حسن عبادي/ مجد الكروم-حيفا
التقيت الأسير أسامة الأشقر للمرة الأولى يوم 7 أيلول 2020 في سجن الجلبوع وتحدّثنا عن مشروعي التواصليّ مع أسرى يكتبون و"لكل أسير كتاب"، وظروف الأسر والعلاقة مع الخارج، وتجاهل قضايا الأسرى والوعود الرنّانة دون رصيد، والرسائل التي يبعثها أسامة لتحريك قضيّة الأسرى والاهتمام بها، ومشروعه التواصليّ مع أدباء من شتّى أرجاء العالم العربيّ وأهميّته، ومقاطعة الصديق الروائي أحمد أبو سليم للجوائز التطبيعيّة.
حدّثته بدوري عمّا يقوم به الصديق خالد عز الدين من عمل جبّار في نشر أخبار وأقلام أسرانا في الإعلام الجزائري، ومنه إلى العالم بأسره.
تناولنا مشروعه الثقافيّ، مولوده المنتظر "للسجن مذاق آخر"، استعراض لحروب من نوع آخر، مسيرته الاعتقاليّة حتى الإفراج وحروب الظلّ والمخفي ممّا يتعرّض له الأسير داخل السجن، وخارجه.
تحدّثنا مطوّلًا عن أهمية كتابة حكايا الأسرى وإيصالها لكلّ حدب وصوب، لمن يسمع ولمن لا يريد أن يسمع، هناك خيرة شبابنا تئِنّ في الزنازين، لكلّ منهم همومه وعائلة تنتظره... وأمل.
وفعلاً صدر الكتاب بعد طول انتظار وشاركناه حفل الإشهار في البيرة، ورافقتني زوجتي سميرة وصديقي فراس حج محمد.
في لقاء آخر في سجن ريمون الصحراوي تحدّثنا عن نشاط التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين والحراك الثقافي لأدب الحريّة ومستجدّاته وأثرها، وسولفنا عن الأصدقاء: صلاح أبو لاوي، وأحمد أبو سليم، وعبد السلام صالح، ومحمد مشّة، وغيرهم، فهو متابع نهم للمشهد الثقافي وخاصّة بما يخصّ أدب السجون.
تناولنا أهميّة الدور الذي تقوم به منار، مثلها مثل نسيم، وضحى، وشذا، وكمال، ويوسف، ونضال، وجميل، ونديم، وأم علاء، وغيرهم لتبقى حروف الأسرى وكلماتهم محلّقة في فضاء الحريّة.
ناقشنا فكرة كتاب الرسائل، وما يقوم به الصديق الكاتب محمود شقير لتحريره؛ تلك الرسائل التي بعثها أسامة لتحريك قضيّة الأسرى والاهتمام بها، وردود الفعل ممّن راسلهم وكاتبهم.
كان عصفًا ذهنيًا مثيرًا، وباغتني حين وصفه ساعة حان موعد الفراق "نافذة للحياة".
وها هي رسائل أسامة ترى النور في كتاب "رسائل كسرت القيد" (رسائل ومراسلات، الصّادر عن "جسور ثقافيّة/ الرعاة للدراسات والنشر، يحوي في طيّاته 260 صفحة، تصميم ومونتاج: سمير حنون).
يشمل الكتاب جزئين؛ الجزء الأول رسائل شخصيّة/ عامة كما في رسائله إلى أفراد أسرته المقرّبين: والده، وإلى أمه، وإلى مناره/ منارته.
ملاحظة لا بدّ منها؛ كتب أسامة في البدء: "لولا مناري الغالية ما وجدتْ هذه الرسائل والمراسلات طريقها إلى غاياتها المأمولة". من تواصلي اليومي مع أصدقائي من الأسرى الكتّاب وجدت أنّ لكلّ منهم منارَه، لكلّ واحد منهم جندي مجهول أو معلوم يحمل ملفّه الشاق برحلة سيزيفيّة وعرة في طريقه للحريّة ولكلّ منهم تُرفع القبّعات.
توفي والده دون فراق أو عناق وكتب له: "أبي الحبيب؛ هذه رسالتي التي كنت أتمنى أن أكتبها لك وأنت ما زلت بيننا، أكتبها الآن وأنا أدرك أكثر كم هي حاجتي لأن أكتبها وقلبي يحدثني أنك ستسمعها وأنك ترى أحرفها، فقلبي يخفق أكثر مع كل حرف إضافي.
هذه رسالتي المفتوحة لروحك والتي لن أغلقها ما دامت شراييني تنادي مع كل نبضة قلب، فأب مثلك لا تمحوه الأيام ولا توتر السنوات، كنت معي وستظل هكذا أنت وكذا ربيت". وكلّي أمل أن تصله كلمات أسامة، لأنّه حتمًا كان فخورًا بهِ لو أنّه بيننا.
وأخرى عامة؛ وجدتها خواطر وومضات، عُصارة تجربة أسامة، بطولِها وعرضها؛ رسالة عن الحب، وأخرى إلى البحر، ورسالة إلى سنبلة، وأخرى إلى سوسنة، ورسالة إلى شمس وقدر وليلة مقمرة، وإلى طاووس، وأخرى إلى فراشة، وإلى الحمامات.
وكذلك رسائل فلسفيّة وفكريّة إلى مثقفين راحلين؛ شكسبير وماسلو، وإلى جابوتنسكي وجورج أورويل، وإلى نزار قباني ومحمود درويش.
وأخرى إلى الحريّة.
تناول أسامة في هذه الرسائل ظروف السجن ومعاناته، والعِبر التي استقاها عَبر السنين، ويلجأ للسخرية السوداويّة أحياناً محاوراً شكسبير، ولائماً له بسبب الوعد الذي منحه بلفور دولته للصهاينة، ويُطمئن درويش على مصير الأرض التي أحبّها، وتضحيات أسامه وزملاء الأسر بأعمارهم وأرواحهم وأجمل سنواتهم لكي تتحرّر من عدوان غاصب ويعيش أهلها بحريّة أسوةً بباقي شعوب العالم.
اشتمل الجزء الثاني رسائل/ نداءات أسامة إلى دول وعواصم؛ كالكويت، وتونس، والجزائر، ومصر، ولبنان، وبيروت.
وإلى مؤسسات؛ سفراء دولة فلسطين في الخارج، والنشطاء الفلسطينيين في الخارج، وأعضاء حملة مقاومة خطة الضم، وأبناء الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة، والأشقاء العرب الرافضين للتطبيع، وغيرها.
وكذلك مراسلات مع مبدعين؛ واسيني الأعرج، وسامي كليب، ولينا أبو بكر، وإبراهيم نصر الله، وعبد الرحمن بسيسو، وسميح محسن (هو أوّل من شبّك بيني وبين أسامة)، وبسام الكعبي، وحمزة البشتاوي، وفراس حج محمد، ورائد الحواري، وغيرهم.
وزملائي في مبادرة "أسرى يكتبون" ورابطة الكتّاب الأردنيين.
ورسائله إلى الإعلاميين؛ طلال سلمان، وروعة القاسم، وخالد عز الدين والإعلام الجزائري، ورشاد العمري وغيرهم كُثُر.
كتب أسامة آلاف الرسائل، وهدفه كما يقول هو ربط الحالة النضالية المتمثلة بشريحة الأسرى مع الحالة الإبداعية المتمثلة بالشخوص الذين يقرأ عنهم في الصحف أو يسمع مقابلاتهم في الإذاعات، وذلك يصب في المحصلة النهائية في دفع مسيرة النضال الوطني إلى الأمام، والنضال لا يقتصر على جانب واحد من الجوانب.
تحرّر كتابات أسامة ورسائله عبر القضبان رغم أنف السجان، تماماً كالنُطف المحرّرة، تشكّل تحدياً كبيراً للسجن والسجّان وتُثبت أنّ احتجاز أسامة وآلاف الأسيرات والأسرى الفلسطينيين خلف القضبان لا يمنعهم، ولن يمنعهم من ممارسة حياتهم وحريّتهم عبر حروفهم دون كللٍ أو يأسٍ أو هوان، وهذا ما حقّقه ويحقّقه أسامة كل صباح وكل مساء، وما جسّده في هذا الكتاب.
يحاول أسامة عبر مئات الرسائل التي يُبرقها لكلّ حدب وصوب حشد أكبر تضامن فلسطيني وعربي وعالمي مع الأسرى الفلسطينيين وقضيّتهم، جراء عجز مؤسساتنا وصمتها صمت أهل القبور.
جاءت رسائله مليئة بالعزيمة والإصرار والتحدّي، مُفعمة بالأمل والحريّة.
كلمة لا بدّ منها؛ تابعت الرسائل عبر السنين، وواكبت تحرير الكتاب، وكنت شريكاً في اللقاء الحاسم مع الأستاذ محمود شقير لكيفيّة تحرير الرسائل لترى النور، وكم كنت أتوخّى أن تمثّل الرسائل الكلّ الفلسطيني، والشعب الفلسطيني في كلّ أماكن تواجده بكلّ أطيافه التعدّدية دون رقيب، فالتعدديّة ضرورة ملحّة كلّ الوقت. قاتل الله الرقيب، مهما كانت نواياه ومهما كانت هويّته.
كلمة أخرى؛ أسامة يمارس حريّته وهو محجوز داخل زنزانته عبر الرسائل، تلك التي يبعثها وتلك التي يتسلمها، حريّة يحسده عليها الكثيرون ممّن هم خارج السجون بأجسادهم، مقموعين بعقليّتهم ومقيّدين بأفكارهم، وحين قرأت الكتاب ثانيةً لمست هنا وهناك بعض الحذف والإضافة والتغيير في رسائل عدّة وتساءلت بيني وبيني: هل أسامة على علم بذلك؟ من؟ وماذا أجبره على ذلك؟ ولماذا؟ هل بسبب اختلاف الزمن والموقف؟
أنهي ببرقيّة وصلتني أمس من صديق عزيز حين شاهد الدعوة لهذا اللقاء:
"عزيزي الأستاذ حسن عبادي/ تحياتي/ أغبطك وأنت تجوب البلاد طولًا وعرضًا مدافعًا عن أسيراتنا وأسرانا، مقدمًا كتبهم في الندوات وفي اللقاءات الجماهيرية، وآخرها هذا الكتاب؛ كتاب أسامة الأشقر: رسائل كسرت القيد الذي تواصل أسامة من خلاله مع أمه وأبيه ومع حبيبته منار، ومع البحر والسنبلة والشمس، ومع مئات الشخصيات من الماضي والحاضر، من المثقفين والسياسيين والأدباء والمفكرين.
الحرية لأسامة ولكل أسيراتنا وأسرانا في سجون الاحتلال، والتقدير لزوجته منار ولكل عائلات الأسرى والشهداء، لك أيها العزيز كل التقدير.
محمود شقير/ القدس المحتلة. 20.06.2023".
وأخيراً؛
لا توجد ولادة أسمى من الاحتفاء بمولود مثل هذا المولود، رُغم الغياب القسريّ لوالده، وكلّي ثقة بأن أسامة يمشي منتشياً بولادة مولوده الثاني والاحتفاء به، فكلمته الحرّة هزمت سجّانه وانتصرت على الأسلاك والقضبان والجدران والأسوار وها نحن نحتضنها بفخر واعتزاز.
شكرًا لك أسامة على هذا المولود، آملين أن يتبعه آخرون.
الحريّة خير علاج لأسرانا.
الحرية لأسامة ورفاق دربه الأحرار.
***مداخلتي في حفل إطلاق كتاب "رسائل كسرت القيد" يوم الأربعاء 21.06.2023 في نادي قراء المجد/ مجد الكروم
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت