القوة الناعمة السعودية - قوة لا ينبغي اسقطاها في حسابات مطبخ القرار

بقلم: رائد فوزي

Ra'ed Fawzi I. Ihmoud.jpg
  • بقلم: رائد فوزي احمود

باحث ومدير عام

معهد العالم الثالث للبحوث والدراسات

عمان-الاردن

[email protected]

عودة الى قوتها الناعمة، السعودية تنجح في اجتراح نهجا ثالثاً على المسرح الدولي بالشراكة مع أطراف دولية فاعلة كالهند بعيدا عن حالة الاستقطاب الدولي.

لم تنجح المملكة العربية السعودية في خلخلة المعادلات الإقليمية القائمة منذ عقد من السنوات والتي انعكست في تراجع قيمة المنطقة في الاستراتيجية الدولية لصالح مناطق دولية أخرى بدأت أكثر اهتماما في معادلات ومصالح دول كبيرة كالمنطقة الاسيوية فحسب، بل نجحت في إعادة الاهتمام بالمنطقة العربية والخليجية على وجه الخصوص عبر إعادة التموضع في قضايا إقليمية ودولية، ما أعاد الانتباه من جديد الى دورها على صعيد الإقليم بالدرجة الأولى، وعلى الصعيد الدولي بصورة عامة.

وان كان الاتفاق السعودي الإيراني الأخير برعاية صينية كان قد اكسب السعودية دورا جعلها تعيد دائرة الضوء لها ولمصالحها، الا ان عودتها الى الاستثمار في قوتها الناعمة وسط بيئة إقليمية ودولية شديدة التوتر ناهيك عن حجم الاثار السلبية التي نتجت خلال وفي اعقاب ازمة كورونا، تسمح لها من جديد الى كسب نقاط لصالح سياستها وعلاقاتها الدولية وخصوصا مع أطراف دولية، كالهند والصين؛ هذه الأطراف التي ترى ان الوقت قد حان الى رسم منهج ثالث في العلاقات الدولية، وترى أهمية الانفكاك عن حالة الاستقطاب على المسرح الدولي القائم الان في اعقاب الحرب الجارية في أوروبا، والتي قسمت العالم، او هكذا يراد، الى فسطاطين يراد من هذه الدول الانحياز الى احداهما في محاولة لإعادة ذات السياسات التي طبعت العالم في اعقاب الحرب العالمية الثانية والدخول من جديد الى ذات الدوامة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. 

السعودية التي أدركت سريعا أهمية قوتها الناعمة سواء في مساعداتها الإنسانية او على صعيد دورها الديني الذي أهلها لعقود طويلة الى كسب احترام دول إسلامية وأخرى من خارج الإطار الإسلامي، وجدت سريعا ان الابتعاد عن هذه القوة سيجعلها تخسر قوة كبيرة لا يمكن الاستهانة بها، وهي القوة التي طالما حافظت من خلالها على ولاء محور من الدول التي ترى في السعودية بمثابة الشريك الأكثر وثوقا والذي يقتضي احترامه وتقدير مصالحه لما يمكن ان يلعبه في شؤونها وشؤون غيرها لحجم التأثير الذي تملكه.

ومع اشتعال الحرب في السودان، والدور الذي لعبته السعودية في اخلاء الالاف الأجانب من هذا البلد الذي أمسى قاب قوسين او أدنى من حرب أهلية، اكسبها رصيدا دوليا سيؤهلها فيما بعد الى لعب دورا في الوساطة ليس فقط في السودان بل وفي ملفات دولية وإقليمية أخرى.

بالإضافة الى نشاطها الحثيث نحو البحث عن مخرج للازمة التي عصفت بهذا البلد العربي الافريقي المهم عبر تدشين وساطات بصورة فردية او جماعية بالشراكة مع الأطراف الفاعلة في المشهد السوداني من قبيل الولايات المتحدة، نجحت السعودية بتصدر الدول على مستوى العالم في تقديم صورة إنسانية مهمة نظير دورها في اجلاء رعايا مختلف الدول بغض النظر عن جنسيات الرعايا الذين جرى إخلائهم، الامر الذي رفع من رصيدها شعبيا ودوليا وعلى المستوى الانساني، وهي حفاوة يستحقها السعوديين بل وليست غريبة على دولة محورية في المنطقة طالما كان لها مبادراتها الإنسانية في اغلب مناطق العالم.

وليس بعيدا عن الحالة السودانية، الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا في الخامس من شباط الماضي؛ حيث نشطت دول المنطقة ومنها الرياض في تسيير عمليات انقاد ومساعدة لازالت مستمرة حتى الان رغم انقضاء كل ذلك الوقت.

