الحرائق الداخلية على سطح دولة الكيان الصهيوني "دولة المهاجرين" وتصبح هي القضية المركزية في الصراع بين الإثنيات المتعددة من إشكناز وسفارديم وروس وأثيوبيين، بين العلمانيين والمتدينين، بين اليهود الأرثوذكس "المحافظين" والإصلاحين، بين الليبراليين والشوفينيّن القوميّن، بين مفهوم الهوية الإسرائيلية ومفهوم الهوية اليهودية، بين الدولة اليهودية النقية ودولة المستوطنين...هذا الصراع الذي كان كامنا وساكنا يُصبح القضية المركزية في الدولة، ويأتي ذلك وهذه الدولة على أعتاب الوصول إلى "العقد الثامن" من تأسيسها والذي يشكل العقدة المركزية في عقول الكثير من نخبه، كون هذا العقد شهد في التاريخ اليهودي "التوراتي" دمار وإنتهاء دولة "يهودا" ودولة "السامرة" ولكن الواقع الحقيقي المؤكد هو إنتهاء دولة "الحشمونائيم" التي تأسست سنة 116 ق.م وإنتهت سنة 37 ق.م، وبذلك أصبح "العقد الثامن" يُشكل "متلازمة نفسية" للكثير من قيادات الكيان الصهيوني لدرجة أن "نتنياهو" تحدث أنه يريد أن يصل بعمر الكيان إلى "مئة عام".
الشعور بالخطر من طبيعة برنامج حكومة الإئتلاف القائمة دق ناقوس الخطر لدى النخبة "الإشكنازية" والمتحالفين معها من "العلمانيّن" من "الإثنيات" الأخرى والذين بدأوا في صراع لا هوادة فيه مع المحاولات لتغيير هوية الدولة "البنغوريونية"، وأساس ذلك منع التحكم ب "الدولة العميقة" والتي تعتبر "محكمة العدل العليا" هي حكومتها، فنزلت بمئآت الآف للشوارع في محاولة لإيقاف ما يعرف ب "الإصلاح القضائي"، صراع يصل لدرجة التناقض الذي قد يؤدي إلى حرب أهلية نتيجة للإنقسام العمودي والأفقي الذي يكتنف دولة الكيان بسبب محاولات إحداث إنقلاب كامل على هوية ومفهوم الحكم والسلطة في دولة الكيان الصهيوني.
هذا التناقض والصراع لم يجد أحد حتى الآن طريقةً لجسره بحيث يؤدي لتفاهم جديد بين مختلف الإثنيات والتوجهات لتُجمع عليه وتُؤسس من خلاله لتعايش يستند لقوانين تضمن الحرية الفردية والجمعية للكل اليهودي بحيث يحدث التوافق حتى لو كان إلى حين، ورغم محاولات الرئيس "هيرتسوغ" إلى أنه فشل في ذلك بسبب رفض "نتنياهو" وأقطاب حكومته لمقترحات "الرئيس" وقد جاء الرفض بعد "سبع دقائق" من عرض هذه المقترحات، وهذا يؤكد أن رئيس الوزراء "نتننياهو" يرى أنّ الحلول الوسط هو بالقبول بالحد الأدنى ب "50%" من بنود ما يسمى "الإصلاح القضائي"، بمعنى أنه يبحث عن إنقلاب تدريجي بموافقة "المعارضة"، ويبحث عن نصف "ديمقراطية" ونصف "ديكتاتورية"، واساس ذلك هو تجريد محكمة العدل العليا من كثير من صلاحياتها وفق القانون السابق وتعيين القضاة.
على ضوء ذلك، ما هي السيناريوهات الممكنة لحل الأزمة العميقة في دولة إسرائيل، وبما يؤدي لمنع تدهور الأمور لتصل إلى تفكك الدولة من الداخل نتيجة للحراك الذي غير المسبوق والذي يُمثل شرائح كبيرة في المجتمع لا يمكن أن تتعايش بالمُطلق مع دولة "الهلاخاة" التي بدأت تتشكل بطرح مفهوم "الإصلاح القضائي".
السيناريو الأول
إستمرار حكومة "نتنياهو" "سموتريطش" "بن غفير"
بمعنى بقاء التناقضات كما هي وصولا لمرحلة العنف المسيطر عليه وإحداث إنقلاب نوعي في جهاز القضاء بما يعزز دور السلطة التنفيذية ليكون لديها اليد العليا على بقية السلطات خاصة أنها منبثقة عن السلطة التشريعية التي تهيمن عليها بالأغلبية، وهذا سيؤسس تدريجيا لسن قوانين نافذة تؤدي لإنهاء السلطة "الإشكنازية" المتمثلة في "الدولة العميقة" وتحقق خطة "الحسم" التي طرحها الوزير "سموتريطش" بما يخص الضفة الغربية والقدس، ضم "الضفة" تدريجيا وحسم تهويد "القدس"، بحيث يصبح لدينا دولتين، دولة "إسرائيل" اليهودية الدينية، ودولة "السامرة" الإبارتهيدية العنصرية بقيادة المستوطنين، كمقدمة لِ "كونفدرالية" مع الدولة المركزية "إسرائيل". هذا سيناريو ممكن نتيجة لطبيعة الحكومة القائمة لكن مُعضلته أنه سيؤسس لتناقضات داخلية وهِجرات معاكسة بحيث لا يبقى في دولة "الكيان" سوى المتشددين والشوفينين والقومين العنصرين والمتطرفين والمستوطنين والفقراء والضعفاء، وفي نفس اللحظة سيؤسس لصراع خارجي ديني بين المسلمين ويهود الكيان الجديد.
السيناريو الثاني
تجميد وتغير حكومي
يقوم على إفتراض أن يتم التوافق مع جزء من المعارضة على تحصين "نتنياهو" من أي محاكمة من خلال إسقاط التهم الموجهة ضده، وتشكيل حكومة جديدة من الليكود والمعسكر الوطني والأحزاب الحريدية وحزب منصور "عباس". هذا السيناريو ممكن لأنه يحظى بدعم "أمريكي" وقابل للتنفيذ في لحظة ما ولكن مُعضلة هذا السيناريو تتمثل في حل مشكلة "آرييه درعي" وفي إقناع عضوي الكنيست الليكوديان، وزير العدل "يريف ليفين" ورئيس لجنة الدستور "روتمان"، ويرافق ذلك تشكيل لجنة من المعارضة والإئتلاف الجديد للحكومة لدراسة التعديلات على القوانين وبالذات بما يتعلق بالسلك القضائي ومحكمة العدل العليا. هذا السيناريو حتى الآن غير ممكن بسبب عدم حصول "نتنياهو" على ضمانات وتطمينات رسمية ونهائية بما يخص ملفات الفساد التي تلاحقه من جهة، ومن جهة أخرى لا يزال حزب "المعسكر الوطني" يريد تحديد مهلة محددة لإعتزال "نتنياهو" للحياة السياسية ليكون ذلك مبررا للموافقة وتشكيل حكومة جديدة وتحت مسمى حكومة "الإنقاذ".
السيناريو الثالث
خلق أزمة أمنية كبرى توازي في قوتها وحجمها الأزمة الداخلية
هذا السيناريو مطروح على الطاولة لدى المؤسسة الأمنية والعسكرية لأنها ترى أن نقل الحريق الداخلي إلى لهيب خارجي سيؤدي لتوحيد المجتمع ووضع الجميع في بوتقة الخطر المحدق الواقف على بوابة كل بيت في داخل "الدولة"، ونرى تجليات ذلك في التركيز الإعلامي على المخاطر الأمنية، فجبهة "الضفة الغربية والقدس" تغلي وفاعلة وخطرها لحظي، وجبهة "غزة" ستصل لدرجة الغليان خلال شهر "رمضان"، وجبهة الشمال أشعلت نار التسخين التدريجي وجاهزة لأن ترفع درجة الحرارة لتصل لمرحلة الغليان، والحديث الصهيوني الإعلامي حول ما أسموه حدث "الشمال" كان البداية، إضافة للتحريض اليومي بأن من يقف خلف غليان "نابلس" و "جنين" و "الذئاب" المنفردة تسليحا ومالا هو محور "المقاومة"، وبالذات من الساحة اللبنانية.
هذا السيناريو واقعي وممكن ويندرج في خطة قد تكون مرتبطة بما يخطط له الأمريكان للمنطقة ككل، بمعنى سيناريو الدحرجة في الحرب مع الجبهات، أي أن تكون هناك حرب مع جبهة "الجنوب" لتصل بعد ذلك لجبهة "الشمال" ولو لعدة ايام وبما يحقق لاحقا توافقات داخلية في دولة "إسرائيل" ويؤدي لهدنة طويلة مع جبهة "غزة" وتبادل أسرى وخطة للحكم والسلطة في مناطق السلطة الفلسطينية.
مُعضلة هذا السيناريو أن السيطرة والتحكم بالإشتباك المخطط له قد ينفجر إقليميا ويصل لدرجة الإشتباك مع "إيران" من جهة، ومن جهة أخرى قد يصل لمرحلة الإستنزاف وليس لمرحلة "الهدنة"، لكن هذا السيناريو هو المفضل لدى الجهاز الأمني والعسكري في الدولة الصهيونية لمنع تصاعد الحرائق الداخلية التي لهيبها يهدد الدولة ككل، فتهديد أمني كبير سيؤدي لحكومة وحدة وطنية ووقف كل الإجراءات الخلافية، ف "الجيش" له "دولة" تقف خلفه، ودولة "إسرائيل" هي كذلك "جيش له دولة".
السيناريو الرابع
إنقلاب عسكري
يقوم الجيش والمؤسسة الأمنية بالسيطرة على مفاصل الدولة ويقودها لمرحلة إنتقالية وبعدها تجري إنتخابات جديدة لحكومة مدنية وفق توافق على اصلاحات مسبقة توافقية. مُعضلة ذلك أن هذا سيناريو غير ممكن وغير واقعي، ف "دولة إسرائيل" ومهما كانت طبيعتها لا تزال قيمها غربية خاصة أن المؤسسة الأمنية والعسكرية يتحكم فيها النخب ذوي الميول الليبرالية الغربية ذي التوجهات اليهودية العنصرية ضد الفلسطيني، وهي لن تصل في تفكيرها لهكذا السيناريو.
الخلاصة
أعتقد أن التناقضات الداخلية سوف تستمر، والصراع الداخلي سيتطور نحو بعضا من العنف، ولن تحدث حرب أهلية لأن عادة من يحدث ذلك عادة هو اليمين المتطرف القومي الشوفيني والأحزاب الدينية، وفي دولة "إسرائيل"، اليمين الديني في الحكم وليس بحاجة لحرب أهلية، والديني "الحريدي" ليس في جوهره وايديولوجيته مفهوم "العنف" وفقط يدافع عن شريعته إذا ما تم المس بمجتمعه الحريدي وتقاليده المتوافق عليها منذ تأسيس هذا الدولة، لذلك فالمرجح إما سيناريو تحصين "نتنياهو" وحكومة جديدة وهو سيناريو ضعيف بعض الشيء بإعتبار أن هذه المرة الأولى الذي يحدث فيها أن يحصل اليمين اليهودي "النقي" على أغلبية في الكنيست ويريد إستغلال ذلك لأبعد درجات الحدود خاصة بما يتعلق بصلاحيات القضاة ومحكمة العدل العليا، ويبقى سيناريو خلق أزمة أمنية كبرى توازي في حدتها وحجمها الحدث الداخلي، وهو كما يبدو ممكن وقابل للحدوث رغم أن "نتنياهو" لا يريده ويعمل على عدم حدوثه، لكن المؤسسة الأمنية والعسكرية لن تعدم وسيلة وتسطيع توريط "نتنياهو" متى أرادت، وتكفي عملية "إغتيال" لتكون الشرارة التي ستجر المنطقة لأزمة أمنية كبرى سيعاني منها الجميع بما فيها دولة "إسرائيل" أو إفتعال حدث ما في الأماكن المقدسة في "القدس" وبالذات في "الأقصى"،وهي بذلك ستحمي البيت من التفكك وتطفيء نيران الحريق الداخلي، ولا غضاضةً من بعضاً من التدمير والقتلى ثمناً لذلك.
حكومة الفاسدين والمرتشين والإرهابين خياراتها الإستمرار في برنامجها المرتبط بشكل عضوي ب "الإصلاح القضائي"، وهي لن تتنازل طواعية عن ذلك مهما قام الوسط واليسار واليمين التقليدي اليهودي من مظاهرات وإحتجاجات، لأن هذه الحكومة أساسها إرهابي فاسد وليس لديه إلا هذا الخيار ليبقى ويتمدد لاحقا، ولن يوقفه شيء إلا بنقل المعركة من داخل هذا الكيان إلى خارجه، وكما يبدو لا مجال للإنقاذ سوى أن يتم التأكيد على أن طبيعة هذا الكيان هو "جيش له دولة"، وبالمعنى العسكري والأمني، من سيفرض المعادلة الجديدة ويحمي الدولة من صراع النخب الذي يهددها كمضمون أولا وكشكل لاحقا، هو عمادها وعمودها ومركزها "الجيش".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت