ترامب وحلم المسيحانيين الصهاينة: عندما يصبح التهجير سياسة رسمية

بقلم: حسن لافي

حسن-لافي.jpg

في تحول غير متوقع، وجد التيار المسيحاني الصهيوني نفسه في قلب السياسة الأمريكية بعدما تبنى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أفكارًا كانت تُعتبر حتى وقت قريب مجرد أوهام متطرفة. لم يكن حتى أكثر اليمينيين تفاؤلًا يتخيلون أن سيناريو التهجير الجماعي للفلسطينيين والضم الكامل للأراضي المحتلة يمكن أن يحظى بدعم صريح من البيت الأبيض. لكن ترامب، الذي قلب كل المعادلات السياسية رأسًا على عقب، جعل من المستحيل واقعًا ومن الخيال سياسة قابلة للتنفيذ.

لطالما كان المسيحانيون الصهاينة، وهم تيار متطرف  داخل الحركة الصهيونية، يسعون إلى تحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى" بأي وسيلة، بما في ذلك تهجير الفلسطينيين قسرًا وفرض السيادة الإسرائيلية على كامل أراضي فلسطين التاريخية. ورغم أن هذا التيار كان يحظى بدعم مجموعات إنجيلية أمريكية متطرفة، فإنه ظل طوال عقود يُعامل كحالة هامشية حتى داخل السياسة الإسرائيلية، إذ كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تُدرك خطورة الدفع بهذا المشروع علنًا، حتى عندما صرح وزير الأمن القومي الاسرائيلي ايتمار بن غفير بضرورة تهجير الفلسطينيين من غزة في بداية حرب غزة ٢٠٢٣م، أثار ذلك عاصفة قوية من الإدانة والاتهام بالتطهير العرقي للحكومة الاسرائيلية وطالبت إدارة  الرئيس الأمريكي الأسبق جو بايدن بتوضيح رسمي من الحكومة الإسرائيلية التي سرعان ما تنصل رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو من فكرة التهجير. 

لكن مع قدوم ترامب، تغيرت المعادلة جذريًا. فالرئيس الأمريكي ترامب لم يكن مجرد داعم تقليدي لإسرائيل، بل ذهب إلى مدى أبعد من ذلك، حيث بات يطرح خطط وافكار لسياسات كانت واشنطن نفسها تعرقلها تاريخيًا، فالتهجير للفلسطينيين يتعارض مع حل الدولتين الذي تبنته واشنطن طوال السنوات الماضية، لكن ترامب الذي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان،  شخصية غير متوقعة، ورغم ذلك التحول لم يأتِ من فراغ، بل يعكس تحالفًا أيديولوجيًا بين اليمين الإسرائيلي المتطرف والجماعات الإنجيلية الأمريكية، التي تؤمن بأن قيام "إسرائيل الكبرى" شرط لتحقيق نبوءات دينية حول عودة المسيح. ومن هنا، فإن دعم ترامب لمشاريع الضم والتهجير لم يكن مجرد خطوة سياسية، بل كان مرتبطًا برؤية دينية تلعب فيها إسرائيل دورًا مركزيًا.

لكن لا يمكن فهم كامل أبعاد هذا التحول في سياسة ترامب القادم من مجال المال والتجارة دون الاشارة إلى الدوافع الاقتصادية حيث لا يمكن فهم مخططات التهجير في غزة دون الربط بين المصالح الأمريكية و البعد الاقتصادي والجغرافي الاستراتيجي لقطاع غزة. فمن الواضح أن الجغرافيا السياسية جعلت من غزة عقبة أمام مشاريع أمريكية وإسرائيلية كبرى في المنطقة، وعلى رأسها:

1.    مشروع طريق الحرير الأمريكي، الذي يهدف إلى إنشاء ممر تجاري عالمي يربط الشرق الأوسط بالعالم عبر بنية تحتية متطورة، حيث تُعد غزة منطقة غير مستقرة تهدد استقرار هذا المشروع.

2.     مشروع إعمار النقب٠

تُركز إسرائيل على تطوير منطقة النقب، التي تشكل حوالي 60% من مساحتها، بهدف تعزيز الاستيطان والبنية التحتية في هذه المنطقة الصحراوية، والذي يخدمها في زيادة عدد السكان اليهود في النقب، الامر الذي يعزز من الوجود الأمني والعسكري الاسرائيلي في النقب.
 وذلك من خلال إنشاء خطوط نقل بريّة وسكك حديدية تمتد من إيلات إلى موانئ البحر المتوسط، وهو مشروع استراتيجي لإسرائيل لكنه يواجه تهديدات أمنية في حال بقاء غزة مأهولة بسكانها المقاومين.

٣.مشروع الربط الإسرائيلي بين البحر الأحمر والبحر المتوسط قناة "بن غوريون". يهدف إلى إنشاء ممر مائي يربط بين ميناء إيلات على البحر الأحمر وميناء أسدود على البحر المتوسط، يُنظر إلى هذا المشروع كبديل محتمل لقناة السويس المصرية، مما قد يمنح إسرائيل سيطرة استراتيجية على حركة الملاحة بين البحرين، يعزز من تحكمها بالتجارة الدولية، بالإضافة إلى مساهمة القناة بمشاريع توليد الطاقة وتحلية المياه

٤.مشاريع استخراج الغاز الإسرائيلي من البحر المتوسط. 

تمتلك إسرائيل عدة حقول غاز ضخمة في البحر المتوسط، من أبرزها حقل ليفياثان (Leviathan) وتمار (Tamar) وكاريش (Karish)، التي تُعتبر المصدر الرئيسي للطاقة لإسرائيل ولصادراتها إلى أوروبا، أما بالنسبة لحقل ماري-ب (Mari-B)، وهو أحد الحقول التي استُنزفت جزئيًا، فهو يقع على بُعد 30 كم فقط من سواحل غزة، ما يجعله الأكثر تأثرًا بأي تصعيد أمني في القطاع.

بالإضافة إلى ذلك، هناك حقل غزة مارين (Gaza Marine)، ٣٠ كم من غزة، الذي يُقدر احتياطيه بنحو 1 تريليون قدم مكعب من الغاز، لكنه ظل غير مستغل بسبب القيود الإسرائيلية المفروضة على الفلسطينيين،
رغم أن ليفاثيان وتمار يقعان شمال فلسطين المحتلة، إلا أن الصواريخ التي تطلقها المقاومة الفلسطينية تهدد البنية التحتية للغاز، حيث سبق أن تم استهداف منصات الغاز القريبة من عسقلان، ناهيك أن غزة تعتبر عائقًا جيوسياسيًا أمام خطط تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر مصر أو مباشرة عبر البحر المتوسط.

كل هذه المعطيات جعلت من تغيير الواقع الديموغرافي لقطاع غزة مطلبًا استراتيجيًا، ليس فقط للتيار الصهيوني المسيحاني، ولكن أيضًا للدوائر الاقتصادية والسياسية في واشنطن وتل أبيب.

إذن تصريحات ترامب الأخيرة حول ضرورة "إخلاء" السكان الفلسطينيين من قطاع غزة لم تكن مجرد زلة لسان، بل جاءت في سياق توجه سياسي ايدلوجي واقتصادي متكامل يهدف إلى فرض واقع جديد في غزة والمنطقة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت