"بي بي سي" تخضع وتسحب فيلماً وثائقيّاً عن غزة!

الطفل عبد الله اليازوري.jpg

بثت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” وثائقياً حول البرنامج النووي الإسرائيلي بعنوان "السلاح السري لإسرائيل"، وأثار ذلك غضب المسؤولين الإسرائيليين، الذين ردوا بحظر ظهور مسؤوليهم على شاشة الـ"بي بي سي".

كان الوثائقي، حسب الإعلامي والناقد السينمائي البريطاني كريس دويل، دقيقًا للغاية، فقد شعرت إسرائيل بالحرج من كشف ترسانتها النووية، في وقت كان يتم فيه غزو العراق بحثًا عن أسلحة دمار شامل غير موجودة.

سأل دويل مسؤولاً بارزاً في "بي بي سي"، آنذاك، عن تطور العلاقات مع إسرائيل، فجاء رده، دون اكتراث واضح بالتصرفات الإسرائيلية: بالنسبة لدولة تسعى للتأثير على التغطية الإخبارية، فإن مقاطعتنا تبدو طريقة غريبة لتحقيق ذلك، ولم ترضخ "بي بي سي"، واضطرت إسرائيل إلى إنهاء مقاطعتها.

وبعد خمسة وعشرين عاماً، فقدت بي بي سي" أي قدر من الشجاعة تجاه إسرائيل، ففي الأسبوع الماضي، سحبت فيلماً وثائقياً بعنوان “غزة: كيف تنجو من منطقة حرب” من منصتها للبث عبر الإنترنت، وصرحت المؤسسة بأنها ستجري "مراجعة دقيقة" قبل السماح بإعادة عرضه.

وكان الفيلم الوثائقي قدم على مدى تسعة أشهر تصويراً لحياة غزة تحت الحصار، من خلال عيون وتجارب الأطفال الفلسطينيين.

كان الاعتراض الرئيسي هو أن "عبد الله"، الطفل الراوي الأساسي في الوثائقي، هو نجل أيمن اليازوري، نائب وزير الزراعة في حكومة غزة التي تديرها حركة حماس، ورغم أن "بي بي سي" عدّلت البرنامج للإشارة إلى هذه المعلومة، ولكن بعد ذلك أدت الاتهامات المتزايدة في النهاية إلى سحبه.

كان الهجوم هائلاً، ويبدو أنه منظم بعناية، حسب دويل، فلقد استهدفت الجموع المناهضة للفلسطينيين الرُسل بدلاً من الرسالة نفسها، وهي تكتيك متقن.

لقد أظهر كل من انتقدوا هذا الفيلم الوثائقي عدم اهتمام يُذكر بحياة الفلسطينيين وحقوقهم، بل إن كثيرين منهم كانوا من المشجعين لإبادة إسرائيل في غزة، بمن فيهم السفيرة الإسرائيلية، ممثلة الدولة التي أغلقت البث المحلي لقناة الجزيرة وتتحمل مسؤولية مقتل ما لا يقل عن 170 صحافياً وعاملاً في مجال الإعلام منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023.

السفيرة تسيبي هوتوفيلي، ادّعت أنه لا توجد أزمة إنسانية في غزة، رغم أنها كانت تحت الحصار منذ سنوات طويلة، وليس فقط آخر 500 يوم.

ويرى مراقبون محايدون، أن الفيلم كان بعيداً كل البعد عن كونه أداة دعائية لأي طرف، فلم يكن مؤيداً لحماس ولا معادياً لإسرائيل بأي شكل، أي أنه لم يكن وثائقياً سياسياً على الإطلاق.

كان انتقاد حماس في الفيلم، من قبل الفلسطينيين في غزة أمراً متكرراً، حد الانتقاد الكبير الذي طال زعيمها الراحل في غزة.

وتذكرت امرأة فلسطينية كيف احتفل الناس في السابع من أكتوبر، لكنها اعترفت قائلة: "لو كنا نعلم أن هذا سيحدث لنا، لما احتفل أحد"، أما "زكريا"، أحد الأطفال الرواة البالغ من العمر 11 عاماً، فقد ألقى باللوم على حماس أيضاً، وليس الاحتلال الإسرائيلي فقط.

كان الفيلم الوثائقي من عيار الحائز على جوائز، وهو ما انعكس في المراجعات الممتازة في صحيفة الغارديان، التي أعطته خمس نجوم، وصحيفة التايمز، التي وصفته بأنه "استثنائي"، في حين أن صحيفة التلغراف أعطته أربع نجوم، فيجب أن يكون جوهرة تاج في النظام الوثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية.

