وسط التصعيد العسكري المستمر والأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة، يجد آلاف الفلسطينيين أنفسهم مرغمين على اتباع أنماط حياة قاسية، يأتي في مقدمتها التقشف الإجباري. هذا النمط يعني تقليص استهلاك الأساسيات اليومية، خصوصًا الماء والغذاء والطاقة، من أجل البقاء.
وقالت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، إن جميع الإمدادات الأساسية تنفد في غزة، "ما يعني أن الأطفال الرضع سيذهبون إلى النوم جائعين".
ودعت مديرة الاتصالات في "الأونروا"، جولييت توما، في بيان نشرته، اليوم السبت، إلى اتخاذ إجراءات فورية لمنع الأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة.
وشددت على أنه بعد ستة أسابيع من الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع والذي يمنع دخول المساعدات والإمدادات التجارية، فإن "المخزونات الغذائية كادت أن تختفي، والمخابز أغلقت، والجوع ينتشر".
"حساسية الهدر": الهدر أصبح جريمة شعورية
المواطن ياسر حمادة يتحدث عن تحوّل حياته اليومية إلى معركة دائمة مع التوفير، ويصف شعوره بما يسميه "حساسية الهدر"، قائلًا: "أشعر بضيق حقيقي حين أشاهد أشخاصًا يغسلون الصحون والماء يتدفق بلا توقف. أرى في ذلك إهدارًا لنعمة ثمينة، فكمية بسيطة من هذا الماء تكفي عائلة في غزة لأيام".
ياسر، الذي فقد عمله بعد تدمير محل ملابس للأطفال الذي كان مصدر دخله الوحيد، يعبر عن صدمته من مشاهد الاستهلاك المفرط للطاقة في أماكن أخرى، ويقول: "في غزة، الغاز أصبح من الكماليات. إن توفر، فسعره لا يمكن تحمله. ولهذا، يعتمد كثيرون على إشعال الحطب وبقايا الخشب للطهي، رغم كلفته ومشقته".
ويضيف ياسر أن أبسط تفاصيل الحياة لم تعد طبيعية كما كانت، مشيرًا إلى أن رؤية منازل مضاءة بالكامل تثير لديه تساؤلات: "هل جرّبوا الشعور بالعيش في الظلام؟ نحن هنا ننتظر الكهرباء كما ينتظر البعض حدثًا نادرًا، دقائق معدودة تعني لنا الكثير".
وجبة واحدة... تكفي ليومين
منذ ما يقارب ستة أسابيع، ومع استمرار الحصار وإغلاق المعابر، توقف تدفق المساعدات بشكل شبه كامل، ما دفع العائلات في غزة إلى الدخول في حالة شلل اقتصادي خانق. ومع غياب أي مصدر دخل، بات أكثر من 80% من السكان يعتمدون بشكل كامل على المساعدات الغذائية لتأمين لقمة العيش.
لم تعد الوجبة اليومية أمرًا مضمونًا، إذ تلجأ بعض الأسر إلى تقسيم وجبتها الوحيدة على يومين، بينما يعتمد البعض الآخر على "التكيات" — مطابخ خيرية تنتشر في الأحياء ومراكز الإيواء، تمدّ الناس بما تيسر من الطعام.
المواطن عبد الحليم محمود، من سكان جباليا شمال القطاع، يشارك تجربته، مؤكدًا أن ما يمر به الناس ليس مجرد ظرف عابر. يقول: "هذا ليس قلقًا مؤقتًا، بل أصبح وعينا اليومي. نحن نعرف تمامًا قيمة كل قطرة ماء، وكل لحظة كهرباء، وكل شعلة غاز. ربما لو شعر الآخرون بما نعيشه، لتغيّر تعاملهم مع كل ما يعتبرونه عاديًا".
انعدام الأمن الغذائي
وتظهر تقارير المنظمات الدولية تأثير النزاعات على سلوك المستهلكين، خاصة لدى الأسر التي لا تملك دخلًا ثابتًا. برنامج الأغذية العالمي (WFP) أوضح أن التصعيد العسكري منذ أكتوبر 2023 أدى إلى تفاقم الأوضاع، حيث يواجه أكثر من 90% من السكان انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، مما دفع البرنامج لتوسيع عملياته لتشمل مليون شخص خلال الشهرين الأخيرين.
البرنامج أشار إلى انهيار شبه كامل للقطاعات الإنتاجية والخدمات الأساسية والبنية التحتية، مما يستدعي تدخلًا عاجلًا.
السيدة إيمان يوسف، 38 عامًا، أم لتسعة أبناء، كانت تعمل في مجال الخياطة داخل أحد المصانع قبل الحرب. بعد أن فقدت عملها، أصبحت تعتمد بالكامل على المساعدات الإنسانية. تقول: "لم أعد قادرة على تأمين ثلاث وجبات يوميًا. في أفضل الأحوال أتمكن من إعداد وجبة واحدة، وأحيانًا وجبتين بصعوبة".
بعد إصابة زوجها أثناء العدوان، تحمّلت إيمان مسؤولية العائلة كاملة. تصف الوضع الحالي بأنه شلل تام في كل شيء، وتوضح أن الأسواق شبه فارغة، والدقيق شبه منعدم، والمساعدات التي كانت تسدّ بعض الاحتياجات توقفت منذ أسابيع. "التكيات الخيرية أصبحت مصدرنا الرئيسي للطعام"، تضيف.
أما المياه، فهي قصة أخرى من المعاناة. تعيش إيمان في منطقة مفترق زمو شمال قطاع غزة، وتقول إن عائلتها لا تحصل يوميًا إلا على كمية تتراوح بين 24 إلى 48 لترًا. هذه الكمية بالكاد تكفي للشرب والطبخ، مما يجبر الأسرة على التخلي عن الاستحمام لفترات طويلة. حتى غسيل الملابس أصبح مرة واحدة في الأسبوع، ما يعني أن الجميع يضطر لارتداء نفس الملابس لأيام متتالية.
95% من سكان القطاع يعتمدون على مياه غير صالحة للشرب
إحصائيات الأمم المتحدة تفيد بأن 95% من سكان القطاع يعتمدون على مياه غير صالحة للشرب، بينما تقول منظمة "أوكسفام" إن 65% من العائلات تقلل وجباتها اليومية وتعتمد على أغذية منخفضة القيمة الغذائية، مثل الخبز الجاف أو الأرز فقط.
أما تقرير اليونيسف لعام 2023، فأكد أن نصف أطفال غزة يعانون من تأخر دراسي بسبب الجوع، ونقص التغذية أدى إلى ضعف التركيز وفقدان النشاط، حسب ما ذكرت أخصائية التغذية سندس محمد. وأضافت أن معظم العائلات لم تعد قادرة على توفير المكملات الغذائية، بل تضطر للاختيار بين الدواء أو الطعام.
وأشارت محمد إلى أن آثار سوء التغذية بدأت تظهر بشكل واضح على الأطفال، ما يستدعي تدخلًا دوليًا فوريًا لتوفير الطعام والمكملات والفيتامينات، خاصة للأطفال والنساء، باعتبارهم الفئات الأكثر عرضة للخطر الصحي.
وفي مقابلات ميدانية أجرتها وكالة قدس نت، تبين أن الأسر في غزة تلجأ لبيع ممتلكاتها – من المجوهرات إلى الأثاث وحتى الوقود – لتأمين الطعام، مما يعمّق مستويات الفقر على المدى البعيد.
الأخصائي البيئي سامي حسونة، أوضح أن الفرد في مخيمات النزوح يستهلك أقل من 5 لترات يوميًا، مقارنة بـ100-200 لتر في البلدان المستقرة. ونتيجة لذلك، يعتمد السكان على مصادر غير آمنة كآبار المياه غير المراقبة أو مياه الأمطار، مما يزيد من تفشي الأمراض.
وأكد حسونة أن الظروف البيئية داخل المخيمات غير صحية، مع انتشار النفايات والحشرات، وأشار إلى أن الاستخدام المتكرر للمياه والصابون في أدنى مستوياته، مما تسبب في انتشار القمل والحساسيات الجلدية، خاصة بين النساء.
الطاقة خارج الخدمة: حتى شحن الهاتف والبطارية أصبح رفاهية
على صعيد آخر، أدى استهداف إسرائيل لمحطات الطاقة الشمسية إلى شلل شبه كامل في توليد الكهرباء بقطاع غزة. وقد كشف تقرير صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي أن قوات الاحتلال استهدفت بشكل متعمد أكثر من 4000 منزل ومنشأة مدنية مزودة بأنظمة الطاقة الشمسية، ضمن سياق حرب الإبادة الجماعية المتواصلة على القطاع منذ أكثر من 18 شهراً.
وبحسب ا البيان، فإن هذا القصف الممنهج لمصادر الطاقة البديلة يُعد جريمة إضافية تُضاف إلى سلسلة الانتهاكات التي طالت البنية التحتية المدنية الحيوية، ويعكس محاولة متعمدة لنسف ما تبقى من مقومات الحياة في قطاع يخضع لحصار خانق.
وأشار البيان إلى أن هذا النهج يتسق مع تهديدات سابقة صدرت عن مسؤولين إسرائيليين، من بينهم وزير الدفاع، الذي أعلن صراحة عزمه "تدمير جميع مصادر الطاقة في غزة، بما فيها الطاقة الشمسية"، بهدف إعادة القطاع إلى "العصور البدائية"، وهو ما يشكّل جريمة حرب موصوفة بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف.
تعتمد معظم الأسر على بدائل مثل الطاقة الشمسية أو المولدات، لكن استمرار استهداف هذه المصادر وتحويلها إلى أهداف عسكرية يجعل استخدامها محفوفًا بالمخاطر، في حين أن كلفتها العالية تضعها خارج متناول شريحة واسعة من السكان. بعض العائلات تدفع مقابل شحن البطاريات فقط لتأمين الحد الأدنى من الإضاءة، وهو أمر مرهق ماليًا وغير قابل للاستدامة.
التقشف النفسي: ضغوط تتجاوز الجوع
هذا التقشف القسري لا يقتصر على البعد الاقتصادي فقط، بل يخلّف آثارًا نفسية واجتماعية عميقة. تؤكد الأخصائية ريهام عياد أن 70% من سكان غزة يعانون من القلق والاكتئاب نتيجة الأوضاع المعيشية المتردية. وتشير إلى أن العائلات الأشد فقرًا هي الأكثر تضررًا، مطالبة بتدخل إنساني عاجل يؤمّن الحد الأدنى من الاحتياجات، إلى جانب برامج دعم نفسي تعزز الصمود المجتمعي.
واقع مفروض لا مفر منه
في غزة، لا يمثل التقشف قرارًا واعيًا أو نمط حياة اختياري. إنه نتيجة مباشرة لحرب مستمرة، وانهيار اقتصادي، وعجز سياسي. أكثر من مليونَي فلسطيني يعيشون منذ أكثر من 16 شهرًا في ظروف تزداد قسوة، بينما تبقى الحلول بعيدة، والمساعدات لا تسد الفجوة.
صمود رغم كل شيء
ورغم قتامة المشهد، ما زال سكان غزة يتمسكون بالحياة في وجه المستحيل. يبتكرون طرق البقاء، ويتقاسمون القليل، ويواجهون يومهم بشجاعة من يعيش دون ضمان للغد. الأمل لا يزال حاضرًا في التفاصيل الصغيرة: في وجبة يتم تأمينها، أو شعلة غاز تُشعل، أو ضوء خافت يبدد عتمة المساء. لكن وحدها العدالة والكرامة والحرية، هي ما يستطيع إنهاء هذا الواقع المفروض، وإعادة الحياة إلى طبيعتها.