- بقلم: مؤيد عفانة/ باحث اقتصادي
تعمل الحكومة الفلسطينية على قدمٍ وساق لإنجاز خطتها التنموية الوطنية الجديدة للأعوام 2024-2029، والتي تأتي استكمالاً لأجندة السياسات الوطنية 2017-2022، والخطة الوطنية للتنمية 2021-2023، وقد اعتمدت الحكومة منهجية للتخطيط الاستراتيجي، وعملت على تقييم الاستراتيجيات السابقة، وحددت أولوياتها الاستراتيجية وهي: الصمود المقاوم، الانفكاك عن الاحتلال، تدويل الصراع، توسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني، تحسين الخدمات للمواطنين، الإصلاح الحكومي، تعزيز الرواية الوطنية.
وهنا لا بدّ من وقفة مع مقوّمات نجاح التخطيط الاستراتيجي، حتى لا يصبح "ترفاً من القول"، أو مجرد وثيقة جميلة تتزيّن بها مكاتب الوزارات دون انفاذٍ حقيقي لمضامينها، حيث أن من أهم عناصر نجاح الاستراتيجيات في القطاع الحكومي هو إشراك جميع أصحاب المصلحة من داخل القطاع أو خارجه، في مختلف مراحل التخطيط والتنفيذ والمتابعة والمراقبة والتقويم، فهي ليست عملية هرمية تعّد بشكل بيروقراطي، أو أوتوقراطي، وإنما هي عملية تفاعلية بين كافة الأطراف ذات الصلة والمستويات الإدارية المختلفة، ولا يمكن اعداد الاستراتيجيات من خلال الاتكاء على الخبراء من خارج القطاع، دون فهم شمولي لطبيعة عمل القطاع ذاته، ولا تصلح نظرية الاستراتيجيات الجاهزة، ذات القوالب المنمّطة التي تُسقط من علٍ على القطاع المستهدف، حتى وان اُعدّت على يد أمهر الخبراء، فالاستراتيجية تنبع بشكل رئيس من التحليل العلمي والواقعي الدقيق لبيئة عمل الدولة/ المؤسسة الخارجية والداخلية، وهي المصفوفة التي تربط بين الأهداف والسياسات والوسائل والأساليب.
والسؤال هُنا، هل يمكن اعداد استراتيجيات حكومية ناجحة، في ظل ديناميات السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والسياقات الاجتماعية المتسارعة؟ الإجابة، نعم، وتوجد أمثلة كُثُر في العالم منها سنغافورة وإنشاء اقتصاد قائم على المعرفة، أو ألمانيا ونهوضها من الرماد بعد الحرب العالمية الثانية وقيادتها لركب الصناعة العالمية، ونجاحها في العمل والتقدم بعد توحيد شطريها، وماليزيا والتنمية المستدامة ونهضة التعليم، وعلى النقيض تماماً فإن الاستراتجية التي اُعتمدت في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ابّان تسعينات القرن الماضي باءت بالفشل، رغم اعداد استراتيجية "الإصلاح" على خبراء عالميين، وخبراء البنك الدولي، مع دعم لا محدود من الحكومات الغربية، حيث أن التحوّل من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي لم يراعي العوامل الداخلية والخارجية، والمنظومة القائمة، مما خلق تشوّهات بنيوية في الاقتصاد والمجتمع الروسي، ظهرت افرازاتها في جملة مؤشرات اقتصادية واجتماعية مثل انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة كبيرة، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، وانخفاض قيمة الروبل الروسي، والجريمة المنظمة في المجتمع، والفساد، فاضحت التجربة الروسية في نهايات القرن الماضي انموذج لفشل الاستراتيجيات، رغم براعة مُعديها النظرية، وكذا الأمر في استراتيجية أمريكا وحلف الناتو في أفغانستان بعد 20 عاماً من احتلالها، ولربما المشهد "الأيقوني" لعشرات الأفغان متشبثين باليأس، وهاربين للموت، على جناح طائرة أمريكية عسكرية، لن يُمحى من الذاكرة الإنسانية لسنواتٍ طوال.
لذا لا بد أن يلتف صانعي القرار، ومُعدّي الاستراتيجيات إلى جملة قضايا جوهرية في اعداد الاستراتيجيات الوطنية ومنها: التحليل الموضوعي الدقيق والمعمّق للبيئة الداخلية والخارجية للمؤسسة، من أجل الوقوف الدقيق على نقاط القوة لاستثمارها في معالجة نقاط الضعف، باستثمار الفرص المتاحة، وتذليل التحديات، كون التحليل الدقيق مدخل رئيس لنجاح التنفيذ، ومن القضايا الهامة واقعية الخطط الاستراتيجية، واعتماد الأهداف من خلال مواصفات الهدف SMART لضمان نجاح تنفيذها، وضرورة توفير الموارد المالية والموازنات المطلوبة، وعدم الاتكاء على الغيب في توفير الموازنات، وتفعيل اللامركزية الرشيدة، والتشاركية في اعداد الخطط الاستراتيجية لضمات تناغم التنفيذ، واشعار العاملين بالملكية الخاصة للخطة، والتقليل من مخاطر مقاومة التغيير، واعداد هياكل تنظيمية مرنة، تتضمن وصف وظيفي ومواصفات وظيفية محددة، وخطوط سلطة واضحة، لضمان انسيابية العمل، والرشاقة التنظيمية، واشتقاق خطط تنفيذية وتشغيلية واقعية وتحقق الأهداف الاستراتيجية، وضمان تناغم الخطط التشغيلية والأنشطة مع مجمل الاستراتيجية، والوقاية من الاغتراب البيئي من خلال تناغم الاستراتيجية مع بيئة العمل القائمة، وتوفير البيانات والاحصائيات المطلوبة من اجل التخطيط الاستراتيجي الرشيد القائم على العلم والمعرفة، بعيداً الاجتهاد "الجزافي" والأحكام المسبقة، وبناء نظام رقابة للخطة الاستراتيجية قائم على الرقابة الوقائية أولا، ومن ثم الرقابة المستمرة، من خلال مراقبة أداء الاستراتيجية وتحديد الانحرافات إن وجدت ومعالجتها أولا بأول، وتعزيز دور إدارة الموارد البشرية في تنفيذ الأداء المتميز من أجل التنفيذ الناجح للخطط الاستراتيجية.
وختاماً، لا يمكن للاستراتيجيات أن ترى النور، وتحقق النجاح دون حوكمة للعمليات الإدارية على صعيد المستويات كافّة، واعتماد مفهوم إدارة الجودة الشاملة، والالتزام بالكفاءة والفاعلية، وتبني المفاهيم الحديثة في القيادة الإدارية، ومنها القيادة التحويلية والتشاركية، واعتماد الهندرة، وتحصين المنظومة من مخاطر الفساد بأشكاله كافّة، وتعزيز مبادئ الشفافية وقيم النزاهة، ونُظم المساءلة والرقابة، من أجل الحصول عل مخرجات صحيحة ووفق المطلوب والمخطط، كون أي خللٍ في المدخلات أو الإجراءات قطعاً سيؤدي إلى مخرجات مشوّهة، كما أن كافة الإجراءات الفنية والإدارية في التخطيط الاستراتيجي لن تُؤتِيَّ أُوكُلُهَا دون إرادة سياسية داعمة للتنفيذ والتغيير.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت