شمال غزة يصرخ من تحت الأنقاض: ألم بلا حدود وأسئلة بلا إجابات

منزل عائلتي في مشروع بيت لاهيا

تقرير هاني عيسى رئيس تحرير وكالة قدس نت للأنباء شمال قطاع غزة صباح يوم الأحد الموافق 19/1/2025، أول أيام اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل  بدأت رحلة شاقة إلى شمال قطاع غزة لرصد حجم المأساة والدمار. كانت الشوارع تغص بمئات العائلات العائدة لتفقد منازلها، وسط مشاهد تعكس حجم الكارثة التي حلّت بالقطاع جراء عدوان استمر أكثر من 470 يوماً.

خرجتُ من المنزل الذي نزحتُ إليه بمدينة غزة متجهًا إلى شمال القطاع لمتابعة التطورات الحاصلة على الأرض، معتقدًا أنني سأكون من أوائل الأشخاص الذاهبين إلى هناك.

الدمار في شارع الجلاء بغزة

وما إن وصلتُ إلى "شارع الجلاء" بمدينة غزة، والذي يعتبر الأقرب لشمال القطاع، وجدتُ المئات من الأهالي متجهين إلى محافظة الشمال بصحبة أطفالهم الصغار، وذلك رغم صعوبة السير في الطرقات المغلقة والمدمرة بفعل الغارات الإسرائيلية على طول أيام الحرب العدوانية على القطاع.

شارع الصفطاوي: صعوبة المرور والدمار المتراكم

ومع الاقتراب إلى "شارع الصفطاوي" شمال القطاع، بدأت تظهر آثار الغارات الإسرائيلية على المباني السكنية والمراكز التجارية والطرقات، حيث لاقت النساء والأطفال صعوبة في اجتياز الخراب، فيما يتبادل الأشخاص أطراف الحديث أثناء سيرهم حول الدمار الذي سيشاهدونه في المناطق الأكثر عمقًا شمال القطاع.

صفطاوي.jpeg


منطقة الفلوحة: معاناة التسلق فوق الركام

وأثناء السير في "شارع الصفطاوي"، الذي سيوصلنا لاحقًا إلى منطقة "الفالوجة" شمال القطاع، تجد مجموعة من النسوة والأطفال والشبان يتجمعون في وسط الطريق حول بقايا آليات عسكرية إسرائيلية تعرضت للاستهداف من قبل عناصر المقاومة الفلسطينية. وبعد التقاط الصور لبقايا هذه الآليات عبر أجهزة الاتصال الخليوية، يواصل الجميع طريقه إلى وجهته بمحافظة الشمال.

الفالوجا 2.jpeg

في منطقة "الفالوجة" غرب "مخيم جباليا"، الكل يواجه صعوبة في تسلق ركام المنازل المدمرة من أجل الوصول إلى بيوتهم أو العمارات السكنية التي كانوا يقطنون فيها، لعلهم يستطيعون تعويض أنفسهم بقطعة ملابس أو أثاث من بقايا تلك المنازل التي تداخلت في بعضها البعض.

ويقول أحد الشبان ساخرًا من المشهد المبكي الذي وجد عليه حال المنازل السكنية: "كيف بقولوا كل إشي مدمر (...) هي المقبرة 'الجبانة' واقفة والقبور على حالها"، ويرد أحد الرجال، الذي بدا حزينًا على ما آلت إليه المنطقة من خراب: "كيف بدنا ندبر حالنا؟ وين بدنا نسكن (...) وين النساء بدها تقضي حاجتها في الشارع؟ الوضع صعب علينا، هيك ما بنقدر".

الفالوجا.jpeg
رائحة الموت في كل مكان

بمنطقة "مطعم حمدان" في "الفالوجة"، تبدأ تشاهد أطلال "مخيم جباليا"، فيما عن يمينك "حي القصاصيب"، الذي شهد معارك ضارية بين مقاتلي المقاومة الفلسطينية وقوات الجيش الإسرائيلي على طوال أيام الحرب الممتدة إلى أكثر من 470 يومًا. وما أن تدخل "حي القصاصيب" ترى المنازل محطمة ومتداخلة من شدة التدمير الذي شهده الحي خلال التوغل الإسرائيلي الأخير، والذي استمر لأكثر من 100 يوم، فيما تنبعث رائحة الجثث من المكان كما في بقية منطقة "الفالوجة"، التي تشاهد فيها أجزاء من آليات عسكرية تركها الجيش الإسرائيلي خلفه، قبل الانسحاب من شمال القطاع عشية اتفاق وقف إطلاق النار.

مدارس الفالوجا.jpeg
 

معاناة سكان مخيم جباليا

عند الوصول إلى بداية مخيم جباليا (معسكر الثورة)، كما يذيع سيطه منذ انتفاضة الحجارة التي انطلقت في العام 1987، تصيبك وهلة من شدة الدمار، حيث ترى "منطقة المركز" و"عيادة الوكالة (أونروا)" وسط المخيم قد انقلبت رأسًا على عقب، فتشاهد شوارع رميلة وبقايا قضبان حديدية كانت أساسات لمئات البيوت المدمرة.

ومن بين هذا الدمار الهائل الذي يوحي بأن الجيش الإسرائيلي كانت غايته هي تخريب مساكن الناس، تسمع صوت امرأة منهكة من صعوبة الطريق تصطحب بيدها طفلة صغيرة توصف لها المشهد قائلة: "كل البيوت مدمرة، إيش بدو يصير في حالنا بدون بيوت"، فيما الطفلة الصغيرة مصدومة وممتنعة عن الكلام من المشهد، ولا تكاد تميز بين منزل وآخر.

شارع الترنس وسط مخيم جباليا البحث عن ملامح المنازل

وعند الوصول إلى "شارع الترنس"، الذي كان عنوانًا لـ"مخيم جباليا"، ترى الشبان يخرجون من بين ركام المنازل بصيحات عالية تشتكي بحرقة هذا الخراب والدمار، ويقول أحد الشبان عاضًا على جراحه: "بدنا نعمرها ونسكن فيها، بنقعد في خيمة ولا بهدلة النزوح".

وعلى طول "شارع الترنس" ينهمك الناس في تحديد معالم بيوتهم التي صارت بدون معالم وتحولت إلى كومات من الركام والرمال التي تخرج منها قضبان حديدية اقتلعتها آلة البطش الإسرائيلية من باطن الأرض، ويدور حوار طويل بين الشبان للتأكد من صحة تحديد معالم المنطقة التي يتواجدون فيها، فيما تجد أشخاصًا آخرين يسألون عن كيفية الوصول إلى شارع ما أو منطقة معينة في "مخيم جباليا".
31fbc6fe-0ad8-46ae-a305-c195bcb43210.jpeg
ى.jpeg
معسكر.jpeg
 

خلال التنقل بين شوارع "مخيم جباليا"، يواسي الناس بعضهم البعض بعبارة "بعوض الله"، ولكنهم غير راضين عن الحال الذي صارت عليه بيوتهم، حيث ترى الدموع في عيونهم بلا بكاء. وهنا سمعت أحد الأشخاص يردد بصوت مخنوق من على ركام منزله: "حلل يا دويري (...) هيو الدويري حلل"، وذلك في انتقاد لاذع للمحلل العسكري لقناة "الجزيرة" القطرية، الذي كان يخرج برسالة يوميًا تقريبًا معلقًا على المعارك الضارية التي كان يخوضها رجال المقاومة الفلسطينية مع قوات الجيش الإسرائيلي في مناطق قطاع غزة.

الوصول إلى مستشفى كمال عدوان

لحظة الوصول إلى الشارع المؤدي إلى "مستشفى كمال عدوان" بمنطقة "مشروع بيت لاهيا" شمال القطاع، تسمع أصوات أعيرة نارية متتالية يطلقها المسلحون احتفالًا بدخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، بينما ينتقد الأشخاص الذين يتفقدون منازلهم المحطمة في محيط المستشفى، الذي تعرض أيضًا للتدمير، مطلقي الأعيرة النارية. ويقول أحد الأشخاص: "على إيش بطخوا (...) نصر إيش؟ كل المنطقة دمار في دمار".
 

bc88179c-62d0-4c59-b99a-6ccee392c6b5.jpeg

bc88179c-62d0-4c59-b99a-6ccee392c6b5.jpeg


وهنا آثرت زيارة المنزل الذي كنت قد نزحت إليه قرب "مستشفى كمال عدوان" قبل النزوح إلى مدينة غزة مرغمًا قبل حوال شهر من الآن، فوجدت الشاب "ناصر" يحاول إزالة الركام من داخل المنزل الذي ما زال واقفًا رغم الدمار الهائل الذي حل به وبالمنازل المجاورة، فبالكاد استطعت أن أتعرف على منزل "ناصر"، الذي لاحظ وصولي إلى منطقته فنادى بصوته مرحبًا بي.

