واشنطن تستدرك معركة الجيش السوداني الكبرى وتقدم حبل انقاذ لقوات الدعم السريع لغاية الحفاظ على دورها في تشكيل السودان "الجديد"

بقلم: رائد فوزي

Ra'ed Fawzi I. Ihmoud.jpg

بقلم: رائد فوزي احمود

باحث ومدير عام

[email protected]

 

في تطور لافت، ظهر الرئيس السوداني عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للأركان المسلحة السودانية للمرة الثانية بعد اشتعال الاحداث مع الدعم السريع؛ حيث حرص على الظهور بين جنوده وبالبزة العسكرية مطلقا تهديدا جديدا للقوة المتمردة اذا لم تستجب الى صوت العقل وتعود الى حضن الشعب والقوات المسلحة؛ وهو الظهور الثاني له في حين غاب تماما الطرف الاخر للصراع، الفريق اول محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي الذي تحوم حوله شبهات كثيرة ترتبط بحياته او وضعه الصحي، بل ويثار الان شبهات عديدة ترتبط بقدرات تنظيمه المسلح في الاستمرار في العمليات القتالية الى وقت اطول.

ظهور البرهان الجديد يكشف عدد من الرسائل التي حاول تمريرها، وابرزها اشارته المستمرة الى الوضع الإنساني في البلاد بعد دخول القتال شهره الثاني مع عدم اتضاح افق للحسم من أي طرف؛ حيث ركز البرهان بكملته امام جنوده على الأوضاع المعيشية للمواطنين الذين اجبر ما يقارب من مليون شخص منهم على اللجوء لدول الجوار، وكشف البرهان، الذي تلقى جيشه تهديد جديد من جانب الدول الوسيطة، الولايات المتحدة والسعودية، لغاية الالتزام وإعادة التجديد للهدنه الأخيرة التي جرى اختراقها مرارا، كشف أن قواته المسلحة لم تستخدم ما وصفه بكامل قوتها المميتة وهي رسالة ملغمة تحمل رسالة مواربة بضرورة الاستعداد الى تحمل تكاليف اكبر في المرحلة المقبلة بشريا وماديا لطي صفة التمرد تماما.

حيث قامت الولايات المتحدة بعد التشاور مع شركائها في السعودية، كما صرح بذلك وزير الخارجية الأمريكي، انتوني بلينكن، بفرض عقوبات على شركات ومجموعات واشخاص مرتبطين بقوات الدعم السريع والجيش السوداني على حدا سواء.

وهو القرار الذي اعتبرته قيادة الجيش مساواة بين المعتدي والضحية باعتبار ان الاحداث التي تشهدها السودان منذ الخامس عشر من نيسان من العام الجاري انما هي جزء من توجهات الدعم السريع نحو الاستفراد بالحكم حيث قامت بداية بنقل قواتها، عبر سبق الإصرار والترصد، والانتشار في عمق المدن السودانية الاستراتيجية كالعاصمة قبل أسابيع من اشتعال الاحداث، وهو ما يمكن اعتباره فشل كبير للاستخبارات السودانية في متابعة مراقبة الحركات والتنظيمات المسلحة وهي التنظيمات التي يزخر فيها السودان منذ عقود طويلة.

العقوبات الامريكية يمكن القول بانها جاءت في الوقت الذي راجت عدد كبير من المعلومات حول نية السودان وجيشه الى شن حملة عسكرية واسعة تكسر ظهر القوات المتمردة، الدعم السريع، التي تنتشر بين الاحياء السكنية في العاصمة وتحظى بدعم وغطاء اجتماعي من العشائر والقبائل التي ينحدر منها عناصره في بعض مدن اقليم دارفور حيث شهدت ولادة قوة ونفوذ الجنرال حميدتي وقواته.

وهو ما يثار سؤال اذا ما كانت الولايات المتحدة تسعى الى الحفاظ على الطرفين في المعادلة السياسية المقبلة باي ثمن كان؛ حيث ان خسارة طرف سيعني بالضرورة تراجع بعض الخطط والسياسات الأمريكية المعدة للسودان للمرحلة المقبلة، ما يجعلها امام تحد مواجهة الطرف الأقوى في المعادلة، وهو هنا الجيش السوداني وقيادته، حيث اتهامات مواربة له باحتضانه قوى واجنحة من النظام السابق، سياسيا على الأقل، ناهيك عن وجود شريحة واسعة من الشعب السوداني لازال من مناصري النظام السوداني الذين يرفضون توجهات الحكومة المدنية ومعالم رؤيتها للسودان بعد الانقلاب على حكومة الإنقاذ في العام 2019، كما ان السودان المحافظ الذي يمر بمرحلة انتقالية شديدة الحساسية قد يقلب الأمور على الجميع اذا ما مس الانتقال الديمقراطي مبادئه وقيم مجتمعه؛ خصوصا انه وقف مترددا ولم يتخذ موقفا إزاء توجهات ورؤى تميل الى نزع السودان عن محيطه العربي ودفعه الى الانشغال بشؤونه الداخلية حصرا، وباتجاه المحيط الافريقي ما يعني تراجع فكرة دعم القضية الفلسطينية ووضع ملف التطبيع مع إسرائيل على قمة السودان الجديد وعلاقاته الامريكية الثنائية.

وعليه بقاء طرف كالدعم السريع الذي لا يبدو انه يشعر بنوع من الحرج إزاء العلاقات مع إسرائيل او مع توطيد علاقاته مع القوى الأجنبية على حساب السودان الأمني والاقتصادي يشكل فرصة لمزيد من الضغط تمارس على السودان تحت شعار الانتقال الديمقراطي ونقل السلطة الى حكومة مدنية منتخبة باي ثمن ممكن؛ إذ ان القوى المدنية التي جاءت عقب الانقلاب الذي نفذه الجيش لا تشعر هي الأخرى ان سودان اللاءات الثلاث وسلة غداء العالم العربي وعمق مصر الاستراتيجي، تعني كثيرا لهم بقدر اهتمامهم في الاستحواذ على السلطة لغاية توطيد حكم علماني مدني لدولة كانت دوما معروفة بانحيازاتها المحافظة ولقضايا امته العربية.

وسط كل ذلك، تداركت الولايات المتحدة تصاعد قوة الجيش السوداني وميل كفة الحرب باتجاه قائد الجيش، مع تراجع واضح ومتسارع لقوة الدعم السريع، ناهيك عن خسارة الأخير دعم الفصائل المسلحة التي رفضت المشاركة بهذه الحرب خصوصا ان قائد الدعم السريع عمل منذ بداية التغيير وظهور نجمه في المعادلة السياسية السودانية على تحييد هذه الفصائل وفرض رؤيته للحل في السودان بما يستق مع مصالحه الشخصية والقبلية، وانتشار قواته في محافظات السودان على حساب الفصائل المسلحة، ناهيك أيضا عن ضعف الحاضنة الإقليمية والدولية له؛ حيث اتهمت أطراف دولية بدعم قوات حميدتي لغاية تنفيذ اجندات لا تتسق مع مصالح البلاد بل وكان لها اثار كبيرة على ملفات دولية مشتركة أخرى كالملف الليبي وملف سد النهضة وأخيرا ملف الحرب الاوكرانية؛ حيث تواجه الأطراف الخارجية الداعمة لقوات الدعم السريع ورئيسها مراقبة مشددة له حيث ضوء كبير يسلط عليها وعلى علاقاتها التجارية مع الدعم السريع، ما جعل من مهمة دعم هذه الدول لهذه القوات امام تحد ومعضلة كبيرة، وهو ما يمكن ملاحظته على النحو التالي:

  • مع بداية الازمة الحالي، لعبت مصر دورا كبير في تهديد بعض الأطراف الدعمة لقوات الدعم السريع في المعادلة الليبية وخصوصا من جانب قائد الجيش الليبي، المتقاعد خليفة حفتر، المقرب من قوات الدعم السريع؛ حيث رفضت القاهرة دعمه لقوات الدعم السريع حيث لا تبدو مصر معنية كثيرا في تموضع حفتر بالمعادلة السودانية لصالح حميدتي؛ وعليه تواجه قوات الدعم السريع التي طالما حاربت الى جنب قوات حفتر تحديات كبيرة في الحصول ليس فقط على الدعم السياسي لهذه القوات وانما في الحصول على الدعم المادي والعسكري بما يسمح بإعادة كفة القتال لصالحه او على الأقل اعادة التوازن المفقود لصالح الجيش السوداني؛ ويطمح الفريق حميدتي الى إعادة التوزان على الأرض بصورة لا تدفعه لاحقا الى تقديم تكلفة سياسية او اقتصادية لا يستطيع تحملها.
  • كما انه من المعروف حجم الدعم والعلاقات التي ربطت ابوظبي مع طرفي المعادلة السودانية، القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، الا انها بالعموم ونظرا للمصالح الاقتصادية التي تربط كبار الشخصيات الاقتصادية في دولة الامارات مع قائد الدعم السريع الذي يتمتع بنفوذ اقتصادي وسيطرة كاملة على ثروات السودان المعدنية كالذهب؛ وعليه تجد الأمارات حرجا مرتبط بحجم الضوء المسلط عليها، ما يجعلها امام تحد كبير لغاية تنفيذ اجندتها مع الدعم السريع ومصالحها الاقتصادية ويضعف مناورتها لغاية الخروج من دائرة العقوبات على الدعم السريع او التحايل على نظام المراقبة الدولي المفروض على الأطراف السودانية.
  • وتتمتع روسيا عبر شركة فاغنر للأمن الخاصة بعلاقات كبيرة مع قوات الدعم السريع وتربط بينهما علاقات امنية واقتصادية مشتركة تبدأ من تعدين الذهب ولا تنتهي مع تجارة الماشية؛ هذه العلاقات القديمة بين الطرفين مصيرية ومهمة خصوصا ان الطرفين معنيين في الحفاظ على أوضاع امنية في بعض الدول الافريقية كأفريقيا الوسطى لغاية تثبيت حكومات فاسدة موالية لهما بحيث تعمل على تسهيل نفوذهما ومصالحهم الاقتصادية فيها. وهذه الشركة المتهمة بكونها ذراع روسيا الأمني غير المعلن حيث من خلالها تعمل على تنفيذ بعض المهام القذرة التي ترفض او التي لا ترغب بعض الجيوش النظامية تنفيذها والانخراط في مشاريعها خشية مواجهة العقوبات او اتهام عناصرها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، هذه الشركة ترتبط بعلاقات نوعية مع قائد الدعم السريع وشركاته التي تشكل غطاء لتهريب الذهب من افريقيا نحو روسيا وغيرها من المناطق؛ وهي الشركات التي جرى تصنيفها على قوائم المراقبة الدولية والعقوبات الامريكية مؤخرا. ونظرا لانشغال روسيا والشركة على وجه الخصوص حيث يواجه عناصرها صراعا وحربا واقتتال في أوكرانيا جعلها تبتعد عن الساحة السودانية؛ وهي تسعى الان باي ثمن الى العودة للسودان لغاية مواجهة التهديدات الوجودية التي تعاني منها قوات الدعم السريع؛ حيث خسارة هذه القوات لمعركتها على الأرض يعني نهاية او على الأقل تراجع دور هذه الشركة في السودان بل ونهاية لمشروع موسكو الأهم في بناء قاعدة عسكرية لها على البحر الأحمر.

وعليه تقف قوات الدعم السريع امام تحد كبير يتعلق ببقائها وديمومة مصالحها واستمرار نفوذها في المعادلة السودانية، خصوصا ان الأطراف المدنية التي تدعمه كقوى الحرية التغيير "المجلس المركزي"، والتي أتكأ عليها لتبرير مغامرته العسكرية فقدت تأثيرها، بل وكشف حجم ضعفها ناهيك عن حجم تمثيلها الشعبي، الذي طالما استندت عليه لتبرير تشددها في المفاوضات التي كانت تجرى مع المكون العسكري؛ حيث لا تتمتع هي الأخرى بحجم نفوذ كبير في المعادلة الشعبية السودانية، خصوصا ان القوات المسلحة اعتمدت منذ البداية على فرضية لا يمكن دحرها تتمثل في وحدة الجيش السوداني والتفاف الشعب حوله ضمن نظرية او شعار "جيش واحد شعب واحد"، الذي يتمتع ورغم كل ما مر به، خلال العقود الماضية، من صعوبات واتهامات الا انه يتمتع بغطاء شعبي ومصداقية كبيرة، وحجم تأييد واسع من جانب أبناء الشعب السوداني، ما يثبت حجم نفوذه في المعادلة السودانية السياسية؛ هذه الفرضة التي حاول الجنرال حميدتي كسرها عبر ربط الجيش بالنظام السابق وبالإسلاميين فقد سريعا مبرراتها وانقلبت عليه.

هذه الوحدة التي عبر عنها البرهان في ظهوره الأخير يجدها الان تبرر له الدخول بعملية عسكرية أوسع تتمثل بتصعيد عسكري واشمل تنهي الحرب القائمة لصالحه؛ هذه العملية المتوقعة من جانب الجيش السوداني واحتمال دخوله في حرب شوارع في عمق الاحياء السكنية التي تتخذها قوات الدعم السريع وعناصرها دروعا له وغطاءً من الاستهداف الجوي، تبدو الان اكثر الحاحا واولوية بالنسبة لقادة الجيش على الأرض، وهي وان حرصت سابقاً على تجنب الدخول بهذه المعركة، وكانت تتوافق على مضض لغاية الوصول الى الهدن قد تكون تكلفة استمرار الأوضاع على ما هي عليه دون حسم عالية، لكن يبدو ان الجيش امام خيار تقديم تكلفة بشرية أوسع وإنسانية أكبر، باعتبار ان استمرار الحرب الى وقت إضافي يعني تمدد الصراع وتدويله، ما يجعل من شروط التسوية شديدة الصعوبة عليه مقارنة بحجم المكاسب التي حققها حتى الان، ناهيك انها قد تقدم للطرف الأضعف حبل انقاذ يحول دون غرقه وخسارة مصالحه، ليس فقط وضعه العسكري وانما مصالحه الاقتصادية وامبراطوريته المالية التي صنفتها بعد التقارير الافريقية باعتبارها الأكثر ثراءٍ في القارة السمراء.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت