الكتابة عن غزة هي استمرار تأمل النزيف، ووجع الحياة الذي كُتب على هذه المنطقة ولم يُكتب على الذين من قبل، فالحرب مستمرة بكل أنواعها وأسلحتها.. توقف القتال، لكن الحرب لم تتوقف، بل حتى لم تتواضع إسرائيل التي تمارس الاغتيال بشكل شبه يومي، لكن كل الأشياء تشابهت فهي تشبه الموت.
في الحروب تفقد الحياة معناها وتتكثف آلامها ووجعها وبؤسها. وكأن غزة تخرج عن الخدمة؛ يشكو فيها الناس كل شيء ويجيء رمضان ليفتح كل الجروح دفعة واحدة، فلا طقوس، والفرح غادر شوارع مدنها مرة واحدة للأبد، فقد اقتلعته آلة الحرب العدوانية، وحين حاول الناس العودة لبيوتهم بعد توقف القتال، اكتشفوا أنه لا بيوت ولا شوارع، ولا أماكن ولا أسواق، ولا كهرباء ولا مساجد ولا رمضان، والأكثر مرارة لم يجدوا الأحبة الذين يلتفون على الموائد ليقول أحدهم: ولا موائد حتى. يا لهذا الوجع!
غزة التي لم تعرف في تاريخها بطالة الحروب تبدو كأنها تموت كبطل في الأساطير القديمة، بعد أن يشاكس كل آلهة الشرور ثم يتلقى طعنته الأخيرة نازفاً. فتلك المدينة تكفلت يوماً ما بصناعة الغد وتربية الحلم، لتجد نفسها كسيرةً أسيرةً محطمةً، تحاول رتق ما تمزق من معطف التاريخ لتصاب بجرحها العميق ولا أحد يرتق جرحها.
قالت أختي التي تعيش هناك، وقد خذلتني كلمات مواساة الفقد وصعوبة الحياة وأنا أسأل كيف يمضون يوميات رمضان: «لا تقلق علينا، فقد اعتدنا حياة العصر الحجري، لا شيء يساعدنا على تمرير يومنا، ولكن كأننا اعتدنا على حياة جدك القديم، فخمسة عشر شهراً من الحرب ونحن نازحون في الجنوب كأنها كانت تدربنا على حياة مختلفة كتلك التي عاشها أجدادنا القدماء، وهكذا تسير الحياة إلى أن يشاء الله أخذ وديعته».. هكذا تحدثت بكل القهر الذي يعتصر قلبها على ما فقدته وما تبقى من الأبناء.
كيف وصلنا لهذا؟ تلك قصة سيكتبها المؤرخون. كيف وقع الشعب الفلسطيني بين مطرقة الجهل وسندان التوحش؟ الجهل من قبلنا والوحشية ممن كان يتربص بهذا الشعب منتظراً من يطلق صافرة الإنذار دون حساب.. وقد كان.. حتى وصلنا إلى هذه المحطة الأكثر بؤساً في تاريخنا، ولم نقف على أعتاب نكبة بل بتنا في وسطها.
اليوم يجتمع «الكابينيت» الحربي الإسرائيلي لمناقشة خطة يسرائيل كاتس لتهجير سكان قطاع غزة. ووفقاً للخطة، سيتم إنشاء هيئة في الجيش تعمل على تنسيق أنشطة الوزارات و»الشاباك» والشرطة للتنسيق مع المنظمات الدولية. وستعمل تلك الهيئة على تمكين المرور الآمن للفلسطينيين عبر إسرائيل لمغادرتهم طوعاً إلى دول ثالثة، وتوفير البنية التحتية اللازمة لتسهيل خروجهم عبر البر والجو والبحر إلى الدول المستهدفة. أما لماذا تكفل الجيش بإدارة تلك الهيئة؛ فلأن عليه مسؤولية إنشاء بنية تحتية لممرات آمنة لخروج الفلسطينيين، وضمان هذا الخروج بالمعنى الأمني.
تنشر صحيفة «معاريف» ما يدعو للقلق أميركياً وسط مجموعة تسريبات تبدو مضللة عن اتصالات ومرونة أميركية مع «حماس»، أو مع الخطة العربية، «بأن الفريق الأميركي يجري محادثات مع دول عربية بهدف التوصل إلى اتفاق مع دولة أو عدة دول بشأن استيعاب سكان قطاع غزة الراغبين في الهجرة، وأن إسرائيل سترتب الخروج عن طريق البحر والجو والبر». وتشير الصحيفة إلى أن الطرفين الإسرائيلي والأميركي اتفقا على توزيع المهمة بأن الولايات المتحدة هي من يقود الخطة ويروج لها وفقاً لرؤية ترامب، وأن إسرائيل مسؤولة على أساليب تنفيذ خطة التهجير.
وفي الأساليب ما يدعو للفزع الذي يتطلب أولاً تجفيف الحياة في غزة وإعدام ممكناتها، وهي الخطوة الأولى والأساس لتحويلها إلى منطقة طاردة، وهذا ما فعلته آلة الحرب العدوانية منذ 7 تشرين الأول 2023 تنفيذاً لتوجهات سياسية كان الأمر فيها أبعد كثيراً من إطلاق سراح أسرى أو هزيمة حركة «حماس»، بل هزيمة الحياة في غزة وجعل المنطقة مجرد صحراء قاحلة يهرب منها الناس الذين يسكنون في خيام بائسة ولا يجدون ما يقتاتون به.
لم يكن كل هذا الدمار منذ بداية الحرب مجرد مصادفات. والآن يتضح لماذا تجاهل نتنياهو كل نداءات الجيش والمؤسسة الأمنية والمجتمع الدولي وإدارة بايدن بالبحث عن اليوم التالي، ليتضح أنه لا يوم تالياً بالنسبة له، منتظراً صديقه ترامب بخطة التهجير. ولم يكن أيضاً من المصادفات أن تصدر وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، بعد ستة أيام على السابع من أكتوبر، وثيقة عن التهجير كمشروع يتوج هذه الحرب.
يعني ذلك أن غزة أمامها رحلة من التجويع ومنع الإعمار، ومنع عودة الحياة، بل ينتظرها مزيد من الضغط. فمن يجد رئيساً مثل ترامب لن يفوت فرصة حسم الملف الأكثر إزعاجاً على امتداد عقود ماضية، وهنا السؤال: هل يمكن التصدي لذلك؟ وكيف؟ كان نصيب غزة من الآلام أكبر من أن يحتمل.. وكانت غزة أكبر كثيراً من أن تترك للعبث..!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت