مع عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، انعقدت القمة العربية في مدينة جدة السعودية يوم الجمعة، حيث شدد القادة العرب على تعزيز العمل العربي المشترك المبني على الأسس والقيم والمصالح المشتركة والمصير الواحد، ووقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية.
وقال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، في كلمة أمام القمة أمس (الجمعة)، إن المشهد الدولي يمر بواحدة من أشد الفترات خطورة في التاريخ المعاصر.. ليس أمام الدول العربية في هذه المرحلة التاريخية العصيبة سوى أن تستمسك بالمصالح العربية معيارا أساسيا للمواقف الدولية... وأن تلتزم بالتنسيق فيما بينها وبالعمل الجماعي سبيلا أكيدا لتعزيز الكتلة العربية في مواجهة ضغوط الاستقطاب.
ووفق خبراء عرب وصينيين فإن قمة جدة ركزت على توجه عربي أكثر تضامنا واستقلالا في التعامل مع الملفات العالقة الملحة في المنطقة، بما في ذلك الصراع في السودان والأزمات في كل من سوريا واليمن وغيرها، بجانب القضية الفلسطينية.
وفي الوقت نفسه، تدل التطورات الإيجابية الجديدة في الشرق الأوسط، ومن أبرزها على سبيل المثال عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وتيار المصالحة الممتد بين الدول الإقليمية على إبعاد ظلال الهيمنة الأمريكية عن المنطقة نسبيا، بحسب الخبراء.
ــ توجه عربي أكثر تضامنا واستقلالا
وقال الأمين العام لمركز ((الفارابي)) للدراسات السياسية مختار غباشي لوكالة أنباء ((شينخوا)) إن قمة جدة أكدت أن الدول العربية تعتزم حل قضاياها بنفسها.
وأوضح غباشي أن إشكالية العالم العربي هي أن قضاياه بأيدي قوى إقليمية ودولية تتحكم فيها، فلم تحل هذه القضايا ولم تخرج منها. لذا من المهم والضروري أن تكون هناك معالجة موضوعية لهذه الملفات تحت غطاء جامعة الدول العربية.
بدوره، قال تشن جيه الأستاذ في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة صون يات-صن إن توجه العالم العربي الاستراتيجي له قوة دافعة داخلية هائلة.
وتابع في سياق توضيحه لأسباب هذا التوجه العربي، أنه منذ فترة طويلة كانت منطقة الشرق الأوسط ساحة معركة للقوى الخارجية، ومع عقود من استمرار الصراعات والنزاعات يتآكل الصبر الاستراتيجي لجميع الأطراف بشكل كبير، كما أثبت التاريخ أن التقليد الأعمى للتحديث الغربي النمط لا يوافق الظروف الوطنية العربية.
وأضاف تشن أنه من جانب آخر يعتبر الصراع الروسي ــ الأوكراني بمثابة "جرعة توعية" تجعل دول العالم تدرك أن الاضطرابات والصراع ليسا في مصلحة أي طرف، وأن الأمن المشترك والتعاون السلمي فقط يمكنهما تحقيق الرخاء المشترك.
من جانبه، قال الأكاديمي التونسي كمال بن يونس إن الدول العربية تعمل على المضي قدما في سياسات جديدة تخدم مصالحها أكثر مما تخدم أجندات الدول الأجنبية رغم أن ميزان القوى الدولي والإقليمي الحالي لا يسمح بهامش حرية كبير للحكومات العربية.
وفي ختام أعمال الدورة العادية الثانية والثلاثين لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة، شدد القادة العرب في ((إعلان جدة)) على وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية.
وبحسب الخبراء، فقد سلطت القمة الضوء على أن مواقف الدول العربية تجاه الكثير من القضايا الراهنة أصبحت تميل أكثر إلى نوع من الاستقلالية وتكييف مواقفها وفقا لمصالحها الوطنية.
ورأوا أنه مع عودة سوريا للجامعة العربية سيلعب العالم العربي دورا مستقلا واستراتيجيا في تقوية التضامن العربي والحفاظ على الأمن القومي العربي، بالإضافة إلى منع التدخلات الخارجية في القضايا الإقليمية.
ــ تراجع تدريجي لهيمنة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط
وقال الأمين العام لمركز ((الفارابي)) للدراسات السياسية إن هناك إرهاصات بأن أمريكا بدأت تفقد قوتها بشكل تدريجي في منطقة الشرق الأوسط، معتبرا أن الأمر متوقف على الجرأة العربية و"أتمنى أن يحدث ذلك"، على حد تعبيره.
ورأى الأكاديمي التونسي كمال بن يونس أن السعودية ودول الخليج تعمل على مزيد تنويع شركائها والحد من التبعية لواشنطن ولندن والحلف الأطلسي.
واستدرك قائلا "لكن أعتقد أنها لن تتمرد كليا على شركائها التقليديين بل ستحرص على انتقال ناعم في علاقاتها."
بدوره، رأى أستاذ القانون الدولي في جامعة دمشق بسام أبو عبدالله أن هناك عوامل ملل من السياسة الأمريكية التي تريد أن تستأثر وتضع كل الأوراق في جيبها لمصالحها دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول الأخرى، معتبرا أنها أصبحت مكشوفة وفضحت في أكثر من قضية، ومنها أزمتا اليمن وسوريا.
كما يعتقد عضو مجلس الشعب السوري محمد خير عكام أن السياسات الأمريكية في المنطقة ليست لها قاعدة شعبية، وأن مصالح شعوب المنطقة تستدعي أن يتخذ العرب سياسات أكثر استقلالية عن السياسات الأمريكية، مشددا على ما وصفه بـ"تراجع تدريجي للدور الأمريكي في المنطقة."
ويدل طلب بعض الدول العربية عضوية في مجموعة البريكس أو الحديث عن اتفاقيات ثنائية لاستخدام عملات غير الدولار الأمريكي في التجارة البينية على استبعاد وتقليص ظلال الهيمنة الأمريكية في المنطقة، وفق خبراء آخرين.
ــ نظرة إلى الشرق
ويرى مراقبون أن الصين بصفتها أكبر دولة نامية تتشارك التحديات مع الدول العربية خلال عملية التحديث في العصر الحديث، ما يوفر أرضية مشتركة في السعي إلى توسيع وتعميق العلاقات مع الشرق الأوسط على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة، مؤكدين انطلاق مسار التعاون بين الجانبين ولا رجعة فيه.
علاوة على ذلك، يقدر الخبراء السياسات الصينية الخارجية التي تساعد علي تحقيق توازن دولي وتعظيم القواسم المشتركة ومشاركة فرص التنمية، ويعربون عن تطلعات إلى أن تلعب الصين دورا أكبر في الملفات الإقليمية، مثل السودان وليبيا ولبنان وغيرها من خلال التنفيذ المشترك لمبادرة الحزام والطريق التي اقترحتها الصين قبل عشرة أعوام.
وقال الناطق الرسمي للتيار الشعبي بتونس محسن النابتي إن مشروع أمريكا في الشرق الأوسط هو مشروع خراب وفوضى، وقد دفعت المنطقة الثمن غاليا.
وتابع "اليوم تأتي الصين بطريق الحرير، ومن المؤكد هناك فرق نوعي بين الحرير الذي يمثل التنمية، والفوضى التي خلفتها الولايات المتحدة"، قائلا إن "أي عاقل سيختار الحرير على الفوضى."
وأكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة طارق فهمي أن الصين لعبت دورا مهما في استئناف العلاقات بين السعودية وإيران، وقدمت دبلوماسية هادئة وعاقلة في قضايا إقليمية ودولية، مما يعطي فرصا مناسبة ومهمة لكل الأطراف للعمل في اتجاهات متعددة.
بدوره، شدد مساعد وزير الخارجية الفلسطيني السابق مازن شامية على أن الصين تتعامل مع الأطراف الصغيرة والكبيرة بشكل أكثر انسجاما بناء على الاحترام المتبادل ومن خلال الإسهامات والمساعدات التي تقدمها لشركائها، معتبرا أن هناك اختلافا كبيرا في التعاطي والتعامل ما بين الصين والولايات المتحدة.
فمن المؤكد أن للصين دورا تقوم به تجاه السلم العالمي والتعاون الدولي وإنهاء الأحادية القطبية، الأمر الذي يعزز جهودها عبر المنصات متعددة الأطراف مثل مجموعة شانغهاي للتعاون لتوفير دفعة قوية تسهم في تعزيز التعاون الدولي والسلام القائم على المنافع المشتركة بين شعوب المنطقة والعالم، بحسب المحلل السياسي السوداني طارق الشيخ.
ولقد اتبعت الصين تجاه التاريخ العام وأسقطت أول قطعة "دومينو" ثقيلة لـ "تيار المصالحة" في الشرق الأوسط متمثلة في المصالحة بين السعودية وإيران، وفق تشن جيه.
وشدد تشن جيه على أن حق القرار في شؤون الدول العربية بيد شعوبها، مشيرا إلى أن نداء القادة العرب إلى التضامن خلال قمة جدة أثبت أن السياسات الصينية تجاه الشرق الأوسط المتمثلة في تعزيز الحوار من أجل إحلال السلام تتوافق مع خيار سكان المنطقة، قائلا "نسعي إلى التنمية المشتركة، ويلقي العرب نظرة إلى الشرق"، على حد تعبيره