الراوي، عبد الله اليازوري البالغ من العمر 13 عاماً، طفل مستقل عبّر عن قصته الخاصة، وتجاربه اليومية وشهادته حقيقية، ولا ينبغي أن يهتم القائمون على "بي بي سي" من هو والده، يؤكد دويل، الذي يضيف: مع ذلك، فإن والده مجرد موظف في غزة، حيث يشغل منصب نائب وزير الزراعة، ولا يعتبر من قيادات الصف الأول في حماس، سواء السياسية أو العسكرية، وهي الحركة التي تُصنّف كمنظمة إرهابية محظورة في بريطانيا.

وتساءل دويل عمّا إذا كانت "بي بي سي" تواصلت مع الأطفال أصلاً بعد الحظر، "فقد كانوا يعتقدون أن قصتهم ستُعرض، لكنهم الآن لا بد أنهم يتساءلون عمّا أخطأوا فيه، ولماذا أصبحوا ضحايا لهذا الهجوم الشرس".

وتساءل مراقبون عن أسباب تدخل الحكومة البريطانية، فقد أدلت وزيرة الثقافة البريطانية ليزا ناندي بدلوها، حيث صرحت أنها ستناقش الفيلم الوثائقي مع كبار مسؤولي "بي بي سي"، ما يهدد استقلاليتها، وفق دويل وغيره، ويحمل في طياته تلميحاً عن تدخل الحكومة في وسائل الإعلام.

في بيان لها، قالت "بي بي سي": منذ بث فيلمنا الوثائقي عن غزة، أصبحت بي بي سي على علم بالروابط العائلية للراوي، وهو طفل يُدعى عبد الله، مضيفة: وعدنا جمهورنا بأعلى معايير الشفافية، ولذلك فمن الصواب أنه بناءً على هذه المعلومات الجديدة، سنضيف بعض التفاصيل الإضافية إلى الفيلم قبل إعادة بثه.. نعتذر عن إغفال تلك التفاصيل في النسخة الأصلية من الفيلم.. لا يزال الفيلم يقدم رؤية قوية من منظور الأطفال حول العواقب المدمرة للحرب في غزة، ونعتقد أنه شهادة لا تقدر بثمن على تجاربهم. لذا، يجب علينا الوفاء بالتزامنا بالشفافية.

قارن هذا الضعف الذي أظهرته "بي بي سي" عند التعامل مع إسرائيل بردّها على الجدل الذي أثاره وثائقي في العام 2023 بعنوان “الهند: سؤال مودي”، فقد استشاطت السلطات الهندية غضباً من التحقيق في دور رئيس الوزراء ناريندرا مودي في أعمال الشغب المناهضة للمسلمين في ولاية غوجارات العام 2002، وحظرت الفيلم في الهند، بل وحاولت مقاضاة "بي بي سي" أمام المحكمة العليا في دلهي، وعلى النقيض، لم تتراجع "بي بي سي" كما فعلت مع إسرائيل.

وبعد حذف الوثائقي "غزة: كيف تنجو في منطقة حرب" الذي عرض للمرة الأولى في 17 شباط الماضي، عن منصّتها الالكترونية، ندّدت 500 شخصية من أوساط التلفزيون والسينما بإلغاء برمجة الوثائقي، بينهم: لاعب كرة القدم الإنكليزي السابق غاري لينيكر، والممثل ريز أحمد.

ودانوا في رسالتهم "رقابة ذات دوافع سياسية"، معربين عن أسفهم بأن "الوثائقي عمل صحافي أساسي يقدم منظوراً نادراً جداً لتجارب عايشها اطفال فلسطينيون في ظروف لا يمكن تصورها، ويساعد في إيصال الأصوات التي غالبا ما يتم إسكاتها".

وردّا على ذلك، قالت الحملة ضد معاداة السامية إن هيئة الإذاعة أصبحت "الناطق باسم الإرهابيين ومؤيديهم"، فيما أكدت بي بي سي أنها تعمل على تحديد ما اذا كان يتوجب عليها اتخاذ أي إجراء تأديبي على خلفية الوثائقي.

وتساءل دويل: هل كانت تفكر "بي بي سي"، ولو للحظة، في إلغاء فيلم وثائقي لأن الراوي أو المصور فيه قريب لمستوطن إسرائيلي، أو جندي ربما ارتكب جرائم حرب في غزة، أو سياسي متورط في التحريض على تلك الجرائم، بل حتى على الإبادة الجماعية؟!

المصدر: وكالة قدس نت للأنباء - لندن