"السكلانص": فراغ الخطاب النقدي الفلسطيني يمتلئ بنجومية صفراء

الفلسطيني وليد النجار والشهير بالسكلانص (الصورة من وسائل التواصل).jpg

يُضمّن الفلسطيني وليد النجار، والشهير بالسكلانص (65 عاما) كل فيديوهاته عبارة: "التموا.. التموا" (أي تجمعوا.. تجمعوا..) بحيث تبدو كلازمة كلامية ومرئية إلى جانب ضحكته "المغالية جدا" في التمثيل بالانفعال بالسعادة، وكذلك باستعراض ألوان جرابات قدميه.

ويعرف الفلسطينيون "السكلانص" منذ سنوات.. يذهبون إلى صفحته على فيسبوك حتى لو لم يفعّلوا زر الاعجاب بها.. يتابعون منشوراته ويرصدون التعليقات عليها.. يحقق لهم فعل اللمة الصغيرة التي يسمعون منها ما يقال في الشوارع الخلفية لمؤسسات السلطة الفلسطينية في رام الله من إشاعات ومؤامرات واتهامات وفبركات وبكلمات نابية، يشتمونه في سرهم وعلانيتهم ويضحكون طويلا، ويشتمون من تحدث عنهم أيضا، ليتضاعف تاريخ طويل من الغضب والحقد والكره، ليبدو لنا أننا أمام ظاهرة تسمى بـ"فش الغل/ الخلق" للفلسطينيين أينما كانوا. ففيديوهاته لا تزود المتابعين بمعلومات موثقة أو وثائق أو حقائق ثابتة، إنما أقاويل وأحاديث نميمة واتهامات وإشاعات وأنصاف حقائق.

ومن يزر صفحته يجد أنها متابعة بشكل جيد من فلسطينيين يتخذون موقفا معارضا للسلطة وسياساتها، سواء أكانوا يعيشون في فلسطين المحتلة أو في الأردن ولبنان وسوريا، حيث تعيش مجموعات اللاجئين هناك في ظروف صعبة وقاهرة ويشعرون بأنهم منسيون من السياسة الفلسطينية.

وقبل أيام، أصبح السكلانص حديث الشارع مع زيارته الأخيرة إلى فلسطين المحتلة، حيث زار مدن الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، مثل يافا وحيفا والناصرة وعكا. ويوم أمس وصل القدس المحتلة، وهناك تحلق حوله العشرات من الشبان والفتية، وأخذوا معه الصور، وعلى هذ المستوى كان يمكن للأمر أن يمر بشكل اعتيادي، لكن زيارته للمسجد الأقصى، وقيام مجموعة من الشبان بطرده ضاعف من حضوره وزاد من الضجة حوله.

وعاد كما كان قبل أعوام حيث كان حديث الشارع الفلسطيني، وفي أحيان معينة كان حديثا للنخب السياسية وموظفي المؤسسات الحكومية تحديدا، إلى جانب أنه كان ضمن دائرة اهتمام المهمتين والمشتغلين بالظاهرة الإعلامية ودارسي المنصات الرقمية، حيث ارتبط المحتوى الذي يقدمه في ضوء شهرته بجوانب كثيرة مثل: دراسة الإشاعة والدعاية السياسية، والتشهير وانتهاك الخصوصية…الخ.

حسب الباحث والكاتب الفلسطيني وائل عواد فإنه وحتى وإن كان "السكلانص" ظاهِرة "تفِش غُل" البَعض في اتجاه البَعض الآخر في مواقف معيّنة بكلماته النابية، فإن هذا لا يُلغي كونه ظاهرة غير حضارية، بذيئة وتُثير الاشمئزاز.

وأضاف: "الصراحة، لقَد صُدِمت من استقبال البَعض لهُ "بحفاوة" خلال تجوالهُ من بَلَد إلى بَلد في الداخِل خلال الأيام الخمسة الأخيرة، ومنهُم مثلا وللأسف، رئيس بلدية الطيبة شُعاع منصور في بيتِهِ، الذي بدا يضحك بابتسامة عريضة، سعيدًا إلى جانبه وهو ويقول "التموا التموا" وَيرفَع قدمه مظهرًا جواربه الملونة، وكأنَ هذا أمر ظريف أو مضحك أو فيه رسالة ما".

وشدد عواد على أنه كم هو سيىء عندما تنظُر لشعب يتصرَف بطريقة غير مفهومة، لا يأخُذ موقفًا حتى في المكان الذي من السهل أن يأخُذ موقفًا فيه، كيفَ يُمكن لنفس هذا الشعب أن يأخذ موقفًا عندما يكون في حاجة إلى "دفع ثمن".

ووفقا لعواد فإن ما أثار الجدل هو زيارته للمسجد الأقصى حيث حظي بحفاوة من البعض، فيما قام بعض الشبان بطرده من ساحات الأقصى، وعلى ذلك يعلق عواد "اليوم، وقَفَ "السكلانص" في المسجِد الأقصى المبارِك، وبدأ يصرخ بعبارتِهِ "التموا التموا" ويُظهر جواربه.. ولما اعتَرَضَ عليه أحد الشُبان، لَم يحتَرِم "سكلانص" المكان، وأخذ يُشوّح بإصبعهُ الأوسط بكل وقاحة وعدم اكتراث للمسجد، فقامَ الشُبان المقدسيون بطردِه.. إنَ الأقصى الشريف ليس لاستعراضات بهذا الُمستوى".
ويختم قائلا: "على الأقَل، كانَ مشهدًا جيدًا بعدَ جولة بدا فيها الشخص السفيه شخصية "مطلوبة" عند البَعض، الذينَ اختَلَطَت عليهم الأمور، بين المستوى الهابط وبينَ التعبير عَما يجول في داخلِنا".

مدخلان لفهم الظاهرة

أما الباحث الإعلامي معز كراجه فيرى أن تناول "ظاهرة السكلانص" يمكن أن يتم من خلال مدخلين أو نقطتين، الأولى: تتعلق بأزمة الخطاب السياسي والوطني النقدي للحالة الفلسطينية وللظرف الذي يعيشه الفلسطيني. فالسائد هو خطاب نخبوي غير مباشر وغير جريء كفاية ويستخدم لغة رمادية لا تعبر عن غضب الفلسطيني مما يعيش، وخاصة إذا تحدثنا على مستوى الإعلام والكتاب والمحللين، و"هو ما خلق حالة من الفراغ. وللأسف فراغ يمكن أن يمتلئ بكل شيء".

أما النقطة الثانية فتتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي التي تساهم بخلق "نجومية" يمكن تسميتها بالنجومية الصفراء على نمط "الصحافة الصفراء" فكل شخص قادر على طرح ما هو غريب ومثير "للضجة" ويصلح لـ "الفرجة" كما يقال بالعامية الفلسطينية، يصبح له متابعون.
ويشدد على "أنه وللأسف كثرة المتابعين التي غالبا هدفهم "الفرجة" والتسلية ومتابعة المثير، تحول شخص ما الى نجم. النجومية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي تقوم على الشكل وليس على المضمون والمحتوى الجيد" "إنها نجومية لا تستمر ولا تتمتع بالاحترام بالضرورة".

ويضيف الباحث كراجة جانبا من النقاش، حيث يشدد على أننا أمام مسألة مركبة بعض الشيء، بحيث تبدو كأنها متناقضة، نتحدث عن نجم وفي الوقت نفسه لا يتمتع باحترام المتابعين أو جزء كبير منهم.

ويرى أن تفسير هذا التناقض يعود للأساس الذي خلق هذه النجومية وهو "الشكل المثير والغريب" ودوافع الناس للتسلية والفرجة والتفريغ، أكثر مما هي نجومية مبنية على محتوى أو مضمون جيد.

وشدد كراجة أنه لا يجب الاستهانة بهذه الظاهرة "حيث أن توسعها واستمرارها سيخلق في النهاية حالة قائمة بذاتها وقد تعمق هذا النمط الفارغ من التعبير عن الرأي، وتترك أثرها على وعي وسلوك الناس".

مداعبة المخيلة الشعبوية

أما الباحث الإعلامي والأكاديمي في جامعة الخليل صلاح أبو الحسن فينظر إليها على أنها "ظاهرة وصلت إلى مستوى الإسفاف الموجود في الحالة الفلسطينية الراهنة، نحن نعيش في حالة انحدر فيها كل شيء وهي ظاهرة مرتبطة بالميديا التي توازيها".

ويرى أبو الحسن أن هذه الظاهرة ليست مفصولة أو معزولة عن سياق تاريخي طويل كانت تظهر فيه تجارب وشخصيات معروفة، ولكن بمستوى ثقافي متدن، كان "هناك شعراء وأدباء ومثقفون، في كل الحضارات وتجارب الشعوب، وكانت تسترزق من أعمال مماثلة كنا نجد صادها في أغان أو أشعار أو مسرحيات".

ويرى أبو الحسن أن "السكلانص" هو نسخة سيئة من الحقب السابقة، لكنها تعكس استثمارا كبيرا من سياسيي الوقت الفلسطيني الراهن الذين أصبحوا ينظروا للمؤثرين على أنهم حاجة ماسة ويمكن استثمارهم وتوظيفهم في الصراعات السياسية، حيث يمكنهم من خلالهم تمرير الرسائل التي يصعب تمريرها بطريقة تقليدية، ونرى اليوم مهاجمة الخصوم تأخذ أشكالا متنوعة وتكون على لسان نماذج من المؤثرين الذين يتمتعون بقدرة عالية على كيل الشتائم وبث الفضائح ونشر الشائعات من دون أن تترافق هذه الأمور بأي مقدار من المحاسبة. ورغم أن السكلانص يبدو "مؤثرا" ويعمل منفردا إلا أن أبو الحسن لا ينفي أن تكون هناك جهات سياسية تحركه، ليس بمعنى السيطرة عليه، إنما من خلال تزويده بمعلومات وتسريبات وأنصاف حقائق حول شخصيات فلسطينية رسمية، بحيث "تلتقي مصلحة الشهرة وتحقيق الإثارة مع مصلحة بعض السياسيين في فضح خصومهم والتهجم عليهم".

ويشدد على أن الملاحظة الأبرز هنا هي قدرة "السوشال ميديا وإمكانياتها العالية على الوصول الكبير، بحيث تتيح لأعداد كبيرة من الجماهير المشاهدة والبث وإعادة النشر، وكل ذلك يكون من خلال شهرة فردية، وبلا تمويل كبير، مع الوصول لقطاعات جماهيرية عريضة".

ويؤكد أبو الحسن أن الظاهرة "لا تتعلق "بالسكلانص" فقط، فهناك أشباه له في كل مكان، وفي أكثر من دولة وبأشكال متنوعة، ونقاط قوة هؤلاء أنهم يمتلكون القدرة على إيصال رسائل تداعب المخيلة الشعبية والشعبوية وصولا إلى استخدام مفردات مُسفة وألفاظ بذيئة".

ويختم مشيرا إلى أن متابعة جماهير فلسطينية عريضة لما ينشر على صفحة "السكلانص" تبدو متفهمة ومفهومة في الوقت ذاته، في ظل أن سياق حديثه في معظم الأحيان يكون معاديا للسلطة، حيث أن توجهات الشارع الفلسطيني باستثناء الفئة المستفيدة من واقع السلطة الحالي، تتماثل مع المضمون الذي يقدمه، "فرؤى الشارع الفلسطيني تعارض السلطة، وهو شارع لا يقدر على التعبير عن وجهات نظرة بتلك الطريقة التي يظهر بها "السكلانص" فتكون النتيجة أنه يكون بمثابة صدى أو غرفة ظل لهذا الشارع الغاضب والمحتقن في كثير من جوانب الحياة السياسية.

ويصف الدكتور محمود الدراويش ظاهرة السكلانص بأنها "غريبة اللغة، بل وممجوجة أحيانا ولا يقبلها الكثيرون بدعاوى عدة، لكن مضمونه صادق، وواضح تماما، وينسجم تماما مع المصلحة الوطنية، "فهو يعبر بدقة عما لا يستطيع الفلسطينيون قوله في الضفة الغربية".

ويشدد قائلا: "السكلانص لم ينهب ولم يسرق، ولم يتجسس ولم ينسق، ولم يوقع اتفاقات أوسلو ولم يسمسر ولم يقمع الفلسطينيين، ولم يفسد العقل والروح الفلسطينية…. فيما ثقافة الرجل وقاموسه اللغوي لا يتيحان له لغة أخرى، فهو يقول الحقيقة مباشرة بلا لف أو دوران، يقول الحقيقة بلغة من تستهدفهم تلك الحقيقة".

ويختم: "لغة السكلانص ينطبق عليها قول الفلسطينيين: هيك مزبطة بدها هيك ختم".

 

المصدر: كتب: سعيد أبو معلا - القدس العربي