نشر مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، ورقة تقدير استراتيجي حول الصفقة السعودية-الإسرائيلية-الأمريكية، والمسارات والمآلات، اذ يشهد الشرق الأوسط تحركاتٍ كبيرة، علنيةً وسِريَّة، ترمي الولايات المتحدة من خلالها إلى إعادةِ ترتيب علاقات الولايات المتحدة مع المملكة السعودية، وحصدِ إنجاز سياسي بـ دفع قطار التطبيع مع "إسرائيل"، ليكون إنجازًا استراتيجيًّا مهمًّا يضاف إلى سجل "نتنياهو"، وخطوةً تاريخيةً للانفتاح على المنطقة العربية، وإنجازًا يعزِّز أسهُم "جو بايدن" في السباق الرئاسي الأمريكي، وقطعًا للطريق أمام تعزُّز النفوذ الصيني في المنطقة.
وسعت الورقة التي نشرها المركز إلى تقدير مصير الصفقة الكبرى والدوافع المحركة لكل طرف من الأطراف الثلاثة من الانخراط في التفاوض الجدي للوصول إلى الصفقة المنظورة، إضافة إلى أهم العقبات التي تعترضهم.
وتطرقت الورقة إلى موقف المملكة العربية السعودية التي سعت به منذ اشتداد الخلاف مع الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض ووصول "بايدن" إلى سدة الرئاسة، والموقف السلبي العلني الذي عبَّر عنه تجاه السعودية وولي عهدها، محمد بن سلمان، إلى استثمار التغيرات الدولية الحاصلة في العالم، وخصوصًا بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، إذ تبنَّت المملكة سياسة "السعودية أولًا"، ما دفعها في اتجاه تحقيق إزاحة عبر تطوير علاقاتها مع الصين، والانفتاح على التنسيق مع روسيا في أسعار النفط بالسوق العالمي، وصولًا حتى إلى اتفاق المصالحة مع إيران برعاية صينية، إلا أن هذه السياسة لم تشكل انتقالًا سعوديًّا من المعسكر الأمريكي إلى المعسكر المناهض للسياسة الأمريكية في العالم، بل هو نوع من تحسين شروط التفاوض وتحفيز الإدارة الأمريكية لتقديم عروض جدية تتلاءم مع الوزن والمكانة السعودية.
وبينت الورقة دوافع ومبررات السعودية للوصول إلى الصفقة اذ استهدفت بدرجة أساسية استخدام ورقة التطبيع مع "إسرائيل" في مفاوضة الولايات المتحدة للحصول على حزمة من المطالب تشمل ضمانات أمنية- دفاعية، إضافة إلى حزمة تسليحية وتطويرية، تمثلت باتفاقية دفاع متبادلة (على غرار حلف الناتو) تلتزم بموجبها الولايات المتحدة بالدفاع عن السعودية أمام أي تهديد عسكري تواجهه، وبناء مفاعل نووي مدني بمساعدة أمريكية والسماح بتخصيب اليورانيوم على الأراضي السعودية بإشراف أمريكي، وصفقة تسليحية متطورة مع الولايات المتحدة تشمل أنظمة دفاعية متقدمة، والسعي لتحقيق تقدم في المشهد الفلسطيني وإجراءات الاحتلال فبحسب مصادر صحفية فقد أشارت إدارة "بايدن" لحكومة الاحتلال بأن صفقة محتملة مع الرياض تتطلب "تنازلات" على مستوى قضية فلسطين.
وأشارت الورقة إلى عدة محاذير وعقبات تضفي صعوبات على إتمام الصفقة المنظورة أمام الرغبة المُلحَّة للسعودية في تحقيقها، منها صعوبة التخلي السعودي عن العلاقة مع الصين وروسيا ارتباطًا بحجم المصالح الكبيرة الموجودة بينها وبين الدولتين، ورغبة السعودية في البقاء في مربع عدم الانحياز لأي طرف من أطراف النزاع الدولي المتفاقم، وانعدام الرغبة في منح الإدارة الأمريكية الحالية جرعة حياة وإنجاز يقدمه "بايدن" إلى ناخبيه وحزبه، بعد فترة رئاسية كانت سلبية جدًّا بالنسبة للسعودية التي تخلى عنها "بايدن" في حربها في اليمن، والرغبة السعودية في الحفاظ على صورتها بوصفها عنوان إجماع عربي، وتراجع الاندفاعة السعودية للمواجهة مع إيران بعد المصالحة معها وإعادة العلاقات الدبلوماسية.
وأوضحت الورقة الموقف الإسرائيلي اذ أعلن رئيس وزراء الاحتلال "بنيامين نتنياهو"، في نهاية تموز/يوليو عند بداية اجتماع حكومته/ قائلًا: "في المستقبل، سنتمكن من ربط إسرائيل بالقطار إلى المملكة العربية السعودية وشبه الجزيرة العربية". فيما شكَّل التطبيع مع السعودية وعدًا انتخابيًّا قدَّمه "نتنياهو"، بعدما لم يتمكن من تحقيقه في خلال فترة عقد "اتفاقيات ابراهام" التطبيعية في عهد الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب".
وإلى جانب أهمية التطبيع مع السعودية بوصفه إنجازًا يُسجَّل في سجلِّه السياسي ثمة اعتبارات مرتبطة بموقع السعودية الاستراتيجي المهم في المنطقة، دفعت هذه الأهمية "نتنياهو" إلى تشكيل فريق صغير وسري للتعامل مع هذه المسألة: وزير الشؤون الاستراتيجية "رون ديرمر"، ورئيس مجلس الأمن القومي "تساحي هنغبي"، و"جيل رائخ" نائب "هنغبي" وهو مسؤول كبير سابق في "النظام النووي الإسرائيلي".
واستعرضت الورقة الدوافع "الإسرائيلية" والتي تمثلت برغبة "نتنياهو" الكبيرة في تسجيل التطبيع مع السعودية في إرثه التاريخي، وإعطاء حكومته إنجازًا سياسيًّا سيسهم في كسر حالة العزلة التي تعانيها بسبب رفض العالم للتعامل مع شركائه في الائتلاف الحكومي، بالإضافة للانفتاح الواسع على المنطقة العربية واستكمال مشروع اتفاقات "ابراهام"، وتحويل قضية فلسطين إلى مسألة هامشية إقليميًّا ودوليًّا، وحصر الصراع وطبيعة إدارته مع الفلسطينيين حصرًا، وإعادة السعودية إلى تموضعها السابق في مربع العداء مع إيران، لتكون عدوًا مشتركًا من جديد للجانبين.
وذكرت الورقة التقارير الإعلامية العبرية التي أشارت إلى خشية المؤسسة الأمنية من تجاوز "نتنياهو" "الخطوط الحمر"، وهو ما يعزز فرضية وجود تحديات تصعّب المَهمّة، لخصها الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي "مائير بن شبات"، أبرزها:
- التحدي الأول: منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط، في ضوء رغبة القيادة السعودية امتلاك قدرة نووية مدنية مع مراقبة محدودة.
- التحدي الثاني: الحفاظ على تفوق "إسرائيل" النوعي في مواجهة رغبة المملكة العربية السعودية في تجهيز نفسها بأسلحة متطورة (ورغبة الولايات المتحدة في الترويج لصفقات مبيعات أسلحة كبيرة).
- التحدي الثالث: "حماية المصالح الأمنية الإسرائيلية" في الساحة الفلسطينية (ومن وجهة نظر "نتنياهو" أيضًا سلامة الائتلاف) في مواجهة مطالب العائلة الملكية في الرياض بإحراز تقدم مهم في القضية الفلسطينية، يمكن الافتراض أن الأمريكيين سوف يرون ذلك على أنه قوة ضغط لانتزاع تنازلات كبيرة من "إسرائيل" لصالح الفلسطينيين.
وأشارت الورقة إلى الدور الأمريكي الذي تكثف من أجل الوصول إلى صفقة شاملة مع السعودية تشمل تحقيق عدة أهداف، بدءًا من استعادة الدفء بالعلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة، مرورًا بالحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة ومنع توسع نفوذ خصومها، وليس انتهاءً بتحقيق اختراق في ملف التطبيع الواضح والصريح بين المملكة السعودية و"إسرائيل" تخطف فيه إدارة "بايدن" إنجازًا مهمًّا قبل الانتخابات الرئاسية القادمة.
وتوسَّع الزخم في التحرك الأمريكي بعد زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي، "جيك سوليفان"، للرياض في مطلع أيار/مايو 2023، إذ تجددت الجهود الأمريكية في اتجاه تطبيع العلاقات بين السعودية و"إسرائيل"، وذكرت مصادر أمريكية أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قد أبدى مرونة في ملف التطبيع مع "إسرائيل" في مقابل صفقة أمنية واسعة مع واشنطن، دفع ذلك وزير الخارجية الأمريكي، "أنتوني بلينكن"، إلى زيارة السعودية في حزيران/يونيو لمناقشة المطالب السعودية.
وبين التقدير أن إدارة "بايدن" تحاول منذ بداية حراكها ربط التطبيع السعودي مع "إسرائيل" بتحقيق انفراجة مع الفلسطينيين، ما يؤكده الخبر الذي ورد في صحيفة "نيويورك تايمز"، إذ إنه وفقها: "لكي تقبل الرياض، على "نتنياهو" أن يُرضي رام الله"، فما ترى "تل أبيب" أنه لا يعكس حسب معظم التقديرات الأجواء والتوجه في القصر الملكي، وبذلك سيُنسب هذا الانجاز إلى الرئيس شخصيًّا، وسيساعده سياسيًّا في الفترة التي تسبق الانتخابات، وسيقدمها البيت الأبيض بوصفها خطوة حقيقية في استعادة تموضع المملكة العربية السعودية بعيدًا عن الصين.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لمثل هذا الاتفاق، لن يكون من السهل تخطي العديد من العقبات التي تقف في طريق تحقيق هذا الهدف، في حين أن الوقت المتاح لـ"بايدن" لفعل ذلك واستثماره قبل الانتخابات ليس طويلًا. بالإضافة إلى أن مثل هذا الاتفاق مع المملكة العربية السعودية سيتطلب موافقة الكونغرس، وهي مهمة صعبة جدًّا على إدارة "بايدن" في ضوء الواقع الحالي، فيما لا يريد الجمهوريون أن يسجِّلوا ذلك على أنه نصرًا وإنجازًا تاريخيًّا للرئيس الديمقراطي "جو بايدن" قبل الانتخابات الرئاسية، وفي الوقت النهائي قبل انتهاء جولته الرئاسية.
أما في الحزب الديمقراطي، فسيرفض الجناح التقدمي تمرير هذه المعاهد لعدة اعتبارات مرتبطة بحقوق الإنسان في السعودية، وإضعاف مثل هذا الاتفاق لفرص قيام دولة فلسطينية، في حين سيسعى جزء من الديمقراطيين إلى تعطيل الصفقة سعودية – "إسرائيلية" كونها ستكون بمثابة مكافأة لحكومة "نتنياهو" التي تسعى إلى تقويض سلطة القضاء في بلادها، ومن ثم إضعاف ما يوصف بـ"الحركة الديمقراطية في إسرائيل".
وذكرت الورقة المآلات وحسابات الربح والخسارة لكل الأطراف، والتي نجح بها ولي العهد السعودي في مناورته التصعيدية مع الولايات المتحدة وفي دفع الأمريكيين إلى التراجع، مع أن السعودية لم تَختَر الانتقال من الملعب الأمريكي إلى الصيني، إلا أنها انتهجت سياسة أكثر استقلالية بهدف تحقيق أفضل لمصالحها ومحاولتها المناورة ضمن السقف الأميركي. فيما لن تسمح "إسرائيل" للسعودية بأن تملك برنامجًا نوويًّا عسكريًّا، وأن ما دون ذلك يُعَدُّ في دائرة الإمكان.
ستمثِّل التنازلات المطلوبة في الملف الفلسطيني، والتي تسعى السعودية والولايات المتحدة إلى انتزاعها من "إسرائيل"، عقبة كبيرة أخرى في ضوء موقف "نتنياهو" وطبيعة ائتلافه الحكومي الذي يتصلب فيه شركاؤه رافضين أي تنازلات أو إبداء أية مرونة تجاه الحقوق الفلسطينية.
وأشار الكاتب "الإسرائيلي" "أرييل كهانا"، في مقال حول "المقابل الإسرائيلي المطلوب تقديمه للاتفاق مع السعودية"، إلى أنه ما يمكن أن تقدمه "إسرائيل" إلى "بايدن" والسعوديين يتمثل باستمرار تعليق السيادة لمدة أربع سنوات أخرى، حتى نهاية العام 2028، بحيث سيحصل السعوديون على التزام إسرائيلي، بأنه حتى لو دخل رئيسٌ جمهوريٌّ إلى البيت الأبيض فإن الحكومة اليمينية الكاملة ستمتنع عن الخطوة التي يريدها العديد من اليمينيين، والتي يطلق عليها (الضم).
وعلى الرغم من أن السعودية ستسعى إلى الحصول على إنجاز أكبر مما حققته الإمارات في اتفاقها التطبيعي، إلا أن تمرير أي تنازل حتى تمديد ما جرت الموافقة عليه في العام 2020 لن يكون يسيرًا في ظل حكومة اليمين الحالية، ما دفع فريق الرئيس الأمريكي "بايدن" إلى مناقشة المعارضة الإسرائيلية في خيار الانضمام إلى حكومة "وحدة وطنية" مع "نتنياهو"، تستطيع تحصيل اتفاق بحجم اتفاق التطبيع مع السعودية، إلا أن جواب المعارضة كان بأنها قد تدعم الاتفاق من الخارج، لكنها لن تنضم تحت أي ظرف من الظروف إلى "نتنياهو".
وخلصت الورقة إلى أنه وعلى الرغم من جدية وحجم التحرك الكبير لدفع الصفقة الثلاثية بين السعودية و"إسرائيل" والولايات المتحدة، التي تشمل الوصول إلى تطبيع سعودي-"إسرائيلي"، وترتيب العلاقة الأمريكية-السعودية، فإن المؤشرات على نجاح المساعي للوصول إلى اتفاق كامل بالخصوص مؤشرات ضعيفة، لمجموعة واسعة من الاعتبارات السالف ذكرها، والتي من الصعب التراجع أو التنازل عنها لدى كل طرف وفق الظروف الحالية داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.
واعتبرت الخلاصة أن هذا الضعف لن يعني بالضرورة فشل المساعي في تقليص المسافة بين الأطراف الثلاثة، إذ من المرجح أن ينجحوا في الوصول إلى ترتيبات واسعة من التفاهم وتطوير العلاقات الثنائية بين السعودية و"إسرائيل"، والسعودية والولايات المتحدة، دون الوصول إلى اتفاق شامل، جزئيًّا إلى حين انتهاء الانتخابات الأمريكية وحسم مصير الكرسي الرئاسي في البيت الأبيض، والحسابات الجديدة في حينه.
فيما لن تتراجع المملكة العربية السعودية عن مطامحها في تدشين برنامج نووي، وتوسيع قدراتها التسليحية، وهي ترى في التطورات الجديدة في العالم فرصة ذهبية لتحسين موقعها التفاوضي مع الأقطاب الجديدة المتشكلة، خصوصًا مع دخول الصين بقوة بهدف توسيع نفوذها في الشرق الأوسط، واستعدادها لتقديم الكثير من المحفزات للسعودية دون التعقيدات والاشتراطات التي تضعها الولايات المتحدة لمثل هذه المشاريع مع السعودية، ما يمنح السعودية هامشًا واسعًا للمناورة مع الولايات المتحدة، التي لا تريد خسارة المملكة بوصفها حليفًا استراتيجيًّا وقاعدةً مركزيةً في الشرق الأوسط.
الجدير بالذكر أن مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، في برنامج الإنتاج المعرفي، يقوم بتقديم أوراق التقدير الاستراتيجي، في قضايا محددة يرى المركز أهميتها، ويتم نشرها عبر المنصات الإعلامية الخاصة به.