وبعد تبادل الحديث والسلام مع الصديق "ناصر"، الذي أُصيب في رأسه أثناء العدوان الأخير على "مستشفى كمال عدوان"، طلبت منه أن يأذن لي لأواصل الطريق لأتفقد بقية منطقة "مشروع بيت لاهيا"، ومن ضمنها منزلي الذي لم أعرف ما حل به بعد.

مشروع بيت لاهيا: الذكريات وسط الأنقاض

عند الوصول إلى ساحة "مسجد القسام" في "مشروع بيت لاهيا"، يظهر دمار وخراب كبيرين قد حلا بمنازل السكان، وما أن تلتفت إلى منطقة "شارع السوق" التي اعتاد الناس على حيويتها تجد مشهدًا متتاليًا لتدمير البيوت والمحال التجارية. ويقول الشاب "حسن" من أمام ركام منزله: "الحمد لله هذا حال الناس كلها"، فيما علق المواطن "أبو سوار" على التقاطي صورة لدمار البيوت قائلًا: "إيش بتصور؟ كلو دمار في دمار".

مع الاقتراب إلى الشارع المؤدي إلى منزلي، وجدت الجيران قد سبقوني لتفقد منازلهم المنسوفة نسفًا كاملًا، بحيث لا تستطيع أن تميز منزلًا عن آخر. وبدا الجميع مصدومًا من هول المشهد، يقلب كفًا على كف وينظر بحسرة إلى ما آلت إليه البيوت.

38ad94cc-fe3d-4ba5-b52f-c7705dc59c3f.jpeg

 

665bd134-2688-45ca-85df-f030f96ecc1b.jpeg

اقتربت من منزلي الذي كان يأوي ثماني أسر من عائلة "عيسى"، وصعدت إلى أعلى الركام لأتفاجأ من حجم الدمار الممتد على رؤية البصر، فيما كان الجيران يلقون علي التحية والسلام، حيث لم نلتقِ منذ أسابيع بعد أن فرقنا النزوح من "مشروع بيت لاهيا" إلى مناطق مختلفة في مدينة غزة.
تنقلت على ركام المنازل المدمرة من بيت إلى بيت، فوجدت جميع الجيران منشغلين في تفقد ما تبقى من منازلهم، والجميع يتساءل كيف سيؤمن مسكن لعائلته ليحميهم من برد الشتاء وحر الصيف في قادم الأيام. فيقول "عيطة أبو محمد" النازح من "بيت لاهيا" إلى منطقة "الشيخ رضوان" شمال غزة: "بكرة بترجع العائلات النازحة من الجنوب، واحنا وين بدنا نروح؟"، فيما يرد عليه جاره "نافذ أبو سحر" بالقول: "ما في حد فاهم إشي...!!".

 

08aee741-f817-41da-9167-b240189699ca.jpeg

 

c08ec4b6-d2dc-437d-82bc-9686716020d6.jpeg

 

c96b5582-062a-4dad-969a-4441b88a6659.jpeg

تساؤلات بلا إجابات

ويتساءل "أبو الزكي"، الذي افترش على ركام منزله في "مشروع بيت لاهيا": "أين وسائل الإعلام؟ ليش ما تجي تشوف اللي صار فينا"، ويقول "أبو زهير سالم" أثناء سيره بين ركام المنازل: "دول ما بتقدر تعمر هذا الدمار الذي حل بمناطق شمال غزة، إيش الناس بدها تعمل في هذا الحال"، فيجيبه أحد أقربائه "أبو نافذ": "خلي المسؤولين عن إدارة قطاع غزة يجيبوا على هذا السؤال".

وعلى طول الطرق الممتدة من "مخيم جباليا" إلى منطقة "مشروع بيت لاهيا"، لم ألاحظ وجود أي من المسؤولين المحليين ليجيبوا الناس عن تساؤلاتهم المحيرة في ظل الدمار الكبير الذي طال كل شيء بمناطق شمال القطاع.

المصدر: خاص وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة