- د. أسامه الفرا
أراد النظام الحاكم في إحدى الدول العربية أن يبدو بمظهر الدولة الديمقراطية، ولأهمية الحياة البرلمانية بإعتبارها مكوناً رئيسياً في الصورة المطلوبة، كلف إحدى الشركات الأجنبية الذائعة الصيت في مجال تشييد المباني بتصميم وتنفيذ مبنى البرلمان على أن يضاهي إن لم يتفوق من حيث العمارة نظيره في الدول صاحبة التاريخ الطويل والمميز في نظامها البرلماني، وحرص على أن تتوسطه قبة لا تقل شأناً عن قبة الرايخستاغ، لم يكن يعنيه تدرج وظيفة القبة منذ نشأتها الأولى زمن الرومان على قبر زعيمهم، ولا إلى رمزيتها الروحية حين إنتقلت إلى الكنائس بإعتبارها عين الإله الساهرة، ولا إلى ما ترمز له روحياً في المساجد بما تشير له من الداخل إلى قبة السماء العالية، ومؤكد إنه لم يقصد بها أن يذكر الجالسين تحتها بقبة مسجد الصخرة، ولم تكن تعنيه وظيفتها المعمارية ولا تلك المتعلقة بتضخيم الصوت بين جنباتها، ولم يلتفت إلى أن القبة باتت تعلو المسارح والعديد من المرافق العامة والخاصة، بل أن الأضرحة ذاتها حظيت بقباب سواء ضمت تحتها شيخاً جليلاً أم شيخاً عبيطاً يتبارك الناس به، كل ما يعني النظام في أمرها أنها تضفي الضخامة والهيبة على المبنى.
المهم أن النظام الحاكم صرف مبالغ طائلة كي يخرج المبنى كتحفة معمارية يشار لها بالبنان، وتم تزويده بنظام تصويت إلكتروني بما يتماشى مع متطلبات العصر غاية في الدقة، وقبل تسليم المشروع من قبل الشركة المنفذة طلب ممثل النظام الحاكم من المهندس المشرف أن يكون داخل غرفة التحكم ما يسمح لهم بالتحكم بنتيجة التصويت الالكتروني، تنفيذ ذلك من الناحية التقنية لم يتطلب الكثير من الجهد، لكن الشيء الذي بقي عصياً على فهم المهندس المشرف هو ما حاجة النظام لمجلس نواب إن كانت نتيجة التصويت يتم التحكم بها من قبل موظف صغير في غرفة التحكم؟، وما حاجة الدولة لهذا الصرح إن كانت أصوات نوابه يتم التلاعب بها بكبسة زر؟، وكيف يمكن لهذا النظام أن يفهم أن الحياة النيابية تتعلق بما يسنه النواب من قوانين يتم التقيد بها وبدوره في الرقابة والمحاسبة وليس في مبنى أصم حتى وإن حمل ملامح القلعة.
تناول إبن خلدون العمارة في مقدمته ورصد من خلالها تطور سلوك المجتمع ونظام الحكم، حيث تطور مجتمع ما لا يتعلق بتطور المنشآت والمباني بقدر ما يتعلق بتطور سلوك المجتمع ذاته وتثبيت عمل مؤسساته ونظام الحكم فيه على قواعد من القوانين والأنظمة الفاعلة التي تحدد الحقوق والواجبات، ومنذ نشأة السلطة الفلسطينية ونحن نحاول أن نقنع العالم بأن لدينا مؤسسات كاملة النضج بإستطاعتها أن تدير دولة، والحقيقة أننا بحاجة لأن نقنع أنفسنا بما لدينا من مؤسسات نعزز من خلالها إنتماء المواطن لعملها كي نرسخ من خلال ذلك الإنتماء والولاء للوطن، فما معنى أن يكون لدينا مباني مدارس حديثة النشأة ولدينا نظام تعليمي عفا عليه الزمن وشرب، وما معنى أن يكون لدينا مشافي ضخمة وما زال المريض لدينا يلهث خلف تحويلة علاج بالخارج، وما معنى أن يكون لدينا أجهزة أمن بمسمياتها المختلفة في الوقت الذي لا يشعر فيه المواطن بالأمن والأمان، وما قيمة أن لدينا مبنى للمجلس التشريعي في رام الله آخر في غزة والمجلس التشريعي لا وجود له.
كيف يمكن للمواطن أن يقتنع بأن لدينا سلطات ثلاث ولا يلمس سوى السلطة التنفيذية التي تمسك بكل شيء، ما الذي يمكن أن يدفع المواطن لأن يثق بالسلطة القضائية وأن يحتزم القانون والنظام وهو يرى أمام عينه كيف يتم لي عنق القانون وتفصيله حسب رغبة السلطان، لا يمكن لنا تجاهل ما لدينا من هيكل متكامل للسلطة القضائية بمسمياته المختلفة، لكن هل لدينا قضاء مستقل وفاعل؟، كيف يمكن أن نحترم القضاء وهو يلتحف بعباءة السلطان، وكيف أنه يبقى عاجزاً عن تنفيذ أحكامه إن هي تعارضت مع رغبة السلطان، فما معنى أن تبقى أحكاماً صادرة عن المحكمة العليا طي الأدراج ولا يجرؤ أحد على وضعها قيد التنفيذ.
تطور المجتمع لا يتعلق بما لديه من منشآت ولا يرتبط بعدد مسميات هيكله الوظيفي المدني والأمني، ولا بعدد المؤسسات التي تحكمه طالما أنه يغيب عنها مفهوم العمل المؤسساتي، وحالة النهوض بالمجتمع تبدأ بحيادية القانون والنظام وإحترامهما من قبل الكبير قبل الصغير والمسؤول قبل المواطن، ودون أن يتبنى المجتمع قاعدة لا طاعة في مخالفة القانون سيبقى محلك سر إن لم يكن للخلف در.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت