تقرير أحمد زقوت - استفحلت أزمة السيولة النقدية في قطاع غزة، وزادت الشكاوى من نظام "التكييش" وأصحاب محال الصرافة الذين ابتزوا المواطنين من خلال مفاقمة معاناتهم بفرض نسبة عمولة كبيرة لقاء الحصول على أموالهم نقداً ولم يقتصر الأمر على ذلك الأمر فحسب، بل بعضهم قد احتال ونصب عليهم، حيث ظهرت في الآونة الأخيرة أزمة الحصول على المساعدات النقدية عبر "أكواد سرية" للحوالات التي ترسلها بعض المنظمات الدولية مثل "اليونيسف"، ما جعل المواطنين يتذمرون من الصرافين في ظل تواصل عدوان الاحتلال الذي يثقل كاهلهم.
قصص ضحايا الاستغلال
ووسط هذا الواقع المرير، وقعت المواطنة أمل السكني ضحية لأحد الصرافين الذي سرق المساعدة المالية التي قدمتها لها منظمة دولية، تقول لـ "قدس نت للأنباء"، إنّه "قد وصلتني رسالة من اليونيسف تفيد بأنني استفدت من مساعدة نقدية قدرها ألف شيكل، مع رقم هويتي وكود سري لاستعماله عند صرفها"، مضيفةً أنّ "الوضع المادي كان متأزماً لدي، فاضطررت إلى الذهاب للخيار الوحيد في الواقع وهو التوجه إلى أحد مكاتب الصرافة الذين يعملون على صرفها".
وتوضح السكني، أنّني "قدمت للصراف رسالة المساعدة من خلال هاتفي، وقد أخذ اسمي ورقم هويتي الشخصية والكود السري، وبعد فترة وجيزة أخبرني أنّ رصيدي صفر"، مبينةً أنّها بعد هذا الحديث عادت إلى البيت، وأخبرها أحد معارفها أنّ تقوم بالاتصال بالمنظمة من خلال الخط الساخن للاستفسار أو لتقديم الشكوى"، مشيرةً إلى أنّ "موظف المنظمة أبلغني أنّه تم صرف المبلغ عند الصراف الذي توجهت إليه".
وتلفت السكني، إلى أنّه راودتها الشكوك حول الصراف، فتوجهت في اليوم التالي إليه كي تخبره بأنها قد تواصلت مع المنظمة، وأبلغتها أنّه قد تم صرفها لديك، لكنّه نفى مراراً وتكراراً، فقمت بالاتصال بالمنظمة وأنا أقف أمامه، وبالفعل أخبره موظف اليونيسيف بذلك، موضحةً أنّه "بعد إنهاء الاتصال مع المنظمة، اعترف لي بأنّه قد صرفها أمس حينما أخذ معلومات الرسالة وخصوصاً الكود السري، واشترط حينها عليّ بأن يقتطع ثلث المبلغ، وأنّ أستلم نصف المبلغ المتبقي بأوراق نقدية تالفة وقديمة حيث يرفض الباعة التعامل بها".
وليست السكني وحدها التي تعرضت للابتزاز وشجع الصرافين، فقد وقعت المواطنة منى أبو شكيان فريسة لنفس القضية ولكنّ بشكل مختلف، إذ وصلت رسالة من إحدى المنظمات تقدّم فيها مساعدة نقدية لها إلى هاتف شخص آخر، وقام ذلك الشخص بالتوجه لأحد محال الصرافة لصرف تلك المساعدة النقدية بغير حق.
وتبين أبو شكيان، لـ "قدس نت للأنباء"، أنّ "صرف تلك المساعدة تتطلب وجود الشخص نفسه وهويته الشخصية والكود السري المذكور في الرسالة كي يصرفها، لافتةً إلى أنّني "قد تفاجأت بصرفها من قبل ذلك الشخص المتلقي لرسالتي بالخطأ، من خلال توجهه إلى أحد الصرافين الذين يعملون في السوق السوداء، حيث اتفقوا على صرف المساعدة دون التحقق من الشخصية المرادة، وذلك باستخدام الكود السري وصرفه على ماكينة صرافة تابعة لإحدى البنوك، مقابل نسبة مالية من إجمالي المبلغ.
الصرافون واستغلال الحاجة
توجه معّد التقرير، إلى أحد الصرافين محمد (رفض الإفصاح عن اسمه)، وبين أنّ "الكثير من العاملين بمجال الصرافة والتكييش الذين يمتلكون السيولة يستغلون حاجة الناس الملحة للمال في ظل عدم وجود بنوك أو صرافات آلية، ويبتزون المواطنين من خلال فرض نسبة عمولة كبيرة على المبلغ المراد سحبه تصل إلى (25%) أو أكثر من إجمالي المبلغ، حيث كان قبل العدوان تصرف الحوالات عن طريق ويسترون يونيون أو موني غرام بنسبة لا تتجاوز الـ( 2%)"، مبيناً أنّ "مكاتب الصرافة تتلاعب بأسعار صرف العملات النقدية، ولا يوجد أي رقابة عليهم، فهم يعملون بحرية كبيرة".
يؤكد محمد، لـ "قدس نت"، أنّ "بعض الصرافين يسرقون أموال المواطنين من خلال ماكينة الصرافة الإلكترونية بكتابة الكود السري عليها، أو بالاتفاق مع أشخاص مقابل مبلغ مالي محدد لقاء توفير أكبر قدر من الأكواد السرية المرسلة من قبل المنظمات الدولية والتي تصل بشكل خاطئ لبعض المواطنين، مستغلين جهلهم بهذا الأمر".
ويرجع الصراف إلى أنّ دافع ابتزاز المواطنين واستغلالهم، هو شجعهم بجني أكبر قدر من الأموال بأسرع وأقصر الطرق، وهؤلاء الصرافين ليس لديهم أي وازع ديني أو أخلاقي تجاه أبناء شعبهم الذين يعانون ويلات الحرب، متهماً "البنوك بالتواطؤ مع بعض الصرافين الذين باتوا معروفين بأنّهم من العاملين في السوق السوداء".
أسباب الأزمة وحلول مقترحة
وظهرت أزمة سيولة نقدية حادة في قطاع غزة منذ بداية الحرب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إذ تعرض عدد من فروع المصارف ومقراتها للتدمير نتيجةً للقصف المستمر في كل أنحاء القطاع، فضلاً عن رفض الاحتلال إدخال النقد "الكاش"، الأمر الذي نجم عنه اكتناز كميات النقد في أيدي الجمهور والتجار وحبسها عن مجراها الاعتيادي في الدورة النقدية، وفقاً لسلطة النقد الفلسطينية.
وطبقاً لسلطة النقد، فإنّها رصدت عمليات ابتزاز يقوم بها أشخاص وتجار وبعض أصحاب محلات الصرافة غير المرخصة، باستخدام أجهزة الخصم المباشر في نقاط البيع، أو التحويلات المالية على التطبيقات البنكية، إذ يستغل هؤلاء حاجة المواطنين إلى النقد مع استمرار تعذُّر وصولهم إلى أفرع البنوك والصرافات الآلية، ويتقاضون نسبة تصل إلى 15% على أي مبلغ يتم سحبه من حساب المواطن بواسطة البطاقات البلاستيكية أو الحوالة، مقابل تسليمه الجزء المتبقي نقدًا.
بدوره، يقول المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر، إنّ "ظاهرة استغلال المواطنين الحاصلين على مساعدات نقدية من المؤسسات الدولية منتشرة في القطاع بشكل كبير"، مضيفاً أنّ مشكلة "أكواد" الحوالات المالية من المنظمات الدولية هي جزء لا يتجزأ من أزمة السيولة، وذلك مع ظهور حالة صرف أكواد المساعدات في السوق السوداء المالي.
ويوضح أبو قمر، لـ "قدس نت"، أنّ "آليات الاستغلال السيئة لأزمة السيولة النقدية أظهرت حالة تواطؤ بين بعض الصرافين وبعض التجار الذين تتجمع لديهم مبالغ نقدية كبيرة، وخصوصاً في ضوء انتشار آلية سوق البسطات وغياب مراكز التسوق التقليدية، بل وفي بعض الأحيان دخول بعض المواطنين العاديين الذين تتوفر معهم مدخرات من الكاش ضمن حالة الاستغلال، إذ عمل بعضهم بشكل مباشر وفردي في ظاهرة التكييش".
ويقترح أبو قمر، حلولاً من أجل الانتهاء من هذه المعضلة ومساندة المواطنين الذين يعيشون أوضاعاً مأساويةً، أولها الضغط على الاحتلال من خلال سلطة النقد لإدخال العملة التي تنقص الأسواق واستبدال العملة التالفة منها، وفقاً لبروتوكول اتفاقية باريس الاقتصادية، وتشجيع العمل بنظام الدفع الرقمي والمحافظ الإلكترونية، وتشجيع الدور الرقابي على مكاتب الصرافة لردع الاستغلال.
دور الجهات الرقابية
وفي غضون ذلك، أكّد مدير مكتب ائتلاف "أمان" في غزة، وائل بعلوشة، أنّ أزمة السيولة تمثل عبئًا إضافيًا وغير مسبوق على المواطنين في القطاع خلال حرب الإبادة الجماعية، التي جاءت نتيجة منع الاحتلال إدخال العملات النقدية بجميع فئاتها، خاصة التالفة منها.
وأوضح بعلوشة، في حديثه لـ"قدس نت"، أنّ "بعض شركات الصرافة، وتحديدًا غير القانونية منها، استغلت أزمة السيولة في غزة عبر فرض نسب عمولة مبالغ فيها، مستفيدة من غياب الرقابة من قبل جهات الاختصاص، وخصوصًا سلطة النقد، بالإضافة إلى غياب أي خيارات بديلة أمام المواطنين للحصول على أموالهم، نظرًا لتوقف عمل البنوك بشكل شبه كامل".
وفيما يتعلق بالمساعدات النقدية التي تقدمها بعض المؤسسات الدولية لأهالي القطاع، أكد بعلوشة أنّ "عملية تقديم المساعدة يجب أن تخضع لرقابة شاملة تغطي جميع مراحل الخدمة، وأهمها مرحلة استلام المساعدة النقدية من الجهة المكلفة بذلك، لضمان حماية المستفيدين من أي نوع من الابتزاز أو الاستغلال". وشدّد على أنّ "ضعف الرقابة من قبل المؤسسات المقدمة للمساعدات، إضافة إلى شبه الغياب للدور الرقابي الرادع لسلطة النقد والجهات المعنية بحماية المستهلك، أسهم في استمرار هذه الظاهرة الخطيرة، التي لم تقتصر على أموال المواطنين فحسب، بل امتدت إلى المساعدات المخصصة للفئات الأكثر هشاشة في ظل الوضع المتدهور الذي يمر به القطاع".
سبل حماية المستفيدين
وحول أساليب حماية المستفيدين، شدد مدير "أمان" على ضرورة تكثيف الرقابة على شركات الصرافة من خلال زيادة التنسيق بين سلطة النقد والجهات الحاكمة في غزة، لتوفير بيئة رادعة للمحتالين والمبتزين. وأضاف أنّه يجب بذل المزيد من الجهود للضغط على الاحتلال للسماح بإدخال السيولة النقدية، واستبدال العملة التالفة والإصدارات القديمة من عملة الشيكل.
وأشار بعلوشة إلى أهمية التنسيق مع المؤسسات الدولية لتعزيز جهودها في إدخال السيولة، بالإضافة إلى توعية المواطنين والتجار بأن العملات المهترئة والإصدارات القديمة من عملة الشيكل ما زالت تتمتع بقوة الإبراء القانوني، وأن السلطة ستقوم باستبدالها فور رفع القيود على حركة النقود في القطاع.
كما دعا إلى "تحفيز موظفي سلطة النقد للعودة إلى أداء مهامهم، وزيادة جهود المتابعة والرقابة الميدانية في ظل الظروف الراهنة، بما في ذلك تمكين مراكزها من متابعة الشكاوى وممارسة دور رقابي على شركات الصرافة، واتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين منهم بعد انتهاء الحرب". وأكد بعلوشة على ضرورة التعاون بين سلطة النقد والغرف التجارية والقطاع الخاص لاتخاذ إجراءات تحدّ من فرض التجار عمولات مرتفعة عند بيع السيولة النقدية، والترويج لطرق الدفع الرقمية كبديل مناسب.
تعزيز المساءلة المجتمعية
وشدد بعلوشة على أهمية تعزيز المساءلة المجتمعية من خلال إنشاء أجسام تنسيقية تضم ممثلين عن سلطة النقد، والعشائر، وجهات إنفاذ القانون في غزة، واللجان المحلية بهدف التنسيق المشترك. وأوضح أهمية القيام بحملات مناصرة لمناهضة استغلال المواطنين وابتزازهم عند محاولة الحصول على النقد.
وأوصى بإنشاء مبادرات وطنية يقودها المجتمع المحلي لتعزيز قيم النزاهة والإدارة الرشيدة والمساءلة المجتمعية. كما اقترح نشر قوائم سوداء بأسماء من يثبت تورطهم في هذه العمليات، ورفعها إلى جهات الاختصاص لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم بعد انتهاء الحرب.