كتب موقع "بوابة الهدف" المقرب من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مقال رأي بعنوان :"سياسات الحكم في غزة: وصفة الموت والاستسلام".
وفيما يلي نص المقال الذي نشره الموقع في زاوية "رأي الهدف" :
في قضية مصرع المواطن شادي أبو قوطة، انطلقت إجراءات السلطة الحاكمة في قطاع غزة من ذات الاعتبارات الخاطئة التي شكلت سياسات وبنية جهاز الحكم والإدارة، ووصلت لذات النتائج المعتادة التي تعتبر كل حدث مماثل هو خلل في تنفيذ الإجراءات، وليس خلل في سياسة الحكم بحد ذاتها ومنطلقاتها.
وقبل الخوض في سياسات الحكم هذه، علينا هنا أن نتوقف عند نقطتين، الأولى أن المنطق البسيط يقول: أنه لا يمكن لجهاز الحكم أن يدين نفسه ومنطلقات سياساته ولا يمكنه إجراء مراجعة جدية لسياساته، وهو ما يعني أن أي لجنة تحقيق ستتشكل يجب أن تكون أولًا مستقلة عن هذا الجهاز وهو ما لم يتوفر في حالة اللجنة المشكلة، أما النقطة الثانية فجوهرها أن جهاز الحكم لا يرغب بإدراك أن هناك آلاف التجاوزات بحق المواطنين ترتكب يوميًا، ولكن اللجوء لتشكيل لجان التحقيق ومراجعة الإجراءات يتم اللجوء له من قبل هذا الجهاز فقط، حينما يتحول التجاوز لقضية رأي عام، وبالتالي نحن لسنا أمام عملية مراجعة حقيقية، لأداء الحكم وتغيير في السياسات، ولكن بالأساس معالجة لردة فعل الرأي العام وتعامل مع تداعيات الحدث لا العوامل الحقيقية لإنتاجه وإنتاج آلاف الأحداث المماثلة.
هل يدافع هذا المقال عن تعدي المواطنين على الأملاك والمرافق العامة؟ بالتأكيد لا ولكن هنا نحاول مراجعة مفهوم الحكم الذي قاد لكل هذا التردي في حياة الناس في قطاع غزة المحاصر، وكيف تضافرت سياسات الحكم مع الحصار في زيادة الأعباء والمعاناة على المواطنين في قطاع غزة؟ بل وأيضًا كيف شكلت هذه السياسات أداة مناقضة للواقع السياسي والوطني والأهداف الوطنية الجامعة، والتي تتمحور حول التصدي لأعباء الحصار دون تقديم تنازل سياسي وطني عن حق الفلسطينيين وواجبهم في المقاومة؟ وهو ما يتطلب بالتأكيد نموذج إداري واقتصادي مختلف ينطلق أولًا من إدراك المهمة الوطنية لجهاز الحكم في مرحلة التحرر الوطني والصراع مع العدو.
أدار جهاز الحكم سياساته وأقام بنيته وهياكله وصاغ لوائحه الإجرائية، كما لو كانت هناك دولة قائمة بالفعل، تنمو وتزدهر فيها الأعمال التجارية، وما على المواطنين إلا أن يكونوا جمهور مستهلكين طائعين صالحين ممتلثين لقواعد اقتصاد السوق، وممتنين لجهاز الحكم الذي يدعم نمو ثروات ومشاريع لا علاقة لها بواقع قطاع غزة المحاصر.
المنتجعات السياحية، ومجمعات التسوق، هي المشاريع الأكثر ازدهارًا في ظل النموذج القائم، فيما يعاني ٧٠٪ من أطفال قطاع غزة على الأقل من الجوع ونقص التغذية وفقر الدم، و٨٠٪ من شبابه وقوته العاملة من البطالة، وتعلن أونروا أن هذا العام سيشهد القطاع مجاعة حقيقية، منتجعات ومراكز تسوق تخدم زيادة ثروة أصحابها، وتوفير خدمات ترفيهية لنسبة صغيرة ممن يمتلكون القدرة على شراء واستهلاك هذه الخدمات، وخلق صورة وهمية عن نموذج مزدهر للحياة والأعمال، وإدامة الجوع والفقر كواقع للأغلبية الساحقة من سكان غزة.
اللوائح الضريبية تصنع ذلك يوميًا، تسلط الضرائب على أصحاب المشاريع الصغيرة والورش والمحلات، فيما تعفي أو تمنح التسهيلات لأصحاب الثروات بحجة "تشجيع الاستثمار"، سياسات الجباية تنفذ هذا، وأيضًا اللوائح الإجرائية للبلديات، أذونات الاستثمار والاستيراد والتصدير، سياسات تكفلت بإغلاق آلاف الورش والمشاريع الصغيرة التي فقدت قدرتها على منافسة حيتان السوق الذين سمنتهم السياسات الحكومية.
هنا لا نتحدث عن فساد ينبت على هامش جهاز الحكم، ولكن عن ماهية هذا الجهاز نفسه وسياساته وما يمثله اجتماعيًا واقتصاديًا، فقد قرر هذا الجهاز بكامل إرادته أن يحرس "الأعمال" وأصحابها، وتنامت شبكة من الصلات المصلحية والمفاهيم المشتركة بين رجال المال ورجال السلطة والحكم وموظفي هذا الجهاز.
ما يحدث ليس خطأ فنيًا ارتكبته البلدية في تنفيذ قرار ما، وحيث يهشم رأس صاحب بسطة أو عربة بيع، فإن ذلك ليس محض سوء سلوك من شرطي، وحين تأتي حملات الجباية لتفرغ جيوب الناس من بضعة دراهم يكسبوها لينالوا بها قوت أولادهم، فإن الأعمى والبصير يدرك أن هذا خيار جهاز الحكم لكيفية استمراره؛ الجباية من الغالبية الفقيرة وتنمية المصالح والأعمال مع القلة الميسورة والمستفيدة.
إن الإشكال السياسي في هذا لا يقتصر على كونه نموذجًا لتجويع الناس ودفعهم للاستسلام، أمام ضغوط الحصار، بل في كونه عملية صناعة ممنهجة لنموذج عن تصورات القوى الفلسطينية النافذة عن كيفية إدارة، أي شبر يندحر عنه الاحتلال، والنتيجة واضحة أمامنا.
لا تتحمل المقاومة كفكرة وممارسة مسؤولية هذا المسار الكارثي التي اختطته بيروقراطية جهاز الحكم الذي بنته حركة حماس في قطاع غزة، ولكن ما هو واضح أن مشروع المقاومة برمته وفرصة الفلسطينيين في مقاومة عدوهم والصمود والانتصار في معركتهم مع العدو الصهيوني هي من يسدد ثمن هذه المنتجعات ومراكز الترفيه والحسابات البنكية والسيارات الفارهة، ذلك فوق ما يدفعه أبناء شعبنا في غزة من فقر وجوع ومعاناة ومرض وفقدان للحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة.