خيارات روسيا في البحر المتوسط بعد طرطوس

بقلم: رامي خريس

baza2.jpg

لطالما كان الوصول إلى المياه الدافئة هدفا استراتيجيّا محوريّا للسياسة الروسيّة على مدار تاريخها. فمنذ عهد الإمبراطورية القيصرية وحتى الحقبة السوفييتية، ظلّت روسيا تسعى لتعزيز وجودها البحري خارج حدودها الشماليّة المتجمدة. ويُعد البحر الأبيض المتوسط أحد أبرز المسارح التي تطلّعت إليها روسيا لتحقيق هذا الهدف، حيث يوفر لها وجودها هناك نقطة انطلاق للتأثير في الشرق الأوسط، شمال أفريقيا، وأوروبا، إضافة إلى كونه يمثّل شريانا بحريّا حيويّا يربطها بالمحيطات العالميّة.

يرجع هذا الطموح التاريخيّ إلى القيود الجغرافيّة التي لطالما حدّت من حرية حركة البحريّة الروسيّة. فبسبب موقعها الجغرافي، اعتمدت روسيا على موانيء بحريّة في مناطق تخضع لتقلبات الطقس أو تسيطر عليها دول أخرى مثل تركيا عبر مضيق البوسفور. ومن هنا جاء السعي الدائم للحصول على قواعد بحريّة في المياه الدافئة تتيح لروسيا التشغيل الدائم لسفنها وتعزز من قدراتها العسكريّة والتجاريّة. ويمكن هنا النظر إلى حرب القرم (1853-1856) وضم شبه جزيرة القرم (2014)، كنماذج تؤكد الاستمرارية التاريخيّة لسياسة روسيا الساعية للوصول للمياه الدافئة.

تعزز الوجود البحري الروسي في طرطوس في بداية عقد السبعينيّات من القرن الماضي، وذلك نتيجة لتغيّر ديناميكيّات القوى في المنطقة بعد قرار الرئيس المصريّ أنور السادات طرد الخبراء الروس عام 1972 ثم توقيع معاهدة السلام المصريّة الإسرائيليّة في نهاية ذلك العقد. وقد كانت قاعدة طرطوس تمثّل في الحقبة السوفييتية وما بعدها أهمية عمليّة ورمزيّة، حيث عكست تماسك القوّة الروسيّة وحضورها في منطقة البحر المتوسّط، خاصة بعد حسم الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة. واكتسبت القاعدة الروسية البحرية في طرطوس وقاعدة حميميم الجويّة في اللاذقية أهمية مضاعفة في أعقاب تدخل "الكرملين" في الصراع السوري عام 2015 لصالح نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.

مع سقوط النظام السوري مطلع ديسمبر الماضي، أصبح الوجود العسكريّ الروسي في الساحل السوريّ تحت الضوء مُجددا. فمن الواضح أن العديد من القوى الغربيّة تنظر إلى سقوط النظام كفرصة لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجيّة في المنطقة عبر إخراج روسيا من منطقة شرق المتوسط. وقد كانت بعض هذه القوى صريحة في مطلبها هذا حدّ ربطها رفع العقوبات عن سوريا بإنهاء الوجود الروسي في طرطوس واللاذقية. ورغم أهميّة هذا الموضوع، إلا أنني لم أجد تغطية معمّقة له، حتى نشر المعهد الملكي للخدمات المتحدة، المُقرب من الجيش البريطاني، مؤخرا، تحليلا عن الخيارات الروسية في حال خسارة القاعدة البحرية في سوريا. وتنبع أهمية هذا التحليل برأيي أن كاتبه ضابط مرموق في البحرية الملكيّة البريطانية، سبق له الخدمة في أماكن مختلفة من الشرق الأوسط وأفريقيا، وبالتالي فهو يعالج هذا الموضوع الحيوي من جوانبه العسكريّة واللوجستيّة وجوانبه السياسية في آن معا، موضّحا الخيارات وكذلك العقبات التي تكتنف سعي روسيا لإيجاد بديل لقاعدتها في طرطوس.

الترجمة:

أثار سقوط نظام الأسد في سوريا التكهنات حول التداعيات المحتملة على روسيا، ولا سيما المصير طويل الأمد لحضورها العسكريّ في البلاد. وقد جرى التركيز بشكل خاص على القاعدة البحرية الروسية في طرطوس بسبب أهميتها الاستراتيجية، حيث توفر لروسيا إمكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. تُعد القاعدة مركزًا رئيسيًا للوصول إلى ليبيا والبحر الأحمر، فضلاً عن تقديم الدعم اللوجستي لأنشطة روسيا - وخاصة قواتها في أفريقيا- في السودان وغرب القارّة السمراء. ما هي الخيارات المتاحة لموسكو في حال أثبت التفاهم الظاهري مع هيئة تحرير الشام بشأن الوجود الروسي في طرطوس أنه مؤقت؟

الآمال الغربية الأولية بأن روسيا ستفقد قاعدتها في سوريا فورا ظهر أنها بلا أساس. ومع ذلك، كان وضع الأسطول الروسي* في حالة استعداد، وتحريكه لتجنب احتمالية الاستيلاء عليه أو حرمانه من حرية المغادرة في المستقبل كان خطوة احترازية عسكرية مدروسة. عودة الأسطول لاحقًا تشير إلى أن الوضع الراهن يتمتع بشيء من الاستقرار. لقد اعترف الكرملين بشكل فعّال بأن تجنب فقدان روسيا لحضورها البحري في سوريا كان ولا يزال أولوية. سارعت روسيا إلى التعامل مع القيادة الجديدة، وكانت قضية مصير قواعدها الجوية والبحرية في مقدمة جدول الأعمال. في الواقع، يبدو أن الحرص على العلاقات مع النظام الجديد كان دافعًا لقرار فلاديمير بوتين بمنح اللجوء للرئيس المخلوع بشار الأسد. فخروج الأسد السريع مع الحد الأدنى من إراقة الدماء كان خطوة تكتيكية. وبالفعل، فقد حرص النظام الجديد بعد سقوط الأسد بفترة وجيزة على التأكيد على احترامه للبعثات الدبلوماسية الروسية والصينية، مُشددا على أن الصراع كان مع الأسد ونظامه فحسب.

تشير بعض التقارير إلى أن تقليص الوجود الروسي في بعض المناطق لا يعني الإغلاق الوشيك لقاعدة طرطوس أو قاعدة حميميم الجوية، التي تُعد أحد الأصول الاستراتيجية الرئيسية لروسيا. ومع ذلك، هنالك مصالح متعددة تفرض نفسها، فرغم أن الولايات المتحدة بدت وكأنها تسمح بمعظم الأنشطة الروسية في المنطقة دون مواجهة مباشرة حتى الآن، فإن هذا ليس وضعا يمكن لروسيا الاعتماد عليه في المستقبل. تركيا، باعتبارها لاعبا رئيسيا آخر، تحتفظ بعلاقات أكثر دفئا مع روسيا مقارنة بمعظم الدول الأعضاء في حلف "الناتو"، لكنها أيضا السبب وراء فقدان روسيا الوصول المباشر إلى البحر الأسود عبر مضيق البوسفور. وهذا يُعد دافعا رئيسيا وراء حاجة روسيا إلى موطيء قدم في البحر الأبيض المتوسط، أي لتوفير الدعم اللوجستي والصيانة اللازمة لأسطولها في المتوسط، بما في ذلك القدرة على إعادة التموّن بالذخائر.

في خضم حالة عدم اليقين هذه، قد يسعى بوتين لتجنب وضع جميع أوراقه في سلة واحدة في طرطوس، حتى وإن سمحت هيئة تحرير الشام وزعيمها أحمد الشرع -الحكومة السورية الفعلية الجديدة- بالوصول إلى القاعدة في الوقت الحالي. الغزو الروسي غير القانوني لأوكرانيا والعقوبات الناتجة عنه، إلى جانب الاحتكاكات الحتمية مع دول "الناتو" تعني أن خيارات روسيا في البحر الأبيض المتوسط محدودة، حتى فيما يتعلق بإنشاء قاعدة بحرية شبه دائمة تتيح لها تعزيز قوتها في المنطقة.

العلاقات الجيوسياسية نادرًا ما تكون طيّعة. فرغم أن تركيا تبقى وسيطا رئيسيا لروسيا مع "الناتو"، إلا وصول الأخيرة للبحر الأسود لا يزال محظورا. وقد زاد التوتر بين تركيا وروسيا خلال اختبار روسيا لصاروخ "زيركون"  فرط الصوتي في شرق البحر المتوسط في ديسمبر 2024. ومع ذلك، كان غضب تركيا موجّها بشكل أكبر نحو اليونان، التي منحت روسيا حقوق الوصول لإجراء التمرين العسكري، وذلك بسبب النزاع الطويل الأمد بين البلدين، أي بين تركيا واليونان، على المناطق البحرية في المنطقة. لهذا السبب، يبقى احتمال إيجاد ترتيب بوساطة تركية يسمح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتها في طرطوس أمرا واردا. ومع ذلك، في الوقت الحالي، لا يبدو هذا السيناريو محسوما تماما. وحتى إذا استمرت روسيا في الاحتفاظ بقاعدة طرطوس في المدى القصير، فإنها تواجه خطر الإخلاء على المدى البعيد من قبل حكومة سورية مستقبلية.

خيارات روسيا في حال خسارة قاعدة طرطوس

كانت قاعدة طرطوس في الأصل بمثابة جائزة ترضية للبحرية السوفيتية عند افتتاحها، حيث أصبح الاتحاد السوفيتي يعتمد بشكل متزايد على هذه المنشأة بعد أن فقد تحالفه مع مصر (بما فيه الوصول إلى موانئها الأكبر والأفضل تجهيزًا) في سبعينيات القرن الماضي نتيجة لإعادة توجيه أنور السادات سياسته نحو الغرب. ومع مينائها الصغير نسبيًا وقواعد الوصول المقيدة التي فُرضت في البداية على السوفييت، كانت طرطوس تعتبر بديلًا ضعيفًا. لكن هذا لم يشكل مشكلة بالنسبة لروسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، حيث إنها لا تطمح للحفاظ على قوة قادرة على خوض حرب ضروس في البحر الأبيض المتوسط، بل هي أفضل الأحوال يمكن أن تسعى للقيام بدور الإزعاج. بدلا من ذلك، فإن القوة البحرية الروسية في البحر الأبيض المتوسط، والتي تتألف عادة من ما لا يزيد عن 11 سفينة بما في ذلك 3-5 سفن مساعدة في السنوات الأخيرة، وُظفت كأداة لإرسال إشارات الردع، وجمع المعلومات الاستخبارية، والتدخل في الصراعات صغيرة الحجم، وإظهار الدعم لحلفاء روسيا. وعلى سبيل المثال، قام الأسطول الروسي بمرافقة النفط الإيراني إلى سوريا  (مما جعل عمليات الاعتراض أكثر خطورة بغض النظر عن ميزان القوة العسكرية)، كما ونفذ ضربات بصواريخ "كاليبر" لدعم نظام الأسد. وبالتالي، لا تحتاج روسيا إلى مركز بحري رئيسي بديل لطرطوس للحفاظ على وجودها في المنطقة، نظرا لأن هذا الوجود كان دائمًا محدودًا بطبيعته.

ومع ذلك، فإن فقدان قاعدة طرطوس لن يكون خاليا من العواقب على البحرية الروسية. تتيح القاعدة لروسيا القدرة على إعادة التزود بالوقود والإمدادات للسفن، والأهم من ذلك أنها توفر مركزا للصيانة في المنطقة. ومن المرجح أن هذا المرفق الأخير هو السبب وراء الفترات الطويلة التي تمكنت فيها السفن الروسية مثل سفينة "الأدميرال غريغوروفيتش" من البقاء في المنطقة دون الحاجة للعودة إلى موانئها الرئيسية. إن إغلاق مضائق تركيا نتيجة للصراع في أوكرانيا قطع الصلة بين أسطول روسيا في البحر الأبيض وأسطولها في البحر الأسود، مما أجبر السفن الروسية على الانتشار من مناطق أبعد مما كان عليه الحال سابقًا. وبالنظر إلى أن البحرية الروسية تعتمد على سفن للمياه الخضراء ذات قدرة تحمل محدودة، فإن فقدان الوصول إلى هذه المرافق سيحد بشكل كبير من قدرتها على البقاء في المنطقة. وحتى الترتيبات للوصول إلى موانئ في دول مثل ليبيا أو الجزائر لن تكون كافية لتعويض ذلك بشكل كامل، وذلك نظرا للعوامل الجغرافية والحاجة إلى الصيانة. ونتيجة لذلك، يمكن توقع أن تفرض الانتشارات في البحر المتوسط أعباء كبيرة على الأسطول المحدود من السفن المساندة مثل ناقلات "مشروع 160"، مع احتمال تغيير نسبة السفن القتالية إلى السفن المساندة لصالح الأخيرة. علاوة على ذلك، فإن الحاجة إلى تدوير السفن لإجراء الصيانة ستتطلب نشر المزيد من السفن في البحر المتوسط للحفاظ على وجود إقليمي دائم، مما سيؤثر على هيكل القوة والوضعية الروسية في أماكن أخرى. وبالتالي، ستحتاج روسيا إلى قاعدة لتعويض فقدان طرطوس إذا أرادت أن تظل لاعبًا إقليميًا في المنطقة.

الحليف التقليدي لروسيا، والذي يتمتع بتقاليد بحرية مستقرة وراسخة، هو الجزائر. تحصل الجزائر على حوالي 85%  من معداتها العسكرية وتدريبها من روسيا. ومع ذلك، ظهرت مؤخرا صعوبات سياسية تتعلق بالأنشطة الروسية في مالي وتعارض هذه الأنشطة مع المصالح الجزائرية. وتشير بعض التقارير إلى أن الولايات المتحدة قد تأمل أن يؤدي هذا التوتر إلى زيادة التباعد بين الجزائر وروسيا، مما يجعل الجزائر مضيفًا غير مؤكد لأي وجود عسكري روسي دائم. تمتلك الجزائر 13 ميناء تجاريا رئيسيا، بالإضافة إلى مرافق لإصلاح السفن. ومع ذلك، باعتبارها واحدة من أنجح المراكز الاقتصادية في المنطقة، مع بنية تحتية بحرية تجارية ذات جدوى اقتصادية، ليس من الواضح أن حساباتها الاستراتيجية ستدعم استضافة وجود روسي دائم دون وجود دافع واضح يخدم مصلحة الجزائر. ومع ذلك، قد تسعى روسيا إلى تنفيذ بعض أنشطة الصيانة في الجزائر، نظرًا لأن هذا أقل إثارة للجدل مقارنة باستضافة قاعدة دائمة. حاليًا، تشغل البحرية الجزائرية غواصات من طراز "كيلو"، والمرافق التي تم بناؤها لدعم هذه الغواصات يمكن أن تُستخدم أيضًا لخدمة الأصول الروسية. على الرغم من ذلك، فإن أي منشأة صيانة ستكون مجرد بديل جزئي للمنشأة الروسية في طرطوس، حيث إن الوصول إليها سيعتمد على سياسات الحكومة الجزائرية، وقد يتطلب التفاوض على أساس كل حالة على حدة.

قد يدرس صانعو القرار الروس أيضًا إمكانية الانتشار البحري من واجهة من البحر الأحمر، خاصة من خلال الاستفادة من العلاقات مع السودان. يوفر ميناء بورتسودان مرافق يمكن أن تدعم وجودًا روسيًا متواضعًا، وهذا بالفعل جزء من الجهود المبذولة لتأسيس وجود في البحر الأحمر. وقد قامت روسيا بتغيير ولائها من قوات الدعم السريع إلى القوات المسلحة السودانية، ربما تحديدًا لتحسين الوصول البحري. ومع ذلك، فإن المفاوضات المتعلقة بإنشاء موطئ قدم عسكري بحري، على الرغم من مرور عدة سنوات عليها، لا تزال تواجه عقبات. هذا الأمر بحد ذاته يجعل من المرجح أن يكون ميناء بورتسودان خيارًا غير مناسب كبديل فوري لطرطوس.

ومع ذلك، حتى إذا أصبحت القاعدة المقترحة -والقادرة على دعم أربع سفن- حقيقة واقعة، فإنها ستظل بديلاً ضعيفًا لطرطوس. القيود اللوجستية المرتبطة بالتفاوض على عبور قناة السويس، خاصة في حالات الحاجة إلى الصيانة الطارئة، تعتبر كبيرة. علاوة على ذلك، فإن عمليات عبور القناة تعطي إشارات واضحة عن تحركات السفن للخصوم.

الخيار الثالث قد يكون شرق ليبيا، الذي يسيطر عليه الجنرال خليفة حفتر المدعوم من روسيا. هناك حوالي 2000 جندي من المرتزقة الروس في شرق ليبيا، وهناك سابقة راسخة لدعم الأنشطة الروسية الأوسع في إفريقيا عبر ليبيا. ومع وجود احتمال لفقدان كامل أو تدريجي للاستخدام الحر لقاعدة طرطوس، قد يكون النظر في تأسيس موطئ قدم أكثر ديمومة في ليبيا خيارًا واردًا، خاصة وأن روسيا تدير بالفعل قاعدة "االخادم" الجوية في هذه المنطقة. مع تركيز الجهود في شرق ليبيا، يمكن أن تقدم طبرق وربما أيضًا بنغازي ملاذًا آمنًا لأسطول روسي بلا قاعدة في البحر المتوسط. هناك في الوقت الحالي بعض الأدلة على جهود روسية لنقل معدات عسكرية من سوريا إلى ليبيا، على الرغم من أنه ليس من الواضح ما إذا كانت هذه خطوة مؤقتة أم لا.

خطوط الإمداد عبر طبرق قائمة بالفعل. ومع ذلك، فإن نقص مرافق االصيانة وعدم وجود حوض جاف، وقلة الأرصفة ذات الحجم الكافي، ومحدودية الفرص للتوسع، يجعل الاستثمار طويل الأمد في وجود دائم تحديًا تقنيًا. لم تكن طبرق أبدًا منشأة بحرية أساسية للبحرية الليبية، وبالتالي فهي تفتقر إلى البنية التحتية العسكرية المخصصة. كما أن أي ميناء في المنطقة سيشارك الميناء التجاري، الذي يعد أكثر انشغالًا من طرطوس (حيث كانت اللاذقية مركزا أكبر للتجارة السورية). رغم ذلك، وبالنظر إلى أن طرطوس نفسها أصبحت فعالة رغم كونها ميناء محدود السعة، فقد يُعتبر هذا مقبولًا، وهذه القيود ليست مستعصية على الحل. لكن بناء مرافق الصيانة ومستودعات الذخيرة والأرصفة سيستغرق وقتا. رغم أن مشاركة الميناء مع السفن المدنية تفرض تحديات، إلا أن هناك بعض الفوائد أيضًا. فقد توفر المنشآت التجارية في طبرق وبنغازي فرصة لروسيا لاستبدال خطتها لإنشاء مركز لصادراتها الزراعية في طرطوس، وهو مشروع كانت روسيا تخطط لاستثمار 500 مليون دولار فيه بهدف توسيع حضورها كجهة مُصدّرة للمنتجات الزراعية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ميناء بنغازي، الواقع أيضًا تحت نفوذ حفتر والذي قد يكون أكثر ترحيبًا بوجود روسي، يتمتع بقدرة أكبر مقارنة بطبرق. يُعد الميناء نقطة رئيسية لاستقبال المساعدات الإنسانية، كما أنه يحتوي على مرافق صيانة أكثر شمولًا، والتي خدمت السفن القادمة من المنشأة البحرية القريبة في بنغازي. ومع ذلك، فإن الكثير من بنيته التحتية لا يزال غير قابل للاستخدام بسبب الأضرار التي خلّفها الصراع الليبي. علاوة على ذلك، توفر المنطقة المحيطة ببنغازي داخل خليج سرت مساحة أكبر لإنشاء مرافق عسكرية مخصصة، مما قد يقلل من الحاجة للعمل بالقرب من حركة المرور المدنية. على سبيل المثال، يبدو أن الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر يعتزم بناء منشآت جوية وبحرية في محيط بنغازي. ويمكن القول إن ذلك قد يوفر فرصًا للاستثمار وإقامة وجود روسي على المدى المتوسط، لكن روسيا ستحتاج إلى بناء أو دعم إنشاء البنية التحتية من مستوى منخفض جدًا من حيث المرافق القائمة حاليًا.