وما اثار الاهتمام في سياق عملية الاخلاء غير المسبوقة التي نجحت السلطات السعودية في تقديمها لرعايا الدول الأجنبية والعربية والمسلمة، هي نجاحها في التعامل مع مختلف الجنسيات التي وصلت الى ما يقارب من 65 جنسية اجنبية وشملت اخلاء الالاف الرعايا الأجانب الذين توافدوا على منطقة بورتسودان البحرية؛ أي انها استوعبت سريعا وبدون محاذير وقيود مسبقة كل من تواجد في المنطقة من جهة، ونجحت في التعامل مع هذا العدد الكبير من الرعايا من مختلف الجنسيات ومن مختلف اللغات؛ حيث ظهر خلال عمليات الاستقبال في جدة ومعابر السعودية الأخرى وخصوصا الجوية، سعوديين يتعاملون بحرفية عالية مع القادمين وعبر مختلف اللغات بحيث وفروا بالإضافة الى الاحتياجات الإنسانية والشخصية وفروا أيضا المعالجة النفسية لهم خصوصا انهم قادمين من بيئة حرب لم يألفوها سابقا، ما يجعل توفير الخدمات والرعاية الصحية النفسية، بالإضافة الى الطبية، امرا مهما يقتضي الانتباه له وهو ما انتبهت له السلطات في الرياض واتجهت الى استغلال خبرتها الطويلة في السياق.

حجم الثناء والاستقبال بغض النظر عن الجنسية والعرق، كان واضحا في طريقة الاستقبال التي جعلت كثيرون يشعرون بوجود جهة قريبة منهم بغض النظر عن طبيعة العلاقات الدولية والثنائية بين قياداته؛ ولعل صور استقبال بعض المسؤولين السعوديين ومسؤولي الاخلاء السعوديين لمواطنين إيرانيين انعكس إيجابيا على الـ 65 إيرانيّاً الذين جرى إجلاؤهم من السودان على متن سفينة سعوديّة.

وفي مقطع فيديو مُتداول بثّته قناة “الإخباريّة” السعوديّة، قال أحد الرعايا الإيرانيين: “لساني يعجز عن وصف كرم الضيافة، والتسهيلات حوّلت عمليات الإجلاء لرحلة ممتعة”، الاهتمام الإعلامي في نقل الرعايا الإيرانيين لم ينحصر عليهم بل شمل رعايا كل الدول التي وصلت جدة ومعابر السعودية الأخرى.

نجاح السعودية وحجم الثناء الذي حصلت عليه من مختلف الدول من قبيل الهند وإيران وغيرها ورعايا دول اسيوية واوربية يعود الى حجم الخبرة التي تولدت من نجاح السعودية المستمر في التعامل مع ضيوف الرحمن الذين يتوافدون سنويا وطوال العالم على بيت الله الحرام سواء لإداء موسم العمرة او الحج، ما جعلهم مؤهلين في التعامل مع مختلف الجنسيات ومع مختلف اللغات.

كان واضحا خلال مرحلة الحرب الأوكرانية بان السعودية بدأت تتجه الى سلوك مغاير في علاقاتها الدولية؛ حيث ابتعدت عن ان تكون جزء من سياسة المحاور التي طبعت مرحلة الحرب الباردة والتي شكلت حالة قلق واستياء من جانب مختلف الدول الصغيرة التي وقعت ضحية سياسة الكتلتين المتنافستين آنذاك، وهي السياسات التي حكمت العلاقات الدولية عقب مرحلة الحرب العالمية الثانية والتي استمرت الى بداية التسعينات من القرن الماضي؛ هذا النهج تنبهت له بعض الدول الاخرى من قبيل السعودية والصين والهند وايران، التي تشعر بحجم المسؤولية من التورط بقطبية متفردة تمثلها الولايات المتحدة والمجموعة الغربية، او ان تكون طرفا في قطبية جديدة تطمح لكسر هيمنة القطب الواحد تمثلها روسيا والمجموعة الشرقية.

المشاركة السعودية في بناء نهجا حياديا في العلاقات الدولية عن الكتلتين بالتعاون مع أطراف دولية فاعلة كالهند سيكون له دلالاته المهمة على مختلف الملفات الدولية والاقليمية كالقضية الفلسطينية.

على أهمية الدلالات السياسية التي يعكسها الاتفاق الأخير بين إيران والسعودية، برعاية صينية الا ان الاتفاق لم يكن جزء اصيل من حفاوة الاستقبال او سببا له، الا انها في الرؤية السعودية خطوة مهمة تمهد نحو تطوير محور جديد في العلاقات الدولية بعيدا، من جهة، عن القطبية الأحادية التي تمثلها قوة واحدة، وبعيدة عن محاولات كسر القطبية الجارية من طرف قوة أخرى، تسعى الى جر العالم الى مواجهة لن يكون للدول الصغيرة ناقة فيها او جمل فيما لو اختارت الانسياق وراء احد هاتين المجموعتين، ويكون أساسه العودة من جديد الى الدائرة الإنسانية التي غابت طويلا في رؤية عدد كبير من الدول والكتل والمجموعات على مسرح العلاقات الدولية حيث حكمت سياسات المصالح والقوة المسرح الدولي لعقود طويلة، ما قاد العالم الى الاقتراب أكثر من أي وقت الى حافة الهاوية. 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت