- | وليد العوض*
كنت قد توقفت مع بدء سريان اتفاق الهدنة عن كتابة مقالي اليومي، بعد أن أصبح من الملح اغتنام كل دقيقة لتفقد من بقي على قيد الحياة من الاعزاء والمعارف، وايضاً لكل من بقي من الناس في مدينة غزة وشمالها، وتفقد المنازل والشوارع والمؤسسات في غزة التي تغيرت معالمها.
فمع الدقائق الأولى لسريان هذه الهدنة المؤقتة الساعة السابعة صباح يوم الجمعة الموافق 24/11/2023 التي انتظرها الغزيين على صفيح الموت، وقبل وصول آليات جرافات البلدية التي لم تدمر بعد، من أجل إزالة الركام من الشوارع الرئيسة تسهيلاً لحركة الناس، أنطلقت مشياَ على الاقدام من مقر جمعية الشبان المسيحية الكائن في الربع الأول من شارع الجلاء، فكانت الصورة تتحدث عن نفسها، صور النار والدمار.
ركام المباني ملقاة على جانبي الشارع بعد ان قلبتها الصواريخ رأساً على عقب، مئات المباني الأخرى أصاب القصف شرفاتها وبعض طوابقها فانحنت تحتضن بعضها البعض، وقد أصبحت أيضاً غير ملائمة نهائياَ للسكن.
شارع الجلاء لم يعد ذاك الشارع العريض الأنيق، ولم يعد يحمل أية ملامح بعد ان غرزت الجرافات فيه انيابها وحفرت فيه الصواريخ مئات الحفر. تتجه جنوباً لترى نفسك تمشي بين عشرات الحفر، تستنشق رائحة الدخان والغبار والموت الذي ملأ المكان.
اتجهت من مفرق شركة جوال نحو الغرب، أمشي بين الدمار والمركبات المحترقة التي عجنتها جنازير دبابات الاحتلال، وقد اختفت تقريباَ الاشجار الوارفة التي كانت تظلل هذا الطريق الأنيق، ومن شارع الشهداء جنوباً حيث ثلاث جثث منتفخة لشهداء ملقاة على حافة الطريق، امرأة ورجلين وقد بدأت بالتحلل، غطيتها ببطانيات ملقاة في الشارع، وجنوباً أيضاَ باتجاه مدارس الوكالة أمشي وفي القلب حسرة وفي العين دمعة، عربات ملقاة وسيارات مطحونة بآلة الدمار الصاروخي والمدفعي، محلات محترقة ببضائعها. وفي شارع الثلاثيني، يعم الدمار الكامل الجامعة الاسلامية والمعهد الديني في الأزهر، وإلى الأمام نحو جامعة الأقصى، ترى عشرات المركبات المحترقة، والحفر الكبيرة والبيوت والشرفات المدمرة، وصولاً نحو مقر مديرية التربية والتعليم في حي تل الهوا، فلا شيء يختلف عن أي دمار آخر رهيب، أصاب البشر والشجر والحجر.
بدأت بالاتجاه نحو دوار أبو مازن وبرج الظافر حيث أسكن، وعلى الطريق الذي لم يعد له معالم، أسرع الخطى قبل الاختناق من الدخان والغبار ورائحة الموت المنبعثة من كل حدب وصوب ، وهناك من عند دوار المالية شاهدت البحر، فأيقنت أن الخطر بدأ يقترب أكثر، ومع ذلك واصلت السير بمحاذاة بقايا الجدران المتهاوية إلى أن اقتربت من دوار أبو مازن، فشاهدتها تلك الوحوش الحديدية من الدبابات مكشرة عن أنيابها، تزأر متحفزة في ميدان القتال، تحرك مدافعها باتجاهات مختلفة وتطلق رشقات رصاص رشاشها بشكلٍ متقطع، ومع ذلك عزمت على الوصول للبيت الذي يفصلني عنه مئات الأمتار.
ركضت بكل ما لدي من قوة وإرادة، واجتزت الدوار واحتميت بجدران مسجد متهدم من رشقة رصاص تمنع كل من يريد الوصول للمنطقة الممتدة من دوار أبو مازن وغرباً باتجاه الشاليهات. ومضيت باتجاه برج الظافر رقم٢، هناك وجدت شخص لم يغادر المكان، نصحني وألحَ عليّ بعدم اجتياز الشارع غرباً، لكنه العناد وربما التحدي واختبار المروة، احتجزت المئة متر في لحظة تحرك الدبابة من مكان لمكان، وهكذا وصلت البرج حيث بيتي، فكان ملقى على مدخله جثة شهيدة والركام يغطيها.
بعد إجتياز هذه الطريق، دبت الحماسة ببعض من كانوا ينتظرون لتفقد منازلهم واحبابهم، فتبعوني بذات الطريقة ومنهم من أراد ان يحتجب بجثة اخيه الشهيد فساعدته على الوصول للمكان، تفقدت شقق العمارة المكونة من ١٤ طابق تضم ٥٤ شقة فوجدتها تعرضت كغيرها لأكثر من عشرة قذائف، بسببها تطايرت بعض جدرانها وأبوابها كما نوافذها التي غطى ركامها وزجاجها على ورداتها التي كانت تزين مدخلها، التي كنا نحرص للحفاظ على جماله.
شقتي كما غيرها أصيبت بقذيفة وعشرات الطلقات الثقيلة، لا الأبواب ولا النوافذ بقي أياَ منها في مكانه، لكنها بقيت صامدة وإليها سنعود حتماً. القيت نظرة على جميع الشقق، فوجدت معظمها دون أبواب، فأقفلتها مؤقتاً حتى أفكر بحل ما مختلف. تناولت عكازتي من غرفة مكتبي لاستعين بها في طريق العودة الصعب، هذه المرة سلكت طريق مختلفة، رغم أنها لا تقل خطورة عن سابقتها، اتجهت من البيت نحو دوار أبو مازن ثم إلى دوار أنصار حيث الدمار وآثار القذائف والموت في كل مكان، وكانت الناس قد بدأت تغامر وتتحرك لتتفقد منازلها. وفي الطريق تفقدت منزل شادي أيوب وحسام عبدو، ثم اتجهت لمجمع مستشفى الشفاء، حيث كانت ساحة الابادة الشاملة، دمار ودماء والكل يبحث عن عزيز.
عدت لمكان اقامتي سالكاً طريق الوحدة حتى اتحاد الكنائس، ثم طريق الثورة إلى أن وصلت البيت متعباً، ولكن بعزيمة العودة مرة أخرى لإحضار بعض ما يلزم. بعد الظهر وإلى أن استقرت الهدنة وأصبحت الحركة أكثر سلاسة، ذهبنا بسيارتي الخاصة رغم ما لحق بها من ضرر، قلت للعائلة أن الطريق أمان وهي ليس كذلك، وعند الوصول لمنطقة الخطر، قلت لهم الآن سنجتاز الدوار والمفرق بمغامرة حافظوا على العزيمة، وانطلقت مسرعاَ إلى أن وصلنا البرج الذي كنا نقيم فيه، جمعنا واحضرنا ما نحتاج من ملابس وطحين ومعلبات وما كنا قد تمونا به قبل الحرب.
أخذنا ما نريد وعقدت العزم على أن أعود لاحقاَ لإحكام اغلاق الشقق، وهكذا فعلت في اليوم التالي، اشتريت جنازير وأقفال كبيرة، وذهبت مصطحباً مصطفى سالم الشاب الذي سبق وكتبت عن نخوته وشجاعته، ومثله عاصم أيضاً، مع أم حسين وكذلك ابنتيّ نورا وكلارا وزوجها. وهناك جمعنا وثبتنا أبواب حديد متطايرة، وأغلقت فيها بإحكام الجنازير والاقفال كل مداخل البرج، حرصاً على مقتنيات البيوت التي بدأ بكل أسف اللصوص بغزوها ونهب ما فيها.
وهكذا خلال أيام الهدنة التي يتم تجديدها بالقطارة، تفقدت جباليا والشاطئ والشيخ رضوان وشارع النصر وعمر المختار والصفطاوي، وكذلك مداخل بيت لاهيا وشارع النفق والزيتون وتل الهوا والشجاعية والصبرة والتفاح والساحة ومستشفى المعمداني، فكانت مشاهد الدمار التي لا توصف، حيث شلت قلمي على الكتابة اليومية، إلى أن عدت مفعماً بالأمل.
* عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت