بعد أكثر من 500 يوم من حرب الإبادة الجماعية التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، لم تعد أزمة المياه مجرد مشكلة خدماتية أو بيئية. تحولت إلى وجه آخر للمأساة، ووسيلة من وسائل القتل البطيء التي تُمارس بحق أكثر من مليوني إنسان محاصر.
الماء... من حق إنساني إلى أداة حصار
منذ اليوم الأول للحرب في أكتوبر 2023، استهدفت آلة الحرب الإسرائيلية كل ما يمس حياة الفلسطينيين في غزة: المنازل، المدارس، المستشفيات، والآن المياه. ومع تصاعد العدوان، ازدادت حدّة الأزمة. وفي 2 مارس 2025، فرض الاحتلال حصارًا كاملًا، ومنع دخول أي إمدادات إنسانية بما فيها الوقود والمعدات الخاصة بتشغيل محطات تحلية المياه. واعتبر مركز الميزان لحقوق الإنسان في تقريره الصادر هذا الشهر أن “استخدام المياه كسلاح ضد السكان المدنيين يمثل انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني، ويشكل جريمة حرب مكتملة الأركان”.
انهيار قطاع المياه بشكل شبه كامل
تعرضت البنية التحتية للمياه في غزة إلى دمار غير مسبوق. فقد تم استهداف أكثر من 1500 منشأة مائية ما بين آبار ومحطات ضخ وخزانات رئيسية، وفق ما وثّقه مركز الميزان. محطة تحلية الشمال، وهي الأكبر في القطاع، توقفت عن العمل بالكامل بعد أن قطعت سلطات الاحتلال الكهرباء وخطوط المياه المغذية من شركة "ميكوروت" الإسرائيلية، وحظرت دخول الوقود اللازم لتشغيل المولدات.
في ظل هذه الظروف، لم يتبقَ للسكان سوى الاعتماد على مياه الأمطار، أو مياه الآبار الجوفية التي تعاني من ملوحة وتلوث حاد. وتفيد بيانات الأمم المتحدة أن أكثر من 97% من المياه المتوفرة في غزة غير صالحة للاستخدام البشري.
معاناة يومية وشهادات ميدانية
في حي الشجاعية شرق غزة، يقول المواطن أحمد س. (48 عامًا):
"أطفالي ينامون عطاشى. المياه تصلنا كل خمسة أيام، وبكميات لا تكفي حتى للشرب. اضطر لشراء المياه من الصهاريج، لكن الأسعار أصبحت خيالية. حتى المياه المعبأة طعمها غريب. نحن في سباق دائم للبقاء".
أما في مخيم جباليا شمال القطاع، تروي أم محمد (39 عامًا)، نازحة وأم لخمسة أطفال:
"نغتسل بمياه البحر أحيانًا. لا توجد مياه في الملاجئ، ننتظر صهريجًا واحدًا يوميًا لآلاف الناس. حتى غسل اليدين أصبح ترفًا".
وتضيف:
"ابني أصيب بطفح جلدي والتهاب معوي. الطبيب قال إن السبب هو استخدام المياه الملوثة. لكن لا خيار أمامنا. نموت ببطء".
النساء والفتيات: الضحايا الصامتات
تتحمل النساء العبء الأكبر في إدارة شؤون المياه داخل الأسرة، ويضطر كثير منهن للوقوف في طوابير طويلة، أحيانًا لساعات، للحصول على دلو ماء. تقول إسراء (42 عامًا) من خانيونس:
"أحمل المياه على رأسي من نقطة توزيع بعيدة. أحيانًا أتعرض للمضايقة أو الخطر. ابنتي الصغيرة تتغيب عن المدرسة لأنها تعاني من التهابات جلدية بسبب قلة النظافة".
أرقام تعكس الكارثة
92,000 عائلة توقفت عن تلقي المياه بشكل منتظم.
84.6 لترًا فقط متوسط استهلاك الفرد اليومي، بينما الحد الأدنى المطلوب عالميًا هو 100 لتر. في بعض المناطق، لا يتجاوز المعدل 10 لترات يوميًا.
أكثر من 240,000 نازح يقيمون في مراكز إيواء بلا مياه كافية.
ارتفاع أسعار المياه المنقولة بالصهاريج بنسبة 300% خلال الأشهر الأخيرة.
تأثيرات صحية وبيئية خطيرة
تفيد تقارير طبية بارتفاع غير مسبوق في حالات الإسهال، الفشل الكلوي، وأمراض الجلد، خاصة بين الأطفال. وفي تقرير مشترك أصدرته وزارة الصحة في غزة بالتعاون مع منظمات أممية، تم توثيق عشرات الوفيات نتيجة استخدام المياه الملوثة، في ظل غياب القدرة على العلاج.
من جهة أخرى، أدت ملوحة المياه إلى تلف الأجهزة المنزلية، وتضرر التربة الزراعية، ما ساهم في اتساع رقعة الأراضي غير القابلة للزراعة.
الحصار يضرب جهود الصيانة والإغاثة
تعجز البلديات المحلية عن إجراء أي صيانة حقيقية لشبكات المياه، بسبب منع الاحتلال إدخال المعدات الضرورية. كما تراجعت مشاريع التحلية المركزية بسبب انقطاع الكهرباء وعدم توفر الوقود، فضلًا عن غياب التمويل الكافي.
وفي شهادة لمسؤول بلدي في مدينة غزة:
"لدينا أكثر من 200 بلاغ يومي عن أعطال في شبكة المياه. لا نملك الأدوات ولا الطواقم ولا الوقود. كل ما نستطيع فعله هو التوثيق والانتظار".
ردود أفعال وتقارير حقوقية
وصفت منظمة العفو الدولية استخدام المياه كسلاح بأنه "نمط ممنهج لإخضاع السكان المدنيين"، فيما طالبت هيومن رايتس ووتش بـ"فتح تحقيقات دولية عاجلة". وأكدت بعثة الأمم المتحدة أن “استهداف البنية التحتية للمياه يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية، ويقوّض مقومات الحياة”.
خلفية سياسية: المياه كسلاح تاريخي في الصراع
ليست هذه المرة الأولى التي تُستخدم فيها المياه كسلاح في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فمنذ العام 1967، احتكر الاحتلال الموارد المائية في الضفة وغزة، وربط أي تطور في البنية التحتية الفلسطينية بموافقاته الأمنية. لكن الجديد في هذه الحرب هو الاستخدام العلني والمباشر للمياه كوسيلة إبادة، في انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف وقرارات مجلس الأمن.
مركز الميزان يدعو إلى تحرّك دولي عاجل لإنهاء أزمة المياه في قطاع غزة
قال مركز الميزان لحقوق الإنسان إن أزمة المياه في قطاع غزة وصلت إلى مستويات كارثية تهدد حياة المدنيين، نتيجة استمرار العدوان الإسرائيلي وحصار القطاع، ما يتطلب تدخلاً دولياً فورياً لإنهاء هذه المعاناة المتفاقمة.
ودعا المركز إلى ضرورة فتح المعابر فورًا والسماح بدخول المواد الضرورية لإعادة تشغيل وتوفير خدمات المياه، بما يشمل المواد الكيميائية وقطع الغيار اللازمة لصيانة محطات التحلية وشبكات التوزيع.
وأكد المركز أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تتحمل المسؤولية القانونية الكاملة عن أزمة المياه في غزة، مطالبًا المجتمع الدولي بالضغط عليها لضمان وصول آمن وكافٍ للمساعدات الإنسانية، بما يشمل المياه والغذاء والأدوية والوقود.
وأشار إلى ضرورة تفعيل دور المؤسسات الدولية في متابعة تداعيات هذه الأزمة، والعمل على إنهاء حالة الإفلات من العقاب التي تسمح للاحتلال بمواصلة انتهاكاته بحق السكان الفلسطينيين دون محاسبة.
كما شدد المركز على أهمية وضع حد فوري للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وصولًا إلى وقف شامل لإطلاق النار، وضمان انسحاب الاحتلال من المناطق الفلسطينية، باعتبار أن استمرار الحرب هو العامل الرئيسي في تفاقم الكارثة الإنسانية، خصوصاً في ما يتعلق بالمياه والصرف الصحي.
ودعا مركز الميزان إلى العمل على إنهاء حالة الانهيار الكامل التي طالت خدمات المياه، من خلال تفعيل التقارير الدولية والأممية والحقوقية وتقديمها للهيئات القضائية، بما يسهم في وقف هذا التدهور ومعاقبة الجناة.
ويأتي هذا النداء في ظل مؤشرات واضحة على أن مئات الآلاف من سكان قطاع غزة، خصوصاً في المناطق الشمالية، لا يحصلون على الحد الأدنى من المياه الصالحة للشرب، وسط تحذيرات من أوبئة وأمراض مرتبطة بتدهور خدمات المياه والصرف الصحي.
الماء كجبهة جديدة للمقاومة
ما يجري في غزة ليس مجرد أزمة مياه، بل معركة بقاء. الماء أصبح سلاحًا، والعطش أداة تعذيب جماعي. في ظل هذا الواقع المر، تبرز الحاجة إلى تحرك دولي عاجل، لا لإغاثة غزة فقط، بل لحمايتها من الاستنزاف البطيء تحت غطاء الحرب.
إن استمرار العالم في الصمت يعني القبول بتحويل الحصار إلى سياسة إبادة جماعية. وعلى كل صاحب ضمير أن يدرك أن كل قطرة ماء تُحرم منها غزة اليوم، تعني حياة تُسلب غدًا.