ثم هناك مسألة المخاطر السياسية. أي وجود روسي في ليبيا سيكون، على أقل تقدير، مرهونًا بحسن النية التركية، نظرًا لتفوق تركيا البحري في المنطقة وقدرتها على تقديم دعم إضافي لحكومة الوفاق الوطني الليبية. قد يكون هذا الوضع مقبولًا بالنسبة لروسيا، لأنه كان مشابهًا لذلك في سوريا إلى حد كبير. ومع ذلك، على عكس الأسد، حفتر ليس منبوذًا دوليًا بالكامل، ويحافظ على علاقة عمل مع دول مثل فرنسا. قد تجد روسيا أن التفاوض للحصول على وصول إضافي أكثر تحديًا مما كان عليه الحال في سوريا. ضغط شركاء حفتر الآخرين قد لا يؤدي بالضرورة إلى رفض الوصول، نظرًا لأن روسيا لا تزال داعمه الأكثر أهمية، لكنه قد يحد من طبيعة الوصول الممنوح. على سبيل المثال، قد تشبه شروط الوصول تلك التي منحها حافظ الأسد للروس، حيث يتم منع البحرية من إنشاء العديد من المرافق على الشاطئ، مما يجبرها على الاعتماد على السفن المساندة داخل الموانئ لدعم الصيانة. علاوة على ذلك، إذا رأى حفتر أن التحالفات الأخرى أكثر فائدة من العلاقة مع روسيا، فلا يمكن استبعاد احتمال طرد الأصول الروسية، كما حدث مع مصر في عهد السادات. ومع ذلك، تبقى هذه الاحتمالات بعيدة في الوقت الراهن، ولا ينبغي افتراض أن روسيا غير قادرة على تأمين قاعدة إضافية في ليبيا. لكن الاعتماد على شريك ليس منبوذًا دوليًا - وبالتالي يخضع لمطالب وتأثيرات أكثر تعقيدًا- يجعل الوضع أكثر عرضة للمخاطر السياسية بالنسبة لروسيا.

الاستنتاجات

قد تحتفظ روسيا بإمكانية الوصول إلى  قاعدة طرطوس كجزء من ترتيب مع الحكام الجدد في سوريا. ومع ذلك، إذا فقدت البحرية الروسية هذا الوصول، فلن تتوقف عن كونها لاعبًا إقليميًا، لكن وجودها سيصبح أكثر تشتتًا وأقل تأثيرًا. ترتيبات الوصول ستكون بديلاً ضعيفًا عن القاعدة في طرطوس، وحتى حقوق التمركز في ليبيا (البديل الأكثر احتمالاً لسوريا) لن توفر في البداية بديلاً مناسبًا للصيانة داخل المنطقة التي كانت طرطوس تتيحها. علاوة على ذلك، فإن أي شركاء قد تعتمد عليهم روسيا لن يكونوا معتمدين عليها بشكل كلي كما كان الأسد، مما يخلق مخاطر سياسية طويلة الأجل. قد لا تكون أيام روسيا كلاعب إقليمي في البحر الأبيض المتوسط معدودة بالضرورة، ولكن قدرتها على الوصول والحفاظ على وجود مؤثر في المنطقة قد تصبح أقل ضمانًا وأكثر عرضة للتقلبات.

* ملاحظة: يُشير الكاتب إلى السفن الروسية العاملة في البحر المتوسط باستخدام مصطلح "الأسطول" وذلك للتسهيل على القرّاء. لكن، من الناحية العسكريّة التنظيميّة، ليس هنالك فعليّا "أسطول للبحر المتوسط" في هيكل سلاح البحريّة الروسيّ، بل قوّة مهام (Task Force)، وهي تتبع من الناحية التنظيميّة لأسطول البحر الأسود، وهو ما يعكس الأهميّة الحيوية لارتباط هذين البحرين في استراتيجية روسيا السياسة والعسكرية، والأهمية الكامنة لمضيق البوسفور التركي الذي يربط بين هذين البحرين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت