- توفيق أبو شومر
استخدم المثقفون في الألفية السالفة، في عصر اليسار والشيوعية والاشتراكية تعبير (جمهوريات الموز) للإشارة إلى الدول الديكتاتورية المحكومة بالطغاة وأصحاب رؤوس المال، ممن كانوا يُعادون الديموقراطية والاشتراكية، فقد كان مثقفو العرب يصفون بعض دول العرب بأنها جمهوريات موز أي حكومات ديكتاتورية!
اقتُبس مصطلح (جمهوريات الموز) من الروائي الصعلوك والكاتب الأمريكي الساخر، أوليفر هنري المولود عام 1862 والمتوفى عام 1910م، وكان اسم الرواية التي ظهر فيها مصطلح، جمهوريات الموز هي رواية (الملفوف والملوك) The Cabbages and Kings كتبها عام 1904م.
عاش الكاتب تجربة ديكتاتورية الحكام في ظل حكام دول أمريكا الجنوبية، رصد خلال إقامته في تلك البلدان بسخرية مُرَّة كيف قررت أمريكا أن تحتل هذه الدول وتسخرها لخدمتها بلا جيوش أو معارك حربية، فقط باستخدام سلاح شركات التجارة الأمريكية، اقتبست أمريكا هذه التجربة الاحتلالية من بريطانيا في القرن التاسع عشر، حين استخدمت بريطانيا شركة الهند الشرقية لاحتلال بعض الدول، ففي عام 1840م زرعتْ هذه الشركة مخدر الأفيون في الهند وباعته في أسواق الصين لإذلال الصينيين، ونشر إدمان المخدرات!
وقد برزت فكرة جمهوريات الموز في ذلك العصر حينما طُرح سؤالٌ أمريكي إقطاعي: لماذا يُتعب الأمريكيون أنفسَهم، ويخصصوا مساحات واسعة للزراعة وينفقوا عليها الأموال، ويستهلكوا أرضهم، وفي الوقت نفسه هناك بديلٌ رخيص الثمن؟! كانت الإجابة على السؤال هي أن تتولى شركات أمريكية خاصة احتكار زراعة الموز والفواكه في تلك البلدان، وأن تُسقِط هذه الشركات حكام تلك البلدان بالرشاوى والفساد، وتحولهم إلى حكام يسعون للكسب المادي هم وعائلاتهم، وليسرقوا شعوبهم ويحكموا أهلهم حكما ديكتاتوريا!
هذا المصطلح الساخر (جمهوريات الموز) لم يعد ساخرا في عصرنا بل هو السياسة المطبقة حاليا في أكثر دول العالم، لأن معظم دول العالم أصبحت جمهوريات موز! نحن نعيش اليوم في عهد (أم شركات الاحتكار في العالم) وهي منظمة التجارة العالمية، فهي اليوم تحتكر كل مجالات الحياة؛ الطعام، والدواء، والكساء، وما حكامُ معظم دول العالم سوى بائعي موز يقومون بتنفيذ سياسات هذه المنظمة بوسائل مختلفة، بعضهم يشجب الشركات في العلن ولكنه يمنحها الترخيص في السر، وبعضهم يرفع شعارات الوطن خطابيا، غير أنه يبني مملكته الخاصة خارج الوطن، وبعضهم يُركز دعائم هذه المنظمة ويتقاضى منها الربح الوفير بعد أن يحول شعبه إلى قطيع من المستهلكين!
أصبح معظم رؤساء العالم يؤمنون بأن بقاءهم في الحكم مرهونٌ بمقدار ولائهم لهيمنة أباطرة التجارة في العالم!
هذه المنظمة الدولية الكبيرة لم تكتفِ بالهيمنة التجارية والاقتصادية، بل إنها ابتدعت جمهوريات أخرى جديدة لتُحكم قبضتها على كل رقاب العالمين وتحدد مصيرهم، لهذا ابتدعت جمهورياتٍ رقميةً جديدة تعزز هيمنتها على كل دول العالم، فاستحدثت منظومة جمهوريات شبكات التواصل الرقمية، لتسخرها لمصلحتها، ولتهيمن على العالم أجمع!
فهناك جمهورية الفيس بوك وهذه هي الجمهورية الشعبوية العامة، تجاوز مفعولُها القارات والمحيطات، وكذلك جمهورية التويتر وهي جمهورية الخاصة من الساسة والمتنفذين والرواد، وهناك جمهوريات منافسة أخرى جديدة!
أصبح مسيرو هذه الجمهوريات الرقمية هم أصحاب (لجام)السيادة والسيطرة، فهم ديكتاتوريو الألفية الثالثة، يُسيِّرون جمهورياتِهم برموت كونترول عن بعد، يتقاضون أرباحهم من صيدهم الوفير، يراكمون أرباحهم من الزبائن والمستهلكين، هؤلاء أكملوا دائرة السيطرة، فتحوا سجونهم الخاصة، وفرضوا العقوبة على كل من يخرج عن تقاليد كل جمهورية من الجمهوريات، وعقوباتهم في عالم اليوم ربما هي الأقسى من عقوبات جمهوريات الموز السابقة، لأنهم اليوم يغتالون الفكر والثقافة بلا أسلحة، ويُقصون ثقافات الوعي، ويخنقون المخالفين على مقاصلهم بمنع الأكسجين عن حناجر المبدعين بطريقة سهلة ميسورة وهي، الحجب والمنع وإغلاق الصفحات، وتوقيع العقوبات على المعارضين، وإصدار أحكام الإعدام على الشاذين عن القطيع والمبدعين!
إنَّ أفظع أشكال اغتيال مستقبل الأوطان؛ أنهم ينتقون المبدعين والأكْفَاء ويمنحونهم جوازات سفر ومكافآت مادية ومعنوية كبيرة بشرط أن يُسخروا إبداعاتهم لتحقيق أهداف مشغليهم، وهم بهذا يُفرغون أوطانهم من الكفاءات، لتظل تلك الأوطان دفيئات لتربية وتسمين البشر لذبحهم على موائد الكبار!
للأسف، لم ينجح معارضو سياسة جمهوريات الموز، وجمهوريات الشبكات الرقمية، حتى اليوم، في ابتداع جمهوريات حريات وديموقراطيات تلائم ألفيتنا الراهنة، كمقدمة ثورية لعصر النهضة والتحرر من أغلال جمهوريات الموز وجمهوريات التكنلوجيا الرقمية!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت