"كنا نمشي فوق الجثث، نسمع صرخات العالقين تحت الركام، ولا نستطيع إنقاذهم"... بهذه الكلمات تروي أشواق ظاهر، 46 عامًا، قصتها المروعة في جباليا شمال غزة، خلال أشهر من الحصار والقصف والنزوح القسري. أرملة وأم لثلاثة، تعمل أخصائية اجتماعية، لكنها أصبحت هي نفسها إحدى ضحايا التهجير الجماعي الذي تعيشه غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2024.
منزلها تحت النار
تسكن أشواق في حي مجاور لمسجد التوبة بمخيم جباليا، حيث بدأ القصف يقترب تدريجيًا منذ الخامس من أكتوبر. "في البداية كنا نعيش على أمل أن يتوقف كل شيء، لكن الوضع كان يزداد خطورة كل يوم"، تقول. بحلول منتصف الشهر، أصبح القناصة الإسرائيليون يسيطرون على الشوارع، ثم بدأت قوات الاحتلال تقصف منازل المدنيين بشكل مباشر.
هروب لا يشبه الهروب
في 17 أكتوبر، اشتد القصف لدرجة أجبرت أشواق وأولادها على النزوح إلى منزل أقاربها في الشيخ زايد. "السماء كانت تمطر صواريخ فجراً. لم نعد نميز الليل من النهار". ورغم القصف، كانوا يحاولون الخروج أحياناً للحصول على الطعام من بيت لاهيا، وسط خطر دائم من القنص والاستهداف.
التهجير والإذلال
في 27 أكتوبر، دخلت القوات الإسرائيلية حي الشيخ زايد، وبدأت حملة تفتيش واعتقال واسعة، خاصة ضد الشباب. تم فصل الرجال عن النساء، وجرى تفتيش النساء بوحشية، حتى حقائبهن الخاصة كانت تُلقى على الأرض وتُفتش بحثًا عن المال أو الوثائق.
"فصلوا العائلات. اعتقلوا الشباب. رموا حقائبنا. شعرت أنني لم أعد إنسانة، بل مجرد رقم"، تقول أشواق.
ثلاثة أشهر من الحصار والمجاعة
عاشت العائلة في مدرسة مكتظة، ثم تنقلت بين مساكن غير صالحة، قبل أن تعود إلى الشيخ زايد بعد انسحاب جزئي لقوات الاحتلال في نوفمبر. لكن الوضع هناك لم يكن أفضل. "بقينا 3 أشهر نأكل مرة في اليوم. لا ماء نظيف، لا طحين، لا دواء. وكنا ننتظر خبر هدنة لن يأتي".
حياة تحت الطائرات
المنطقة كانت تحت مراقبة مستمرة من طائرات "كواد كابتر" وطائرات استطلاع "زنانة"، تُطلق النار أحياناً وتُلقي مواد حارقة أحيانًا أخرى. "كل شيء يُراقب. أي حركة، أي محاولة للبحث عن طعام أو ماء، كانت قد تؤدي إلى موتك"، تقول أشواق.
الجثث في الطرقات... والموت يتربص
مع اشتداد القصف في ديسمبر، لم يعد الموت احتمالًا، بل واقعًا يوميًا. "الكلاب كانت تنهش جثث الضحايا في الشوارع. الناس بدأوا يدفنون ذويهم في حدائق البيوت". في 15 ديسمبر، دمرت دبابات الاحتلال مدرسة مسقط، وبدأت العمليات العسكرية الكبرى في أبراج الشيخ زايد.
"كنا ننتظر دورنا في الموت. لم نعد نفكر في شيء سوى النجاة، إن أمكن".
رحلة الهروب: ستة كيلومترات من الرعب
في 23 ديسمبر، قررت أشواق الهروب مع أطفالها. حملوا رايات بيضاء، ومشوا وسط الجثث والركام لمسافة 6 كيلومترات إلى حاجز الإدارة المدنية، مرورًا بالسواتر الرملية وتحت عيون القناصة والطائرات. "كنا نحمل أطفالنا وأغراضنا، وكان كل صوت انفجار يذكرنا بأننا لسنا بأمان".
وصلوا أخيرًا إلى منطقة الدرج في مدينة غزة، بينما بقي أبناؤها الشباب محتجزين عند الحاجز، يتعرضون للإهانات والضرب والانتظار لساعات في ظروف مهينة، قبل أن يُفرج عنهم لاحقًا.
"لن نموت بصمت"
جباليا تحولت إلى مدينة أشباح، مغطاة بالركام والجثث، بلا كهرباء، ولا ماء، ولا حضور إنساني أو إعلامي. "كنا نصرخ من الألم، من الفقد، من الجوع... ولكن لم يسمعنا أحد"، تقول أشواق.
اليوم، تتحدث أشواق وهي تحاول ترميم ما تبقى من حياتها. "نعيش فقط على أمل الهدنة. على أمل أن يعود شيء مما كان. أن تبقى لنا بقايا حياة. لكن رغم كل شيء، لن يمحوا إرادتنا. لن نموت بصمت".