في قطاع غزة تعيش الأمهات الفلسطينيات فصلًا غير مسبوق من الألم، إذ حصد العدوان الاسرائيلي - حرب الإبادة الجماعية على القطاع - منذ السابع من أكتوبر 2023 أرواح آلاف الأطفال، تاركًا وراءه قلوبًا مفطورة، ومجتمعًا يعاني آثار الإبادة الجماعية. ورغم دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 19 يناير 2025، إلا أن الهدوء لم يوقف النزيف النفسي للأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، بعضهن فقدن طفلًا، وأخريات استيقظن ليجدن أنفسهن بلا عائلة، بعد أن دمرت منازلهن على رؤوس أحبائهن.
لم تجد الأمهات فرصة للراحة، بل وجدن أنفسهن أمام واقع أشد قسوة، حيث غاب الأبناء ولم يعد شيء كما كان. فالأمهات الفلسطينيات لا يفقدن فقط أولادهن، بل يفقدن جزءًا من هويتهن ودورهن اليومي، مما يضاعف الألم ويترك أثرًا نفسيًا عميقًا لا يمكن تجاوزه بسهولة.
علاقة الأم بابنها: ارتباط لا ينتهي بالفقد
تبدأ علاقة الأم بطفلها منذ اللحظات الأولى للحمل، حيث يتشكل ارتباط جسدي وعاطفي يجعل فقدانه أمرًا لا يُحتمل. في المجتمع الفلسطيني، تُسند للأمهات مسؤوليات أساسية في رعاية الأبناء، ما يجعل فقدانهم يمثل فراغًا وجوديًا كبيرًا في حياتهن، ويجبرهن على مواجهة شعور دائم بالإخفاق، حتى عندما يكون الفقد خارجًا عن إرادتهن.
إبادة ممنهجة تستهدف جيلًا كاملًا
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وثّقت منظمات حقوقية استهدافًا واسع النطاق للعائلات الفلسطينية، إذ فقدت آلاف الأمهات أبناءهن بسبب القصف العشوائي، القنابل الحارقة، أو رصاص القناصة الذي لم يفرّق بين طفل وأمه.
ووفقًا لبيانات المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فإن 68% من الضحايا المدنيين الذين سقطوا في هذه الحرب هم من النساء والأطفال. ورغم إعلان إسرائيل استهداف "أهداف عسكرية"، تؤكد شهادات الناجين أن غالبية القتلى سقطوا داخل منازلهم، في الأسواق، أو أثناء محاولتهم الفرار من مناطق القصف. وتصف منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها الأخير هذه العمليات بـ"التصفية الجماعية الممنهجة"، محذرة من "محو جيل كامل" من الفلسطينيين في غزة.
شهادات من قلب المأساة: عندما يتحول الوطن إلى مقبرة جماعية
"كيف عدتُ بلا أولادي؟"
غادة رزق الدولة (49 عامًا)، أم فلسطينية من شمال غزة، نزحت جنوبًا هربًا من القصف، لكنها فقدت ابنها أحمد (16 عامًا) وأمير (10 أعوام) في قصف إسرائيلي استهدف المنطقة التي لجأت إليها.
تقول غادة، التي لا تزال تعيش في خيمة وسط الدمار: "في ليلة 13 أكتوبر، وقع انفجار عنيف. خرج أطفالي مع والدي وإخوتي لاستطلاع ما يحدث، لكنهم لم يعودوا. صواريخ إسرائيلية استهدفتهم مباشرة. لم يتبقَ منهم سوى أشلاء متناثرة".
وتضيف بصوت مرتجف: "عندما أُعلن عن عودة سكان الشمال، رغبتُ في نقل قبور أبنائي معي، لكن أخي أقنعني بأن يبقوا حيث هم، وكأنني أترك جزءًا مني خلفي إلى الأبد. عدتُ مشيًا عبر شارع الرشيد، كنت أبكي طوال الطريق، كيف عدتُ بلا أولادي؟".
"حتى جثثهم لم أجدها"
أما فاطمة السرسك (25 عامًا)، فقد فقدت أربعة من أطفالها وزوجها في غارة جوية استهدفت منزلهم في حي الشجاعية. تقول فاطمة، وهي تجلس على أنقاض منزلها المدمّر:
"استيقظتُ على صرخة مدوية، ثم لم أعد أسمع شيئًا. عندما فتحت عيني، كان منزلي قد اختفى، وأنا ملقاة على الأرض بعيدًا عنه. كان زوجي وأطفالي الأربعة تحت الأنقاض. لم أتمكن حتى من رؤيتهم أو توديعهم، فقط قالوا لي لاحقًا إنهم استشهدوا".
وتتابع بحسرة: "طفلتي أيلول، أصيبت بحروق من الدرجة الثالثة، عجز الأطباء عن علاجها بسبب نقص الإمكانيات الطبية، لكنها ظلت تنظر إليّ بعينين مليئتين بالخوف، قبل أن تغيب عن الوعي. كنت أعلم أنها تتألم، لكنني لم أكن قادرة على احتضانها".
وقف إطلاق النار لا يعني نهاية المعاناة
رغم دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، فإن الأمهات الفلسطينيات في غزة لا يزلن يعشن داخل دائرة لا تنتهي من الألم والفقدان، حيث تتجدد المأساة مع كل ذكرى، وكل زاوية من المنزل المدمر، وكل سرير أطفال بات خاليًا.
تقول ياسمين بكرون (33 عامًا)، التي فقدت طفلتها الرضيعة نور جراء استنشاق الغازات السامة الناتجة عن القصف: "وقف إطلاق النار لا يزيل أثر الفقدان. لم أعد أملك شيئًا، حتى الحزن لا يوجد له مكان في خيمتنا المكتظة. لم أعد أماً، فقد فقدت طفلتي التي لم تتجاوز الثلاثة أشهر، وما زلت أعيش على أطلال الذكريات".
الآثار النفسية والاجتماعية: جيل محطم ومستقبل ضائع
يؤكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن "التبعات النفسية والاجتماعية لهذه الحرب ستكون طويلة الأمد"، إذ تعاني الأمهات الثكالى من اضطرابات ما بعد الصدمة، والقلق المزمن، والاكتئاب الحاد. كما أشار تقرير صادر عن الصليب الأحمر الدولي إلى أن 90% من النساء الفلسطينيات اللواتي فقدن أبناءهن في هذه الحرب يعانين من "اضطرابات نفسية حادة تتطلب تدخلًا عاجلًا".
ويحذر أطباء نفسيون من أن عدم تقديم الدعم النفسي المناسب لهؤلاء الأمهات قد يؤدي إلى "أزمة صحية نفسية مستدامة"، تمتد آثارها للأجيال القادمة، مما يفاقم الوضع الإنساني في غزة.
دعوات للمحاسبة والمساءلة الدولية
في ظل حجم الفظائع المرتكبة، يطالب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان المجتمع الدولي بالتحرك العاجل لضمان عدم إفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب. وجاء في بيان صادر عن المركز:
ما حدث في غزة ليس مجرد "خسائر حرب"، بل جريمة إبادة جماعية موثقة بالأدلة والشهادات. يجب تقديم المسؤولين عن هذه الفظائع إلى العدالة، وإلا فإن العالم بأسره يتحمل مسؤولية استمرارها".
كما طالب المركز بتنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية التي صدرت في نوفمبر 2024، والقاضية بإصدار مذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليين، بينهم رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع.
وفي السياق ذاته، دعا مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة، لتوثيق جميع الانتهاكات التي ارتُكبت في الحرب الأخيرة على غزة، مؤكدًا أن "العدالة المتأخرة ليست عدالة على الإطلاق".
إعادة الإعمار.. وضرورة دعم الأمهات نفسيًا واجتماعيًا
إلى جانب المساءلة، يشدد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان على أن "إعادة إعمار غزة لا ينبغي أن تقتصر على البنية التحتية، بل يجب أن تشمل دعم الأمهات الثكالى نفسيًا واجتماعيًا".
ويضيف: "يجب إنشاء برامج دعم نفسي طويلة الأمد، تشمل مراكز تأهيل نفسي، وجلسات علاجية فردية وجماعية، لمساعدة الأمهات على تجاوز الصدمة".
خاتمة: جروح لن تلتئم في غياب العدالة
في غزة، حيث تبدو الحياة مستحيلة تحت الركام، لا يزال الألم حاضرًا، يطارد الأمهات في كل زاوية، في كل سرير فارغ، وفي كل رائحة خبز كانت تجمع العائلة حول المائدة. وبينما يحاول العالم طي صفحة الحرب الأخيرة، تبقى الأمهات الفلسطينيات أسيرات الجروح المفتوحة، في انتظار عدالة قد لا تأتي أبدًا.